ما كاد يمضي يومان على إعلان نتائج الانتخابات التشريعية، والتي تصدرها حزب العدالة والتنمية، حتى شرعت بعض الأصوات في الترويج لإمكانية عرقلة تشكيل الحكومة المقبلة على مستوى التحالفات، أو حتى لإمكانية تعيين شخص آخر لرئاسة الحكومة المقبلة من نفس الحزب عوض أمينه العام، ورئيس الحكومة المنتهية ولايتُها، عبد الإله بنكيران. الدعوة الأولى، أي عرقلة تشكيل الحكومة برفض التحالف مع الحزب الفائز، لا تستحق في تقديري الخاص أن تُناقش أصلا لأنها صبيانية إلى حد التفاهة. وهي تنطوي على خطر كبير يتجلى في فتح الباب أمام الجميع للتلاعب بمسار البلاد وإدخالها في دوامة من عدم الاستقرار المؤسساتي. أما الدعوة الثانية، أي تعيين شخص آخر رئيسا للحكومة بدل بنكيران، فهي تستند على قراءة معينة للدستور. وهي، حتى وإن كانت تساير النص الدستوري في الظاهر، تُخالف التقليد الديموقراطي المعمول به في جميع الديموقراطيات التي تعتمد مبدأ مشابها لذلك الذي يقره دستور المملكة المغربية. وتفاديا لسوء تأويل ما أذهب إليه هنا وجب التذكير أنني لا أنتمي إلى حزب العدالة والتنمية، ولا أتعاطف معه، وأنني كنت من الذين صوتوا لصالح حزب الأصالة والمعاصرة عقاباً لحزب بنكيران. بل أعترف أنني من أكثر المعادين للتوجه الذي يمثله حزب المصباح وأنني لا أطيق أسلوب بنكيران في أي شيء بدءً بالحديث وانتهاءً بالتسيير. كما أنني واحد من المتضررين من السياسة التي اتبعها طيلة السنوات الخمس الماضية والتي سيواصلها، دون شك، خلال السنوات الخمس المقبلة إنْ كُتب له أن يُكملها على رأس الحكومة المرتقبة. غير أن الأهواء شيء والسياسة شيء آخر مختلف تماما. فقد كان الأمر يتعلق بمصير بنكيران وحزبه قبل إعلان نتائج التصويت. أما بعد ذلك فالسؤال قد أضحى سؤال مصير المغرب والمغاربة، ومآل المسار الديموقراطي بأكمله. إن تعيين شخص آخر من حزب العدالة والتنمية، بدل أمينه العام، رئيسا للحكومة لا يتنافى بالتأكيد مع ظاهر النص الدستوري. ومن حق جلالة الملك تماماً أن يعين أي شخص من نفس الحزب لقيادة الحكومة المقبلة طبقا للدستور. لكن هذا لا يخدم التجربة الديموقراطية بتاتا وسيسقط الجميع في مشاكل نحن في غنى عنها. ولعل أقل ما يمكن أن يحصل في هذه الحالة هو جعلُ مهمة رئيس الحكومة المُعين صعبة وعسيرة للغاية، أو حتى أنها قد تغدو مستحيلة إذا ما انقسم الحزب ونوابه البرلمانيون بين هذا الأخير والأمين العام للحزب. أضف إلى ذلك أنها تخالف تماما روح الديموقراطية. فالمبدأ في الديموقراطية أن الأمين العام للحزب الفائز يكون قد تم انتخابُه ديموقراطياً من طرف حزبه، وأن الناخبين بإعطائهم المرتبة الأولى للحزب قد قاموا بتزكية هذا الاختيار. وعليه، فالمنهجية الديموقراطية السليمة تستوجب أن يزكي جلالة الملك اختيارات الناخبين سواء تعلق الأمر بناخبي الحزب الذين اختاروا الأمين العام أو بالمصوتين في الانتخابات العامة الذين منحوا ثقتهم للحزب. أما القراءة الحَرْفية، الظاهرية، أو السطحية بالأحرى، للدستور فهي تنتصر للنص على حساب المصالح العليا للبلاد. وبعد أن حقق المغرب والمغاربة إنجازا ديموقراطيا جديدا (رغم كل نواقصه وتعثراته) سيجد أعداء الديموقراطية وأعداء المغرب والمغاربة مَنْفَذاً للطعن في التجربة برمتها. وبدل أن نخرج جميعا منتصرين أمام العالم لنقول بأننا نسير بخطى حثيثة في اتجاه ترسيخ الاختيار الديموقراطي سنكون قد أهدينا فرصة ذهبية للأبواق المعادية في الداخل والخارج كي تردد أن سلطات الملك وصلاحياته تُستعمل في الخروج عن المنهجية الديموقراطية. وهذا لا يسيء في شيء لبنكيران، ولا لحزب العدالة والتنمية، بقدر ما هو يسيء أولاً وأخيرا إلى الملك والمؤسسة الملكية التي ستبدو وكأنها ترفض نتائج الديموقراطية، وتخرج مرة أخرى عن المنهجية الديموقراطية كما حدث سنة 2002 مع تعيين التكنوقراطي إدريس جطو وزيرا أول. وبعد أن تشبث الملك بالمنهجية الديموقراطية سنتي 2007 و 2011 سنكون قد فتحنا، مرة أخرى، ثغرة في البناء الديموقراطي يمكن أن تنفذ منها كل الممارسات السلطوية لاحقاً. نعم، من حقنا تماما أن نعارض بنكيران وحزبه وحكومته وتوجهه السياسي والأيديولوجي وحتى أسلوبه غير اللبق في الحديث. ومن حقنا أيضا أن نتخوف على مستقبل الديموقراطية من هذا المد الإخواني بما أن الإسلاميين ليسوا ديموقراطيين مهما تظاهروا بذلك. وربما قد ننفعل تحت تأثير النتيجة التي جاءت مخالفة لما كنا ننتظره. لكن كل هذا لا يعني تحويل خلافاتنا مع هؤلاء الإسلاميين إلى طرق ملتوية للالتفاف على الخيار الديموقراطي. وحتى إذا كان ما يقوله البعض صحيحا، وكان بنكيران وحزبه وحركته الدعوية، بالفعل، مُعادين للملكية ويتآمرون مع جهات خارجية للإطاحة بالنظام الملكي كما زعم ذلك الزعيم الدموي عبد الكريم مطيع، فعلى النيابة العامة والأجهزة الأمنية أن تقوم بمهامها وأن تثبت ذلك بالأدلة وأن يأخذ القانون والعدالة مجراهُما في حق كل مَنْ ثبت أنه يتواطأ ضد البلاد ومؤسساتها. أما التشبث بالقراءة الحرفية، الضيقة، للدستور من أجل افتعال مشاكل جانبية فهو لا يخدم البلاد ولا العباد ولا المسار الديموقراطي. وما على مَنْ يريد الإطاحة ببنكيران وحزبه إلا أن يفعل ذلك عبر صناديق الاقتراع. وحتى إشعار آخر، فعبد الإله بنكيران مواطنٌ مغربي اختاره حزبُه أميناً عاما، وحزبُ العدالة والتنمية حزبٌ مغربي مشروع فاز بالانتخابات التشريعية. والمُنتظر الآن هو الارتقاء فوق الأهواء، وتغليب المصلحة الوطنية العليا، والعمل على ترسيخ الخيار الديموقراطي أكثر. ومع أن التوقع في السياسة المغربية يبقى محفوفاً بمخاطر الانزلاق فلا يُمكن أن ننتظر من جلالة الملك منطقيا، وبحكم الحس الديموقراطي الرفيع لجلالته، إلا أن يكون أكثر المغاربة حرصاً على تدعيم المشروع الديموقراطي الحداثي الذي اختاره للمغرب والمغاربة ويتولى قيادته منذ سبعة عشر عاماً. ستمضي الحكومات، والانتخابات، وتبقى الديموقراطية.