تمر الشراكة بين المغرب وفرنسا بمرحلة خاصة تعززها دينامية التحولات التي يعرفها كل من البلدين، وتشمل أيضا محيطهما الإقليمي والدولي. وإذا كان هذا المعطى قد أدى إلى بروز واقع جديد في مجتمعات البلدين واقتصادهما، فإنه يحفز الفاعلين الممسكين بخيوط هذه الشراكة على تغيير رؤيتهم وإعادة النظر في المقاربة التي يعتمدونها بهدف تحديد أولويات جديدة. انطلاقا من الوعي بهذه الدينامية الشاملة، يتعين استحضار أربع خلاصات لتطوير آفاق الشراكة بين المغرب وفرنسا. أولاها كون هذين البلدين أرسيا أسس نموذج للتعاون يحتذى به من حيث متانة الصداقة وحسن العلاقات، يغذيه التاريخ والقرب الجغرافي والتدبير الذكي المتبصر للنزاعات الطارئة، وإن كانا لا يستثمران كما يجب آفاق التعاون التي يتيحها هذا النموذج. وتنطوي الشراكة بين البلدين على إمكانات هائلة؛ إما أنها لا تستغل بما فيه الكفاية، أو أنها لا تحظى بالتثمين اللازم أو أن استكشاف ممكناتها لم يتم بعد في العديد من الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والطاقية والأمنية. ثانيتهما أن المجموعات الاقتصادية الكبرى المغربية والفرنسية متقدمة في مجال التعاون على الفاعلين السياسيين على الأقل بعشر سنوات، إذ إنها أفلحت في خلق تحالفات إستراتيجية بينها تمكنها من العمل المشترك في مختلف مجالات الإنتاج والنشاط البنكي والمالية والتجارة، وخاصة في إفريقيا. وعلى هذا المستوى أيضا، يتولد الانطباع أن الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين يمضيان في خطين متوازين، كما لو أن هناك قطيعة تامة بين صانعي القرار والمقاولات. وينعكس هذا التنافر بين المجالين على تحقيق الطموح المشترك لكل من المغرب وفرنسا في تثبيت أقدامهما في العالم، خاصة في القارة السمراء. ثالثهما تتمثل في وجود رؤية جيو-إستراتيجية وجيو-اقتصادية للشراكة لا تستجيب لمستلزمات وضعية جديدة كل الجدة، سواء على مستوى كل بلد من البلدين على حدة، أو على الصعيد الإقليمي والدولي. ففي العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، انخرط المغرب في مجموعة من الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، قبل ظهور ما يطلق عليه اسم "الربيع العربي" بفترة طويلة، عرف خلالها مساره التنموي انعطافة حقيقية نحو مزيد من الديمقراطية والتقدم. وإن أبرز ما استطاع أن ينجزه في هذا الصدد، بقدرة متناهية قل نظيرها على الصعيد الإقليمي بل وحتى الدولي، ألا وهو تحقيق معادلة دقيقة تتجلى في التوفيق بين مرتكزات الملكية والديمقراطية والإسلام والحداثة. وعلاوة على ذلك، فقد تبوأ المغرب مكانة الريادة على المستوى الإقليمي، باعتراف كل القوى الوازنة وذات المصداقية في المجتمع الدولي؛ وذلك بفضل ما ينعم به من استقرار، وكذا بفعل الأوراش العديدة الاقتصادية المهيكلة التي أطلقها، وقدراته العسكرية المسنودة بجيش عالي الاحترافية، وإستراتيجيته الأمنية، ونظامه في تأمين اليقظة في مجال الاستخبارات ورصد المخاطر، وتعاونه الوثيق مع المنظومة الأممية لحفظ السلام فضلا عن المبادرات ذات الأبعاد الإنسانية التضامنية، خاصة صوب القارة الإفريقية. وتكمن الخلاصة الرابعة أخيرا في بروز وتطور جيل جديد من الحروب يخلق وضعية إقليمية ودولية تؤثر حتما في العلاقات بين المغرب وفرنسا، وتجعلها تتغير بوتيرة سريعة. ومن أبرز مظاهرها انعدام الاستقرار الذي طال كل الميادين بفعل اندلاع الثورات وحركات التمرد واحتداد التوترات التي تهز الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط وإفريقيا. أضف إلى ذلك واقع أمني جديد إقليمي وعالمي يطبعه استفحال خطر الإرهاب، وتطور نوع جديد من حروب القيم هي أقرب إلى حروب الحضارات والديانات. وقد نتج عن هذا المناخ العام أيضا أزمة هيكلية للنماذج التنموية التي سادت طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، أضعفت أسس الاقتصاديات وخلخلت التماسك الاجتماعي في المنطقة، مع ما ينجم عن ذلك من استفحال ظاهرة البطالة، وخاصة في صفوف الشباب والنساء، وتفاقم التفاوت الاجتماعي والترابي وبين الجنسين، وبروز جيل جديد من الفقر والفقراء وأشكال غير مسبوقة من العنف الاجتماعي، وتطور اقتصاد الجريمة والأنشطة غير المشروعة، واتساع دائرة الاقتصاد غير المهيكل وتزايد موجات الهجرة الداخلية والدولية. وهذه الخلاصات الأربع يمكن أن نستفيد منها أمرين لا يخلوان من أهمية بالغة؛ فمن جهة أولى، نجد أن المجتمعين المغربي والفرنسي يتساءلان اليوم عن مستقبلهما. ومن جهة ثانية، فإن الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والسياسيين يتساءلون بدورهم عن المضمون الذي ينبغي أن يعطوه مستقبلا للشراكة بين المغرب وفرنسا كي تستجيب لخصوصيات الواقع الجديد المتولد عن ظرفية عالمية تغيرت طبيعتها ومعالمها جذريا وكليا. انطلاقا من هذه الاعتبارات، يبدو أن هناك ثلاثة أنواع من الحاجيات التي تفرض نفسها على صعيد البلدين معا: 1. تضافر مجموعة من المؤشرات في مجتمع البلدين واقتصادهما تبرز الحاجة إلى إنتاج عرض جديد في المجال السياسي وعلى مستوى الشراكة؛ 2. بروز حاجة إلى أن يدرك البلدين نوعية التحولات التي يعرفها حاليا المجتمعان المغربي والفرنسي وما ينتج عن ذلك من تحديات ورهانات؛ 3. وهناك أخيرا الحاجة إلى رؤية جيو-إستراتيجية جديدة للتعاون بين البلدين تتجاوز الإطار الثنائي لتتجه بتبات وجرأة وحزم نحو خلق محور مستقبلي يضم المغرب وفرنسا في قلب منطقة كبرى تشمل إفريقيا والعالم العربي وأوربا. لهذه الأسباب مجتمعة، يتعين تغيير الرؤية التي توجه الشراكة بين المغرب وفرنسا، وإعادة النظر في المقاربة المعتمدة مع وتحديد أولويات جديدة. وبالتالي، فإن رسم أفق يحتضن ممكنات هذه الشراكة ويتيح امتدادها وغناها أمر ضروري، انطلاقا من منهجية تقوم على استثمار الكفاءات والمهارات في البلدين لإنجاز تشخيص مشترك للوضعية الجيو-إستراتيجية للمنطقة، وعلى تدبير تشاوري للتحديات التي تطرحها الشراكة، مع العمل على التحكم في المخاطر المشتركة، واستغلال الفرص الجديدة التي تتيحها فيما يخدم مصلحة البلدين، وإحداث بنية مشتركة لليقظة الإستراتيجية لضمان نجاح الشراكة الجديدة، وتعبئة كفاءات فاعلي البلدين لتقويتها، وكذا العمل سويا لإنشاء مناطق مشتركة للتعاون سواء في أفريقيا أو العالم العربي أو في مناطق أخرى من العالم. بيد أن هذا الأفق الواعد لا يتطلب فقط تغييرات جذرية للرؤية؛ بل قطيعة تامة مع المقاربة المعمول بها حتى الآن، وبالتالي مع المبادئ المتحكمة حاليا في الشراكة بين البلدين. *أستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط