منذ أن ثار الغرب على الكنيسة اتجهت مجتمعاته إلى تبني العلمانية كحل وجودي لأن الدين كان لهم مصدر فرقة و توتر مجتمعي وكان يكبح التيارات التنويرية التي كانت ترى الكنيسة متوغلة في استعباد الشعوب بإسم الدين ، هكذا عمل الغرب على بناء عقل جديد يسعى به إلى تبني فلسفة مجتمعية قائمة على العلم كمصدر يخدم سعادتهم المادية وهكذا أصبحت العلمانية لها مكانة مهمة في منظومة القيم و أصبحت فلسفة تصاغ بها القوانين المنظمة للحياة المجتمعية بجميع عناصرها السياسية والاقتصادية و الاجتماعية ، على عكس الشرق الذي تبنى رسالة الإسلام بعد هبوط الوحي المعلوم كحل وجودي ينظم العلاقات مع مكوناته و علاقة مكوناته مع الله على مستوى جميع المؤسسات المجتمعية ابتداء من العائلة و انتهاء بالدولة، هذا التبني صار متغلغلا في عقيدته وأصبح العقل المسلم عقل يرفض العلمانية كنموذج وجودي للمجتمعات، خصوصا بعد العدوان الحضاري للغرب على الشرق الذي أخذ يتوسع بعيد الثورات التي أسقطت الأنظمة الإقطاعية المستبدة بدياره ، حيث أن العلمانية بالرغم من تعاطف بعض من النخب المثقفة في العالم الإسلامي معها و التي تأثرت بها كفلسفة بحجة أنها هي سبب تقدم الغرب فهي تُستقبل بالمقاومة خصوصا على المستوى الشعبي، فمن خلال حملاته الإمبريالية أراد الغرب أن يفرض هذا العقل الجديد ولأن الإسلام يحترم الفطرة لم يجد عبر المراجع العلمية التي كوَّنها أي مدخل عقائدي لهذا التنميط، ونرى من خلال هذا الواقع العابر للتاريخ أن العلمانية كظاهرة هي عامل انفصال إيجابي حينما يكون المعتقد فاسد لدى الشعوب و سلبي حين يكون هذا المعتقد منسجما مع الحقيقة، ولا يمكن أن نرى هذا الأمر جليا إلا حينما يكون العقل محايد يبني عقلنة سلوكه على قواعد وبراهين علمية، هكذا فالعلمانية عند الغرب تعد راحة حضارية تسمح له بتأمل الوجود على مستوى المنظومة العلمية و تمنح الأفراد والمؤسسات داخل مجتمعاته الحرية في اختيار المعتقد والسلوك المنبثق عنه دون إكراه، غير أن من سلبياتها في العصر الحالي تمكين الأفراد في الخوض حتى في الفطرة الإنسانية وما يليها من انعكاسات على العقل البشري، وعلى المستوى السياسي تفضي إلى تطويع حكومات الشرق بسبب ضعف قوتها العسكرية مما يسبب امتعاض جماعات تقرأ الواقع بشكل متطرف الشيء الذي أدى إلى ظهور تيارات متشددة مرد فلسفتها أن لكل مقام مقال، ونورد هنا نظرية صناعة الأحداث التي ربما تقف وراءها لوبيات كونية تكون موازية مع نشأة هاته الجماعات المتطرفة وربما تؤجج التوتر أو تصنعه حين يختفي، هذا الذي أدى إلى ظهور الاسلام السياسي الذي يريد أن يرد الشرق إلى النموذج الاسلامي القديم وبكافة الوسائل حتى و إن اقتضى الأمر التضحية بالمبادئ الإنسانية، الشيء الذي أدى إلى ظهور ردود أفعال مؤسساتية للغرب وخصوصا المؤسسة السياسية في شقها العسكري و الإعلامي لتسويق خطاب يعمل على تحرير الشرق من النموذج الفكري المتشدد لأنه يهدد هاته الراحة الحضارية التي ينعم بها الغرب في منأى عن الدين المستبد بالسياسة ويهدد أيضا اعتدالية ووسطية الشرق في تناولها للدين السياسي على المستوى الرسمي، إذا و لكي يختفي هذا التيار المتشدد يجب أن يكون التجاذب السياسي والاقتصادي والاجتماعي بين الشرق والغرب بناء وليس هداما محترما للمراجع، وأن يكون الحوار مسالما و حوار عقول يرفض الإكراه ويعتمد الحجة والبرهان العلميين لا حوار الدم الذي جوهره هو تصفية الشعوب والأعراق، لأن في آخر المطاف الحقيقة لا تعتنق بالأذى. هذا التجاذب بين الشرق والغرب يرتكز حول خمسة مبادئ-مفاتيح، المبدأ الأول هو التشارك في بناء المعرفة التي تبني التقدم الحضاري ، هذا التشارك يسمح بتكوين أنساق علمية تنتج ثقافات تقضي على الاضطراب الحضاري وتكون سببا في إرساء تقدم نحو السلام، لأنه إذا حضرت المعرفة تظهر عوامل الإبداع والإنشاء و تصبح الحياة مفهومة بعمق وتغدو الشعوب مالكة لمشروع تقدمي يفضي إلى الازدهار، يليه المبدأ الثاني وهو حرية الإعتقاد فالجبرية لا تصنع إلا مزيدا من الرفض والتعصب والفراغ الوجودي و التوتر في جميع الفضاءات العامة و الخاصة النظامية واللانظامية، هاته الحرية في المعتقد تسمح للشعوب بإتخاذ القرارات دون قيود غير أنها لا يجب أن تلمس قيمة السلام وإلا صارت مصدرا للعداء، وبالتالي فهذا المبدأ يكرس لعدم التبعية لإرادة الغير و يضمن الهدوء والاستقرار على المدى الطويل بين الشرق والغرب، ثم يأتي المبدأ الثالث و هو السلوك الحر الذي هو نتاج بناء المعرفة و المعتقد و الذي يجب أن يحترم دوائر الحرية الأخرى التي هو معها في تماس أو لا، و أن يكون عقلانيا منسجما مع الحقائق والبراهين العلمية وإلا فإنه سيضر بالإنسانية، لهذا فالقرار إن كان غير حر قد يخلق تناقضا بين القوانين الموضوعة وأنساق القيم التي تتبناها الشعوب حتى إن هذا قد يفضي إلى تشنجات وجودية يكثر بسببها العداء داخل الشعوب وبين الشعوب، ثم يأتي المبدأ الرابع وهو التكافل الحضاري الذي يسمح باستغلال الثروات بتوزان عن طريق القضاء على البؤس والتخلف وجنون التملك، هذا التكافل يسمح بدفع الأضرار المادية والمعنوية عن الشعوب فلا يكون هناك تفاوت بين الشرق والغرب على جميع المستويات وتصبح خريطة الفعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي متوازنة في توزيع الأدوار الشيء الذي يسمح بتأسيس صرح لإنسانيةٍ سمحاء، ثم المبدأ الأخير وهو محاربة الجنوح عن الحقيقة على مستوى الدول والأسر عن طريق التنوير من طرف النخب المرشدة و إعادة التأطير على مستوى الأنساق المعرفية وعن طريق الزجر الإيجابي على مستوى أنساق العدالة الوطنية والدولية حين يقتضي الأمر ذلك، وذلك للقضاء على ظواهر الاستعلاء كالتعصب للذوات و للأعراق والطوائف. هاته المبادئ- المفاتيح إن احترمت تسمح بتجاذب بين الشرق والغرب سليم من الاضطراب طويل الأمد، تأتي الآن إشكالية تنزيل هذه المبادئ في أرض الواقع، هذا التنزيل يكون عبر ثالوث الكيفية النموذجي، ركنه الأول يتمحور حول تكوين أنساق تعليمية تؤسس لتجاذب بناء من أجل نقل المعرفة والمعلومة، هاته الأنساق يجب أن تكون معدة حسب الخصوصيات الثقافية لكل دولة وان تنهل من منظومة القيم الإنسانية الكونية المنسجمة مع الحقيقة، هذا التنزيل يكون أيضا عبر ركن ثان صياغة حكيمة لسياسات الحكومات وتنفيذها عبر مخططات عمل أفقية على مستوى جميع القطاعات وعمودية من الأسرة وحتى الدولة، ترنوا إلى تثبيت دعائم التعاون شرق-غرب على مستوى الدولة والاقتصاد والمجتمع المدني وتصبوا إلى تحقيق العدل والازدهار و السلام الكوني، ثم حين يتم نقل المعرفة وتصاغ هاته المعرفة على شكل سياسات حكيمة يجب التكريس لإرساء ثقافات تشجع على التسامح والتعايش و التضامن بين الشعوب وهذا هو الركن الثالث، هنا يكون التفاعل الحضاري بين الشرق والغرب يجني ثمار المعرفة وبلورة السياسات الحكومية، هاته الثقافات تسمح بخلق فلسفة كونية تسمح بالتذوق المتميز للعلوم الإنسانية و للمنظومات الأخلاقية، الشيء الذي يسمح بنمط متكامل من المعرفة البشرية، والاعتقاد، والسلوك الذي يعتمد على القدرة على التفكير الرمزي وفق اتجاهات مشتركة تحترم القيم النبيلة والأهداف التقدمية ، وهكذا تبلور هاته الثقافات على شكل ممارسات تنطلق من الأسرة وتسري على باقي مكونات المجتمع لا تقصي الآخر بل ترى فيه فرصة لإنجاح مشروع التضامن بين الشعوب والعيش في وئام. وبالتالي فالتجاذب بين الشرق و الغرب الذي يحترم المبادئ-المفاتيح الخمسة والذي ينسجم مع ثالوث الكيفية النموذجي لا ينجم عنه إلا توافق كوني عام، و يتم هذا الأخير عبر إنشاء تشابك نسقي دولي يذهب بالإنسانية إلى التعايش الذي يخدم جنس الإنسان وذاك وفق خمس توافقات جزئية نمطية، أولها توافق علمي يسمح بالتبادلات والتعاون المباشر بين مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر لتبادل الخبرات والمعلومات عبر التنظيم المشترك للمؤتمرات والندوات و تيسير حركية الباحثين و التعبئة المشتركة للموارد و إحداث مرافق تعليمية وبحثية وطنية و دولية متعددة المشارب تعمل على الرقي بالعلاقات بين الشرق و الغرب وخصوصا على مستوى تكوين الفهوم لتكريس الميول السلوكي نحو القيم النبيلة وخصوصا قيمة السلام و القضاء على الجنوح عن الحقيقة بالتنوير والخطاب العلمي السمح ، ثم يليها التوافق المؤسساتي بين المؤسسات التي تدبر الشأن العام الدولي والوطني من حكومات ومنظمات دولية ووطنية، هذا التوافق يسمح بتعبيد الطريق نحو القضاء على الاضطرابات والتوترات بين الشرق والغرب عن طريق سياسات تضمن الاحترام المتبادل بين الشعوب ، و يكرس للثّقة المتبادلة عبر توفير المعلومة والموارد والكفاءات لمنع الفوضى في العالم ، وذلك عبر عقد اتفاقيات ومعاهدات تسمح بتأطير السلوك السياسي في العالم ليسمو بالإنسانية إلى إنشاء أنظمة سياسية منسجمة مع تراكم المعرفة التي تسعى إلى تخليق الحياة العامة عبر الحكامة الجيدة وإرساء قواعد الديموقراطية التشاركية والعدالة الاجتماعية، ثم يأتي التوافق البيئي الذي يضمن سلامة الأنساق البيئية في الشرق والغرب والذي يكرس لتنميط سلوك بيئي عبر الأنساق التعليمية و القانونية و الإعلامية في أفق حيازة كفاءة بيئية ، وذلك بمراقبة أنماط إنتاج المكونات السامة كالرصاص والبنزين، و باستعمال مصادر بديلة للطاقة لكي نخفف من درجة حرارة الأرض، واستشراف تدبير ندرة المياه على كوكب الأرض عبر تكريس سياسة السدود وتحلية مياه البحر و تغذية و حماية الفرشات المائية، وغير ذلك من التدابير التي تجعل تجاذب شعوب الشرق والغرب في وئام مع الطبيعة ، ثم يليه التوافق الاقتصادي الذي يسمح بتوزيع الثروات بتوازن لكي يقضى على الفقر والبؤس والهشاشة و التهميش و لكي تكون كلفة الحياة قريبة أو معادلة لمتوسط الدخل الفردي ويكون التبادل التجاري يغطي النقص في الحاجيات عند كلا الطرفين ، هذا التوافق يجزأ بدوره أفقيا حسب القطاعات وعموديا حسب سلسلة الإنتاج، فنحصل على نسيج شبكي من التوافقات الاقتصادية الجزئية تسمح في العمق عبر نقل المعرفة الاقتصادية الخاصة بكل منتوج في تقوية الخبرة وفي التضامن الاقتصادي البيني المتبادل، هذا الأخير سيُنَشِّطُ الحركة التجارية ويجفف منابع الاضطراب الحضاري الذي يكون بسبب التخلف الاقتصادي الذي يتخذ من عدم توزيع الثروات بشكل متوازن سببا لوجوده، والتوافق الجزئي الأخير هو التوافق الثقافي الذي يبصم الحضارات الكونية، فمعروف في البشر اختلافُ أذواقهم وقناعاتهم و اختلافُ الألوان يعطي جمالا للصُّورة التي هي الإنسانية، لهذا فالتوافق الثقافي يسمح بتلاقح الحضارات لأن في نهاية المطاف الحقائق الأخلاقية صامدة وتوارثتها الإنسانية جيلا عبر جيل عن طريق الرسل و الأنبياء (ع) والحكماء والفلاسفة والعلماء المتنورين، لذلك فاختلافُ الثقافات ليس اختلافَ تفاضُلٍ وتمايُزٍ بين الأعراق والطبقات، فكل شعب هو مسخر ليلعب دورا وظيفيا معينا على أرض هذا الكوكب، وإنما هو اختلاف يسمح بالمقارعة التي تمكن شعوب الشرق و الغرب من رؤية العلاقات خارج إطار الروتين التاريخي الجامد أي أن لا تكون حبيسة التاريخ وأن تكون عبارة عن تنزيل يلائم الواقع المعاش، ولأن المعتقد الديني هو يشكل خلفية لكل ثقافة فيجب أن يكون حوار الأديان هو أيضا من صلب هذا التوافق الثقافي لأن الإكراهَ لا يُمَلِّكُ الْمُكْرِهَ قَلْبَ الْمُكْرَهِ وبالتالي فالمعتقد عليه أن يتكون بطريقة إرادية ودون أن يضر بوجود النفس أو الآخر ، وبجانب هذا فكلنا ندرك أن الإنسان يبحث عن الجمال في كل شيء لهذا فالفن هو بوتقة لهذا التوافق الثقافي وجسر إلى تذوق جمال الكينونة المادية و المعنوية ومجال لاستنطاق الذات للتعبير عن النفس والمحيط من خلال الفنون التشكيلية و الصوتية و الحركية، وتلعب اللغة دورا مهما في إنجاح هذا التوافق لأنها تُعبِّرُ عن الذات وتسمح بتجاذب فعال عبر تبادل المعاني التي هي فريدة في الأصل ولا تتغير، مما يسمح بفهم السلوكات وفهم الظواهر الماضية و الآنية و المستشرفة، ولذلك فالاهتمام باللغة يسمح بمسايرة متبادلة بين الشرق والغرب لأن الثقافات هي في تغيير متسارع، هذا التوافق الثقافي يصنع غنى حضاريا يسمح بتحقيق قدر من التنمية العقلية والروحية للإنسان والتوصل إلى حياة يطبعها رخاء حضاري وفق قيم عليا يجعل الإنسان مصدر سعادة لنفسه وللغير. وهنا يجب تحصيل جوهر مهم هو أن هذا التجاذب بين الشرق والغرب لا يجب أن يغذي الأنا وإنما منطلقه يكون مِمَّا ترتضيه الحقيقة كصرح أزلي عابر للزمن، ولن نصل لهاته الحقيقة إلا بالحوار العلمي والسمح في ظل السلام لأن العداء بين بني الإنسان لا يضر إلا نوع الإنسان أولا ثم محيطه ، ولا يولد إلا الكراهية وعماء الكينونة عن الأخوة الإنسانية.