المقالات الأخيرة حول الفقهاء والمفتين ، وحول الفتوى والإفتاء،كانت فرصة كي أقف على كثير من الحقائق.لا أقول : إنني كنت أجهلها أو أنكرها .ولكن هناك درجات من الحدة في الردود ،حقيقة لم أتوقعها ، وهناك غضب لم أتنبأ به حتى في أكثر التوقعات تشاؤما . وهناك تحامل أيضا واستفزاز وغضب ... وكثير من الانفعال. بالمقابل ، هناك من أعجبه هذا الطرح الجريء أو الجديد.فوافق على جل ما كتبته،وشجعني على الاستمرار والمواصلة.فإن لم يكن بوسعي،وبوسع من يتبنون نفس وجهة نظري، الإقناع بمضمون هذه الأفكار، فلا أقل من رمي حجر صغير في الماء الراكد، ودعوة الآخرين أن يعيدوا النظر في قناعاتهم . وسيكون لي شرف كبير أن يتململ بعض الناس، ولو بمقدار نصف متر عن موقعهم الذي تخندقوا فيه ( قناعة أو تقليدا أو إيمانا يقينيا ) مدة من الزمن، هي في عمر الفرد، ليست بالقصيرة. ولا بأس من التذكير بداية ، أن المسألة ليست معركة لا بد أن يكون في نهايتها منتصر ومنهزم.فالأصل في الأفكار أنها تتلاقح وتتعايش وتتحاور.وكل فكر هدفه إلغاء الآخر لا يحمل من الفكر إلا إسمه.لأن الإلغاء ليس سطرا، وليس حتى كلمة، في قاموس الفكر الحر، وشرعة المفكرين المتنورين.فكيف إذا كان هذا الفكر مبنيا على أسس من الإسلام الذي يدعو إلى التحاور والجدال بالتي هي أحسن والتعارف والتعايش،مهما تكن الخلافات الفكرية ووجهات النظر المعرفية ؟. نعم، ربما قسوت في خطابي ضد الفقهاء ، وأنا لم أقصد بتاتا الفقهاء بشكل عام ولن أقصدهم .ولذلك حرصت على وضع الكلمة بين قوسين ،كي أقول بكل وضوح، أنهم ثلة فقط من '' الفقهاء '' الذين لا هم لهم إلا الخوض في الأمور التافهة ،والإفتاء في الافتراضات والنوازل المحتملة ، ربما الآن أو بعد ألف عام !.وحتى هؤلاء، لم يكن الهدف النيل من أشخاصهم أو الحط من قدرهم.... أبدا،بل الهدف هو مواجهة نوع من الفكر الغريب على روح ديننا، بالحجة وبالرجوع إلى القرآن ،وبالنظر في كل الأمور نظرة عقلية ثاقبة.دون الحجر على عقول الآخرين.أو فرض وجهة نظر معينة عليهم. أستسمح القاريء كي أروي له قصة،يعذرني إن لم أقف لها على مصدر الآن، يقال : أن الإمام الحسن البصري كان يصلي الجمعة.وابتلي بخطيب ثرثار يقول ما لا يعي .وكم في زماننا من أمثال هؤلاء !.ولم يطق الإمام صبرا،فالتفت للذي بجانبه،وقال له : '' أُلْغ ُ فإن الإمام يلغو ! '' .علما أن من لغا فلا جمعة له ،لكن ما العمل إذا كان إمام القوم هو من يلغو ؟ . ولا أورد هذه القصة للاقتداء، ولكن فقط للاعتبار.حتى لا يتقول علينا آخرون.فنفتح باباً لكثرة اللغو والجدال العقيم. ومرة أخرى،يجدر التنبيه إلى أن الأفكار التي أود طرحها في هذه المقالة،ليست من باب التوجيه أو التعليم والتعالم،ولا هي من الإبداع الخارق.فقط هي محطات ،ومن داخل كتاب الله الكريم،أود أن نقف عندها وقفة المتأمل المعتبر. لأن حواراتنا ومقالاتنا وكتاباتنا ، لا بد أن تنضبط لقيم الحوار ومباديء الجدال بالتي هي أحسن مع احترام الآخر وتقدير وجهة نظره. وإن كان من إضافة،فهي إشارة سريعة إلى كون كثير مما يكتب على صفحات هذا الموقع ،هو يمثل جزءا من إنتاج '' العقل المغربي'' هذا العقل المتفتح المتسامح ، والذي له إبداعاته ورموزه في الماضي والحاضر، وها نحن نربط صلته بالمستقبل.فلا يعقل أن ننزل إلى مستويات من التخاطب ليست من الحوار في شيء . ولا يشرفنا في شيء أن نكون مثالا سيئا للحوار والنقاش ،ونحن نزعم أننا '' نخبة'' أو مبلغون عن هذه النخبة.فإلى بعض ''الفتاوى'' التي من شأنها أن تصلح المسيرة نحو الأفضل. أولا : الوضع الصفر في الحوار حسب منهج القرآن صعبٌ جدا أن يفرغ المرء نفسه من كل ميولاته وأحاسيسه وعواطفه، وليس أقلَّ منه صعوبة أن يخلي أيضا عقله وفكره ،من قناعاته و أفكاره الراسخة ،وآرائه الثابتة .وبعد ذلك يدخل ،مجردا من كل عناصر قوته في حوار متكافيء مع الخصم أو العدو أو المخالف .ومع ذلك ، هناك توجيه فريد في القرآن الكريم يدعو المؤمنين به إلى امتثال هذه الحالة القصوى في التجرد والانحياز إلى الحقيقة فقط .أعتقد أن منتهى ما قد يحلم به دعاة حرية الرأي ،يكمن نصيب كبير منه في هذا التوجيه الإلهي. يقول الله عز وجل : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [سبأ: 24- 26]. وأريدك أخي القاريء أن تتذوق هذه المعاني أولا بنفسك ،وأكيد أنك واصل بتدبرك وفهمك إلى كثير من مراد الله لعباده.فالقرآن خطاب إلى كل الناس ،في كل زمان ومكان، ومن كل الثقافات والمرجعيات.لأنه وحده كتاب الله ''المنزّل'' .ولنا عودة إلى دلالة هذه الكلمة مستقبلا. أم الآن فأدعوك،بعد التدبر إلى تفيؤ ظلال هذه الآيات مع سيد قطب،لأن في الأمر فعلا ، حلاوة وطلاوة وما شئت من المعاني والظلال. يقول سيد قطب معقبا: (وهذه غاية النصفة والاعتدال والأدب في الجدال. أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين: إن أحدنا لا بد أن يكون على هدى، والآخر لا بد أن يكون على ضلال. ثم يدع تحديد المهتدي منهما والضال. ليثير التدبر والتفكر في هدوء لا تغشى عليه العزة بالإثم، والرغبة في الجدال والمحال! فإنما هو هادٍ ومعلم، يبتغي هداهم وإرشادهم لا إذلالهم وإفحامهم، لمجرد الإذلال والإفحام! ) لم يكن هذا كلاما وعظيا عند من يتدبرون القرآن، ويؤمنون أنه منهج سلوك ومعاملات،وليس فقط الوعظ والإرشاد.وبعدها يفعل كل واحد ما بدا له صوابا .إن أول تطبيق لهذا المضمون ،كان يوم صلح الحديبية عند كتابة عقد الهدنة.حيث تروي كتب السيرة هذا المشهد ( التطبيق العملي في مختبر أشبه ما يكون بأرض معركة،حتى والهدف هو الصلح ): فلما اتفقا دعا علي بن أبي طالب فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: أما الرحمن، فما أدري ما هو؟ ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال صلى الله عليه وسلم: اكتب: باسمك اللهم ثم قال: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقال سهيل: والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال: إني رسول الله، وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله إن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المؤيد بالوحي ، وقف مع العدو في الوضع الصفر... بل كتب ما يراه الآخر صوابا.لأن الصلح ،أي السلام،هو غاية الإسلام .فحين تهدأ النفوس،وتتوقف الحرب،ستعطى الفرصة للعقل وحده،كي يختار سبيل الحق وطري الرشاد.وهو ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى لتحقيقه،وإن بدا لأصحابه أنه يتنازل عن بعض مبادئه. وتشاء الأقدار أن يخضع علي بن أبي طالب ( كاتب اتفاقية الهدنة ) لنفس التجربة ،يوم تولى الخلافة وكانت أيام الملك،كما يقول عباس العقاد،قد أقبلت، وأيام الخلافة قد أدبرت.فكان المثبطون في معسكر علي بأعداد كبيرة ، أدخلوه في نقاشات و جدالات غريبة،ومع ذلك حافظ على عدله مع أعتى خصومه وهم الخوارج ،حيث سئل عنهم فقيل : أكفار هم ؟ قال : من الكفر فروا ، فقيل: فمنافقون هم ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا وهؤلاء يذكرون الله بكرة وأصيلا ، قيل: فماهم ؟ قال : قوم أصابتهم فتنة فعموا وصموا . وفي رواية : إخواننا بغوا علينا. وقريبا من هذا المنهج استخلص الإمام الشافعي قانونه : رأيي صواب يحتمل الصواب ورأي غيري خطأ يحتمل الخطأ . بعد هذا العرض لهذه القوانين الاستثنائية، والتي لا يقوى على الاحتكام إليها إلا أولو العزم من أهل الحوار والنقاش والرأي.لابد من ربط الحديث بما كنا بصدده .إن كل فتوى هي في نهاية المطاف رأي،ولم تكن ولن تكون أبدا جزءا من الدين.فأركان الدين وأساسياته والمعلوم منه بالضرورة،هذه أمور ليس فيها فتاوى.ولا ينبغي أن يغضب غاضب،أو يثور قاريء،أو يتحامل متحامل،إذا كان هناك من يقول بعكس ما يؤمن به، وبخلاف ما يراه حقا أو صوابا. سنكون أكثر جرأة ،وأكثر اقتحاما للتحديات ، حين نقبل بتبني هذا الوضع الذي أسميته: الوضع الصفر .لأن معنى ذلك، أننا سنكون في حالة تسمح لنا بتقبل كل النتائج.وليس المقصود هنا الدخول في رياضة فكرية لإثبات حسن النية والقدرة على تحمل الرأي الآخر.الأمر أكبر من ذلك . فجميعنا نقر بأن حالتنا ،فكريا وسياسيا وثقافيا ودينيا ،ليست بخير أو في أحسن الأحوال ليست في مستوى ما نأمله ونرجوه ونحلم به. أكيد أن هناك أكثر من خلل في أكثر من مجال.ومعلوم أن أصل الخلل هو في الرؤية الفكرية والفلسفة المرجعية التي تُشكل تصوراتنا ، وتحكم أفكارنا وتوجه تفكيرنا . وأيضا يكمن بعض الخلل في تمثلاتنا للدين، وليس في الدين طبعا، والذي هو الإسلام .ومعنى هذا الكلام ،أننا حين نكون قادرين على تبني الوضع الصفر، سيكون بإمكاننا تصحيح الانطلاقة وتصويب الخلل وإصلاح جميع الأعطاب الفكرية والدينية والفلسفية.وبتعبير آخر،سنكون قادرين على تبني بعض الأفكار والرؤى الجديدة.ومن ثم لا نبقى مشدودين دائما إلى ماضينا وتراثنا نبحث فيه عما فعل السابقون كي نقلدهم ونسير على نهجهم. إن سلفنا تفاعلوا مع النص القرآني والهدي النبوي ،في إطار معطيات ومقتضيات عصرهم،فأبدعوا وتفوقوا وتقدموا نحو الأمام.ونحن مطالبون أن نفعل الشيء نفسه،فلا خيار أمامنا إلا التفاعل مع معطيات عصرنا ،واستنباط أحكام تنسجم وروح هذا العصر.ولا أحد يشك أن عصرنا هو عصر العلم والمعرفة والعقل والمنطق،فلا مكان لفتاوى لا تستلهم هذه الروح، بل لا يعقل الإصرار القفز على الواقع،والدخول في افتراضات والقول بآراء لا يقبلها صغار المتعلمين. إن القول بالإجماع حتى وإن صادم الحقائق العلمية،والاستناد دائما إلى ما قاله الأولون ( وهم معذورون،إذ لم تكن لديهم المعطيات الدقيقة والكافية ) يتصادم أيضا مع روح الإسلام ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في التغيير ... ففي يوم من الأيام ، كان كل الناس مجمعين على عبادة الشجر والحجر، فتعددت الآلهة وتكاثرت ،فجاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر مخالف لما هم عليه ، قال لهم إن الله واحد أحد ، فلم يتحملوا سماع هذا الكلام ، واستغربوا غاية الاستغراب (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) وطبعا،لم تكن معهم من حجة إلا أنهم وجدوا آباءهم على تعدد الآلهة .فهل هذه حجة ؟. هذا في أمر الدين،وفي أمر العلوم حدث شيء يشبه ذاك ،حين توصل جاليليو جاليلي إلى أن الأرض ليست ثابتة ،كما كان يؤمن بذلك الناس في زمانه،بل هي تدور حول الشمس.ومن الطرائف أن براءته نهائيا لم تصدر إلا سنة 1979م.ومعلوم،حسب بعض الفتاوى،أن الشيخ بن باز لا يؤمن بكل هذا الكلام. أما جاليليو جاليلي ،فيقول : ''لم ألق أبداً إنساناً جاهلاً إلى حد أني لم أستطع أن أتعلم منه شيئاً ''.أعتقد أن هذه واحدة من نقط قوته،أعني إيمانه أن كل إنسان ،مهما خيل لك أنه في الدرك الأسفل من الجهل،قادر أن يعلمك شيئا أنت تجهله.ضع نفسك دوما في موقف من علم شيئا وغابت عنه أشياء.ولا اعتبار للشهادات والرتب ...بل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. إن رأسا يؤمن أو هو - على الأقل – مُستعِدٌّ ، كي يناقش بعض هذه الآراء،أكيد لن يتوقف عن الدوران والبحث والتنقيب،حتى يصل إلى قناعات تشبع رغبته المعرفية،وترضي عقله المفكر.وليس بديلا عن البحث و الدوران ،إلا التكرار.. أو الاستمرار... أو البوار. ثانيا : الحوار سبيل اطمئنان القلب بعد الإيمان الصادق أود مواصلة النقاش، مع كل الذين يصدرون، أو يظنون أنهم يصدرون في آرائهم عن الدين ، من داخل الدين أو بالأحرى من خلال القرآن كتاب الله الخالد لكل عباده.ولا أدعي أن هذا الفهم هو الفهم الصواب،ولكن هو فهم له نصيب أوفر ،أن يكون صوابا باعتماد اللغة، وشيء من المنطق السليم ،والتدبر العاقل . "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" سورة البقرة، الآية: 260. إن إبراهيم لم يكن ينقصه الإيمان والتصديق،بنص هذه الآية،ولكنه كان يسعى إلى درجة أخرى هي الاطمئنان.لكن الموضوع الذي اختاره عصي على العقل،لتعلقه بموضوع البعث والإحياء.فلم يجد عن الحوار بديلا ، مع رب العزة.وعاش تجربة تطبيقية ،أكيد زادته اطمئنانا ويقينا. وللإشارة فإن سيدنا إبراهيم عليه السلام،هو محاور في كثير من الآيات، حاور أباه ، وحاور طاغية زمانه ،وحاور الملائكة،وحاور أبناءه ، وحاور رب العزة. ودخل في حوار صامت مع نفسه، وهو يتأمل آيات ربه كي يصل إلى ضفة اليقين.لقد رأى الكوكب والقمر والشمس ... وفي كل مرة يساوره قلق حب المعرفة والوصول إلى إله هذا الكون الحقيقي. ونحن نستفيد من ذلك ،أن الحوار مطلوب في كل موضوع من المواضيع.ليس في الأمر جرأة، ولا نيل من هيبة أحد ،ولا تجاوز للخطوط الحمراء.مادام القرآن يفتح للحوار أبوابا جديدة،وآفاقا بعيدة ، ودروبا لاحبة وغير لاحبة. ليس تفضلاً من أحد ولا منةً، خضوعُه لمقتضيات الحوار. ولا هيبة لفرد مهما كانت مكانته ،أن تناقش آراؤه وأفكاره.فهي ليست دينا مقدسا، ولا مباديء خالدة لا يأتيها الباطل من أية جهة. إن التحرر من كثير من الأوهام والأصنام ،هو المنطلق الحقيقي للحوار البناء.وكلما آمنا بالحوار منهجا للوصول إلى ترسيخ قناعاتنا وبناء تصوراتنا،كلما تخففنا من ضغط الموروثات والمقدسات وكثير من البديهيات ،التي ليس لها من عناصر القوة والحق إلا كونها ( هذا ما وجدنا عليه آباءنا ) .فإذا كان من حق الأوائل أن يخطئوا، لأنهم عاشوا كثيرا من البساطة واستغلقت عليهم كثير من الحقائق العلمية والكونية وحتى الشرعية في زمانهم،فإننا لسنا معذورين أبدا أن نبقى على نفس الخطأ. ولا سبيل يسهل علينا التخلص من أخطائنا وأوهامنا وترهاتنا ، ودائما مستحضرين ذلك المبدإ (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) إلا الحوار الذي يتوسل الجرأة والتجرد وغير قليل من المخاطرة في دروب المعرفة المتشعبة.ليس المقصود أن نجعل الحوار آدابا وأخلاقا وطقوسا ،فما أسهل هذا الأمر.وإن قوما مستعدون أن ينظموا في الحوار قصائد الغزل والتشبيب، ولكنهم ليسوا مستعدين أبدا أن يغيروا قيد أنملة من قناعاتهم وأفكارهم الخاطئة . إن المطلوب أن يصبح الحوار مسؤولية علمية ومنهجية معرفية وارتيادا لآفاق جديدة ،وتساؤلا حول كل شيء، وفق قواعد واضحة ومسلكيات موضوعية .لأنه ( إذا لم تتحدد قواعد أي حوار ومقاصده، ارتبك سياقه وضاعت نتائجه ) على حد تعبير محمد حسنين هيكل. وكل حوار توضع له خطوط حمراء ، ويرسم له سقف واطئ ،و تحدد له نتائجه سلفا (مَآ أُرِيكُمْ إِلاّ مَآ أَرَىَ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرّشَادِ ) على الطريقة الفرعونية .أو حين تكون السفسطة والجدال العقيم على طريقة ( أنا لست الحمار ، وأنت لست أنا ، إذا أنت الحمار ! ) هي المبتغى ... عندها يصبح الحوار لهوا ولغوا واستهتارا بالعقول والألباب. الحوار ليس قيمة أخلاقية فقط ،بل هو إلى جانب ذلك ، قيمة منهجية ومعرفية توصل إلى نتائج ملموسة.. وإلا فرجاء ،لنكن صرحاء،ماذا جنينا من وراء قممنا العربية والإسلامية؟.أليست تلك القمم ملتقىً لحوارِ قادتنا ومسؤولينا الكبار؟ إنهم يتعانقون ويقبل بعضهم بعضا ، ونراهم في وئام،لكن لا قرار يُمضَى ،ولا توصية تنفد، ولا شيء يؤخذ بجد. بالمقابل أنظر إلى لقاءات قادة الاتحاد الأوربي ،قليل من البروتكول ... كثير من النتائج، إنه حوار فعلا.استطاعوا أن ينقدوا بلدا كبيرا من الإفلاس هو اليونان،وقدموا مساعدات كثيرة إلى إسبانيا والبرتغال..بعثت الحياة فى اقتصاديهما. ليس هذا مقتصرا على القادة والرؤساء، وما كان للحوار أن يعطي نتائجه الفعلية والملموسة في قمة الهرم، لو لم يكن قيمة أخلاقية ومعرفية، وثقافة سائدة في أدنى مستوى من المستويات الشعبية... أما عندنا ، فمازال الفقهاء والمفكرون والمثقفون، يتغنون بالحوار وفضائله . ويتجادلون بالتي هي أحسن مداراة ومداهنة وإرضاء لبعضهم البعض.مادام الأمر مجرد نقاش، لكن إذا كانت ستترتب على الحوار أفعال على أرض الواقع،أو سلوكيات مخالفة لبعض القناعات، أو كان هذا الحوار يهدد مصالح قوم أو مكانتهم أو يعري تضليلهم ... فلا كان الحوار ولا كان المتحاورون.وإن أسرع الطرق لسد باب الحوار،هو وصمُ الطرف الآخر بالكفر أو الفسق أو الخيانة والعمالة ،وقاموس طويل عريض من النعوت والأوصاف القدحية . هذه مصيبتنا،نتغنى بقيم، ونستشهد من داخل ديننا على صحتها وعلى تقديسها أيضا.لكن لا نجرؤ على تمثلها والانصياع لمقتضياتها.فهل نستطيع تجاوز هذه المرحلة إلى مرحلة أرقى ؟ وهل بوسعنا أن نتنازل عن أنانياتنا وقناعاتنا الخاطئة وأوهامنا الزائفة؟ أم نقول ونحسن القول، ثم نصر على مواقفنا، ولو تبين الغي من الرشد بكل منطق وبكل لغة... تلك بعض الفتاوى التي أريدها منهجا وأسلوبا واقتناعا ويقينا وممارسة وسلوكا ... ولكم واسع النظر .... وسنواصل الحوار. [email protected]