بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    "التقدم والاشتراكية": الحكومة تسعى لترسيخ التطبيع مع تضارب المصالح والفضاء الانتخابي خاضع لسلطة المال    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    التنويه بإقالة المدرب العامري من العارضة الفنية للمغرب التطواني    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    مجلس الأمن: بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    مباراة الزمامرة والوداد بدون جماهير    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025        بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حديثُ اليَومِ والأَمْسِ عن زَمَانِ الوَصْلِ بالأندَلسِ..!
نشر في هسبريس يوم 07 - 09 - 2016

الحديثُ عن الأندلس حديثٌ عن الحبّ، والصَبّ، والصّبابة، والجوَى، والهوَى ،عن الزّمن الذي مضى وإنقضى، عن خلجات النفوس المكلومة ، وزفرات القلوب الخاشعة، العاشقة، الوالهة، الولهانة ، والمعنّاة ، الحديث عن "الأندلس" ، حديث عن ذاك الحلم الضّائع بين ثنايا الزّمن وطيّات السّنين، عن ذلك الحلم الذي تبعثر،وتبخّر، وإندثر مع دياجي الفجر وأصبح يطفو على ثبج الذاكرة فى إسم "الفردوس المفقود" هذا النّعت الذي غدا مصطلحاً مؤلماً،مثيراً منغّصاً، مُستهلكاً مكروراً، الذي ما فتئ ينثال على شفاهنا، ويترى نصب أعيننا، ويتكرّر على مسامعنا، ويندسّ فى العديد من النّصوص، والمراجع، والمصادر، والمظانّ، والوثائق، والمخطوطات، والمقالات،والدراسات، والقصص، والرّوايات ، والأشعار، والحكايات،والكتب، والتآليف، والبحوث،والأطروحات التي كُتبت،وما زالت تُكتب عن عن هذا الصّقع الأندلسي القريب، البعيد، فى هذه الجزيرة، أو شبه الجزيرة المحروسة التي ما إنفكّت ذكراها تتغلغل فى أعمق أعاميقنا،وتزكو فى مُضَغ وجداننا لصلاتها الوثقى، وعلاقاتها المتينة، وأواصرها العريقة، الإثنية منها،والعِرقيّة، والرّوحية، والدّينية، والتاريخية، والجغرافية، والفكرية، والثقافيّة، واللغويّة، والشعريّة، والفنيّة، والعاطفيّة بتاريخنا، وثقافتنا، وهويّتنا، وبعالمنا العربي،والأمازيغي،المترامي الأطراف على إمتداد التاريخ، والزّمن، والمسافات.
الأندلس.... حديثُ اليَومِ، والغد، والأَمْسِ، عن زَمَانِ الوَصْلِ بالأندَلسِ هو حديث عن الشّعر، والنثر، والحنين، والأنين، والشّوق، والتاريخ، والأدب، والفكر، والفلسفة ، وعن الخَرْجَات، والمُوَشّحات،والطروبدور، أو دور الطرب، والفلامنكو، أو الفلاّح المنكوب.. والوَصْلات، والزّجل ،والخجل، والوجل، والعُمران، والمِعمار، والمَرمر المَوْضون، والرّخام المَسْنون، والدرّ المَكْنون،والعيون المُسْبلة، والحَواجب المُزجَّجة ،والأسىَ، والأسف، والآه التي سرعان ما تغدو آهات...
نصّ نثري يتدثّر بدفء الشّعروسحره ،وينتعش برقّته ،أو نثر شعري يتسربل بروعة السّرد ويزهو برشاقته ، تغلّفهما لوعة الحنين ،وصدىَ الأنين، يتعانقان فى تقاربٍ،وتداخلٍ،وتناوشٍ،وتدانٍ،وتلاحمٍ أبديّ،فى سديم الزّمن، وصُوَى المسافات، وَثَبَج الذكريّات ...يناغيان ذكرى"الفردوس المفقود" الذى غدا حلماً جاد به غيث هَمىَ، فى زمانِ وصلٍ بالأندلس، لم يكن وصله إلاّ حلما، فى الكَرَى، أوْ خِلْسَةَ المُخْتلس ..لا فضّ اللهُ فاكَ أيّها الشاعر المكلوم ...!
الأندلس.. فردوس مفقود أم موجود..؟!
هل يحقّ لنا حقّا أن ننعت (الأندلس) "بالفردوس المفقود"... !؟ فقد سمّوه فردوساً، ولكنّه ليس مفقوداً كما وُهِمُوا،إنّه هنا موجودٌ، حاضرُ الكيان،قائمُ الذات،إنّه هنا بسِيَره وأسواره،وبقاياه وآثاره، ونفائِسِه وذخائِره،إنّه هنا بعاداته وطبائعه، فى عوائده وأهوائه،إنّه هنا فى البريق المشعّ، فى المدائن، والضّيع، والوديان،فى اللغة والشّعر، والعلم والأدب، فى لهجة القرويّ النائي،والفلاّح المغمور،إنّه هنا فى الإباء الذي يميّز العربَ الأقحاحَ وإخوانَهم فى الله، وفى العِرق ،والوطن، والمصيرالأمازيغ الصّناديد الذين أقاموا معاً صرحَ حضارة مشعّة أنارت دياجي الظلام فى أوربّا دهرئذ ،إنّها هنا فى النخوة ،والشهامة، والإباء ،والحزازات القديمة،التي ما تزال تفعل فى ذويها فِعْلَ العُجْب !.
الأندلس.. أيُّ سرٍّ أنتِ كائنٌ وقاطنٌ فينا وبيننا ؟ أيّ سِحرٍ أنتٍ ساكنٌ بين طيّات الألسن، ومَخادع القلوب.. ؟
يتساءلون وقد علت جباهَهم علائمُ الشّدوه،وأمارات الدّهشة والسُّؤْل، كيف حدث ذلك ..؟ كيف إستطاعت سنابكُ خيولهم المسوّمة بقيادة طارق بن زيّاد الفاتح المغوار رحمه الله أن تطأ ثرىَ هذه الأرض البِكر،وأن تقام واحدة من أكبر الحضارات الإنسانية إزدهاراً وتالّقاً ، وسطوعاً وتوهّجا أشعّت على العالم المعروف فى ذلك الإبّان...؟
يتساءلون كيف تسنّىَ لهؤلاء القوم الغُبْر الوِشاح، البُداةُ الجُفاةُ أن يضطلعوا بكلّ ذلك؟، وتزدادُ حيرتهم ، ويتفاقمُ ذهولُهم ، كيف دانت لهم الدّنيا، ودالت لهم الدّول..؟ كيف أمكن لهم أن يُروِّعُوا كسرىَ فى إيوانه ..؟ وأن يجعلوا الرّومانَ يفرّون تحت وخزات الرّماح ،وتحت وطأة السلاح، وثقلِ الصّفاح ..؟ إنّهم ليسوا قوماً قساةً ،عتاةً ، جفاةً ،كما وُهِموا ، بل إنّهم قوم فاتحون ، مبشّرون بحضارةٍ، وعلمٍ، وتاريخٍ، وعمران .
هذه الجزيرة المحروسة التي هاموا بعِقيانها هياماً ، ثمّ سرعان ما خبتِ الضّياء، وجفّتِ المآقي، هذه الواسطة فى عقدٍ من جُمان، مُرصّعة تزيّن جيدَ الزّمان، كيف وهنت قلادُتها ..؟ وتناثرت حبّاتُها ، وإنفرط عِقدُها ..؟ وتحوّلت إلى عَبرَاتٍ حرّىَ متّقدة، ملتاعة تبكيِ العهدَ، والجدَّ،والحظّ، والدّار.. ؟
غاض النّبعُ الرّقراق
هكذا كانت البداية ثمّ أفلت الشمس بدون شروق قريب، وغاض النّبعُ الرّقراق،ولم يبق سوى وميضٍ خافتٍ نتلمّسُه هنا وهناك ، سرعان ما تحوّل إلى بريق مُشعٍّ قويّ نفّاّذ ، تراه فى هذه الأعين النُّجل ، والحواجب المزجّجة، ذات الملامح العربية الأصيلة، والأمازيغيّة الأثيلة، والجذور المولّدة ،والقَسَمات الدقيقة،التي تحملك فى لمحٍ من البصر،أو فى رمشةٍ عين إلى أعماق الجزيرة الأولى، أو إلى جِنان الرّصافة والجِسر،أو تتيه بك فى غياهب المسافات السّرمدية اللاّمرئية.
الأندلس .. إنّها هنا متوهّجة فى العادات المشرقيّة والمغاربية الجميلة ، فى إرتعاشات الأنامل ، وإنحناءاتها، فى ضرباتِ الأكفِّ والأرجلِ المتوالية المتناغمة التي تذكّرك بمرّاكش الحمراء ، وبجرش والبتراء ، وبزحلة الأرز ،وحَماة القاهرة، وأدواح الشّام المكلوم، إنها هنا فى هذه الأقراط العربية المدلاّة عبر جيد فى بياض النّرجس، بضٍّ ناصع ، ذي ذوائب فاحمة، إنّها ما زالت شامخةً فى قصر الحمراء، سامقةً جنّة العريف، منمّقةً فى الزخارف والأقواس، فى النقوش المرصّعة، والمرمر المَوْضُون، والرّخام المَسْنُون، وإفريز الخشب المحفور، إنها فى نوافير المياه ، والبِرَك،والأنهار، والوديان،والجداول والجدائل، فى السّواقي ،والموشّحات، والأزجال والخَرْجات الأندلسية الرّخيمة،إنها هنا فى هذه الرّاح التي لا تلبث أن تتحوّل إلى روحٍ متلألئةٍ حيّةٍ محاورة ..!
أيّها العاشق الولهان المؤرّق ببعد النّوى،البعيد القريب ، إنهم يحنّون إليكَ ، ويتغنّون بكَ وبإسمكَ ، قَلَوْك زمناً ، ولكنّهم سرعان ما فاقوا من سُباتهم ، وثابوا إلى رُشدهم ، وتخلّوا عن نُكرانهم ،وجحودهم ،فراحوا يشيّدون لكَ الأبنيةَ، والمجسّمات، والتماثيل المخلّدة،ولكنّهم فى خَبَل من أمرهم ، ذلك أنّ ربيعك دائم متجدّد، لا تراه الأعين ، ولا ترمقه إلاّ في الحدائق والجِنان ،أو على ضفاف الأنهار المنسكبة ، والفوّارات المنسابة ، بل إنّها فى النغمات والآهات، والخُطى، والعيون، والحواريّات ،إنّه ربيع طلق يختالُ ضاحكاً ،باسماً لا يعقبه صيف قائظ،، بل يتولّد منه ربيع تلو ربيع .!
جيراننا الإسبان يَتَأورَبُونَ أحياناً أكثرَ من الأوربيّين أنفسِهم..! وأحياناً أخرى تشطّ بهم الأحلامُ بعيداً بعيداً ،ولكنّهم فى الحالتين أبداً يظلّون مشدودين إلى ماضيهم القريب والبعيد، مُلتصقين بأرضهم التي تعاقبت عليها حضارات ، فخورين بأجناسِهم ، وجيناتهم،مزهوّين بمحتدهم، وتاريخهم الحافل،موثوقين إلى عاداتهم الدّخيلة، مشدوهين بلغتهم المزدوجة، وتقاليدهم العريقة ، قالها وكرّرها غير ما مرّة.. " أنطونيو ماتشادو"، و فدريكو غارسيا لوركا"، و" رفائيل ألبرتي"،و" دامسو ألونسو" ،و" فيثينتي أليكسندري"، مثلما قالها قبلهم "إبن زيدون"، وابن هانئ"،وإبن خفاجة، وابن عبد ربّه "،" وابن زُمرك "،وإبن حَمديس، و"ابن الخطيب"،و"ابن سَهل"، وحمدونة بنت المؤدّب، وولاّدة بنت المستكفي،وابن حزم،وابن الآبار،وابن بسّام.. وسواهم !.
طوقُ الحَمَام
يضحكونَ مِنكَ وعليكَ ،وهم فيكَ ومنكَ وإليكَ ، ينكرون طبائعَك وعوائدَك ، وهم الذائدون عنها.هنا حطّ الشّاعرُ يوماً رحله، بعد أن هجرَ القصرَ وترفَه، والشّعرَ ولغوَه، بعد أن بنى معبداً للخشوع والصّلاة، فكانت له جنّة الخلد، هنا فى هذه الحياة الدّنيا قبل الآخرة، وخلّف لنا وراء ظهره ثماني من الرّواسى الرّاسخات ، إنها تعدّ عدّاً،ضاربةً جذورَها فى عُمق التاريخ ، تعلو في عنانَ السّماء، ألوانها مزركشة زاهية، يعانق قوسُ قزحِها الآفاقَ البعيدةَ، معلنة للملأ أجمعين أنّها ما زالت ها هنا قائمة الذات، ثابتة، في الصّور والمنقوشات ، فى الدّور والقصور، فى فتنة الحمراء، وجنّة العريف، و فى برج الذهب، والخيرالدا، وفى الجعفريّة، وقصر الظفرة ،وفى القلاع الحرّة، والحُصون المنيعة، وفى الرّقصات، والعيون،والشّعر والفكر، وفى العقل، واللسان، والجَنان.
إنّها ها هنا تَسْلُبُ لبَّ العاشقين، وتروي صدىَ، وتشفي أوامَ، الهائمين،من دوحها إنطلق ذات مساءٍ هديلُ حمامةٍ نائحاً ذات مساء، حزيناً، باكياً، شاكياً، يلقّن المحبّينَ والعاشقينَ أصولَ العشق، والهيام، والهوى،والحبّ، والصّبابة والجوى،إنّهم لا يمقتونك، بل مُعجبون، إنّهم يفرّون منك إليك، يغيبون بك عنك وإليك، فيظنّون أنهم أنت..! هكذا تحدّث الفقيه، العلاّمة، الحافظ ،الشاعر، الأديب ، الإمام البّحر، ذو الفنون والمعارف ابنُ حزم الأندلسي القرطبي.
الأندلس هذا النّهر الجارف المنهمر، من يستطيع الغوصَ فيه، أو الدنوّ منه لآب إلى النّبع الأوّل ، هذا الوادي الرّقراق الذي شقّ النّسيمُ عليه يوماً جيبَ قميصه، فانسابَ من شطّيْه يطلب ثارَه، فتضاحكت ورقُ الحَمام بدوحها هزءاً ، فضمَّ من الحياء إزارَه. الأندلس هذه الفاكهة المحرّمة المعلقة فى شجرةٍ ليس لها جدع قائم ، من يطولها يطول الخلد ، وتعود إليه الحياة فى ثوبٍ قشيبٍ جديدٍ متجدّد. الأندلس هذه الأغرودة الحلوة الهائمة الحالمة التى تنطلق عند الأصيل،من حنجرة رخيمة (لفلاّح منكوب) " فلامنكو"..! على ضفاف الآهات،وتحت ظلال رموش العُيون المُسبلة ، تتمازج فى رونقٍ بديع،وبهاءٍ رائع مع ترانيم،وزقزقات، وتغاريد الطيوروالعصافير،ووجه المليح مشعّ مثل الثريّا ،والسّاقي المؤدّب يسقي بالأواني البندقية ، والعيدان تصنع تواشي منوّعة، فلا يملّ السّمعُ منها ولا يشبع، ولا يكلّ اللحظ ولا يدمع ، ولا يفلّ القلب منها ولا يشفع ، هذا الحسنُ الباهرُ، والجمالُ الظاهرُ، هذه الأنثى الحسناء، التى تغنّى بمفاتنها الشّعراء، وصدح ببهائها المنشدون،والعاشقون فجاءت مَسوقةً مُنقادةً، هاشّة، باشّة، فرحة، جذلة ، كغادة فاتنة أو كغجريّة رائعة ، يسافر شَعْرُها الحريريُّ الفاحمُ المجنونُ فى كلّ الدنيا، ثمّ سرعان ما يعود لينسدلَ على الخصر حُسْنَا وبهاءً...! صدقتَ أيها الشّاعر العاشق الولهان ، صدقتَ أيها الشّاعرالمُعنّى المكلوم، وصدق حبّك للأرض لتي نعتوها بالفردوس ، وللمرأة الولود،المخصاب ، كيف لا وحولك ماءٌ، وظلٌ، وأنهارٌ، وأشجارُ ...!
آخر البكّائين..
شكراً لك أيّها الشّاعر الرّاوي المتيّم المجيد ،المقتفي لآثار السّلطان السيّئ الطّالع أبي عبد الله الصّغير ،آخر البكّائين على الفردوس المفقود، تقتفي أثرَه، كما يقتفي الشاعر التشيلي"بابلو نيرودا " لآثار أرجل النوارس على الرّمال،فى الشطآن النائية،شعرك غذاء للنّفس،والعقل،والوجدان معاً ، نصّك سجّاد طائر، وسردك زورق من ورق بلّوري ساحر، ينقل قارئه فى رحلة ممتعة إلى عمق التاريخ،عبر قاربٍ إسمُه اللغة فى أرقى مظاهرها، وأبهى حللها ، لتطيرأو تطوف به على ثبج الزّمن السّرمد، وغياهب المسافات، مهما شحط المَزار، أوبَعُدت الديار، جَلَمُكَ الأعلى يراعٌ أو بَوْصلة بيد ربّان يجيد فنّ القول، ويتقن فنّ الغوص والإبحار فى مباهج اللغة وشواردها، أشرعته كلماتك الموفية، وحيزومه أسلوبك السّلس،الذي يأخذ بمجامع القلوب، أخرجتَ لنا تلك الدّررالنفيسة، والصدفات المتلألئة التي ترصّعُ فلكك بالقوافى الغرّ، والقصائد الموشيّة. تتبع خطوات آخر المُتأوّهين على ملكه الضائع فى الأندلس، أبي عبد الله الصغير،باحثاً عنه فى سديم الليالي، والدياجي الحالكات بمصباح ديوجين لرصد آهاته وزفراته، وتسجيل حسراته وتنهيداته، رحلتك متعة وفائدة وهي عِبرة لمن يعتبر ،فالعِبرة أمّ الخبرة ، والتاريخ ما زال معلمّنا الأوّل والأخير، فهل من مُصغٍ ، وهل من متّعظٍ ، قالها الشاعرالصّديق الأمجد الناصر بالله " كفّ إذن عن قراءة التاريخ،وإقرأ الحاضرَ لترى كيف تعود إليك الصّور، وتسترجع المعاني ما رسب فى قعرها من ثمالات". أبوعبد الله الصغير صَغُرَ فى أعين الناس ، ولكنّه كبر فى أعيننا ،إنه ينبض حياةً وحيويّةً، ويتدفّق خصوبةً ونضرةً، لقد إرتقيت بأنفاسنا بحلو الكلام، وطلاوة البيان،ولكن سرعان ما إنهدّت قلوبنا مع تنهيدة أبي عبد الله، لحظة التسليم المذلّ، على الرّبوة العالية ،أو الأكمة المُرتفعة إيّاها التي ما زالت تحملُ إسمَه،والتي ظلت وصمةَ عار مرسومة على كلّ جبين، بتنازله المُخزي عن درّة المدن،وبهجة الحواضر،غرناطة الحمراء ،آخرالمعاقل الحضارية للأندلس فى هذا الفردوس المأسوف عليه ،إنّه :" وترٌ تحطّم أو تمزّق في قيثارة جُنح الليل"... و"جفّت مآقي دموعنا على غرناطة الأولى،وبكينا أخواتها اللاّحقات"...!. "فالحضارات دُوَلُ... والسؤدد برهة" ... صدقتَ،وأبلغتَ،وأقنعتَ،وأفدتَ،وأمتعتَ، وأصبتَ أيّها الشاعرالماجد المكلوم...!
إبن زُمْرُك..شاعر الحَمراء
شاعر الحمراء الذائع الصّيت إبن زُمْرُك الهائم والمتيّم فى الأندلس، وماضي الأندلس، وشعر الأندلس،وأدب الأندلس، وموسيقي الأندلس، وتاريخ الأندلس،وعمران الاندلس، ورفاهية وترف الأندلس، وقصور،وحصون الأندلس، خطّ على حاشيةِ مرمرٍ مَسنون، وذهبٍ مَوضون ،وكتبَ فى الألبوم الشّعري - الوحيد فى بابه فى العالم - المَنقوش على جدران بهو الأسود،أو ساحة السّباع بغرناطة الحمراء هذه الأبيات التي يقول فيها :
يذوبُ لجينُ سالَ بين جواهر / غدا مثله فى الحُسن أبيضَ صافيَا
تشابه جارٍ للعيون بجامد / فلم ندرِ أيّاً منهما كان جاريَا
ألمْ ترَ أنّ الماءَ يجرىِ بصفحها / ولكنّها سدّت عليه المَجاريَا
كمثلِ مُحبٍّ فاضَ بالدّمع جفنه / وغِيض ذاك الدّمعُ إذ خاف واشيَا
قال الشّاعرالإسباني الغرناطي الشّهير " فيدريكو غارسيا لوركا " معلقاً على هذه المأساة :" لقد ضاعت حضارة رائعة ، لا نظيرَ لها ،ضاع الشّعر، ضاعت علوم الفلك ، ضاعت الفنون المعمارية، وضاعت حياة مُترفة فريدة ، لا مثيلَ لكلّ ذلك فى العالم أجمع".
وقال" بلاسكو إبانييز": " جعل المسلمون من إسبانيا في ذلك العهد كالولايات المتّحدة الأمريكية، يعيش فيها المسلم، والمسيحي، واليهودي بحريّةٍ تامّة، ومن غيرِ تعصّب ،و عندما كانت دول أوربا تتطاحن،وتتقاتل في حروب دينية وإقليمية فيما بينها، كان المسلمون والاسبان واليهود يعيشون فى سلام كتلةً واحدة، وأمّة واحدة،فزاد سكان البلاد ، و إرتقى فيها الفنّ، و إزدهرتِ العلومُ، و أسِّست الجامعات. سَكَنَ ملوكُها القصورَ، وعاش شعبُها في الرّخاء ، بينما كان ملوك بلدان الشمال يبيتون في قلاعٍ صخريّةٍ سوداء، و شعوبُها تعيش في أحقر المنازل والدور " .
*عضو الأكاديمية الإسبانيّة الأمريكيّة للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.