علّمونا منذ الصغر أن نتحاشى الحديث عن الجنس. وعندما كبرنا بدأنا نتمرد على ما علّمونا لسبب بسيط وهو أن "الطبيعة لا تقبل الفراغ"، أو بعبارة أخرى، الجنس لا يقبل القمع. حصّنوا المرأة وهي فتاة. حصّنوها بطقوس وآيات تحولت فيما بعد إلى أعراف وقوانين: قوانين جنائية قبل أن تكون أخلاقية. الجنس منبوذ في ثقافتنا. الجنس مقموع وممنوع. تلك كانت القاعدة في الديانة اليهودية كما في المسيحية والإسلام. إذا أردت، رجلاً كنت أو امرأة، أن تستجيب لنداءات جسمك، فما عليك إلا طلب رخصة الجماعة (أو الدولة، الممثلة للجماعة). عليك أن تطلب رخصة خاصة تسمى في الحضارة العربية الإسلامية ب "عقد النكاح" (أي عقد الجماع). وعقد النكاح هو ورقة تسمح لكما، أنت وشريكتك (أو أنت وشريكك) بأن تمارسا حقكما في الجنس تحت حماية القانون، دون أن تطالكما لا عقوبة الجماعة ولا عقوبة الدولة. في المجتمعات التقليدية، كان الجنس يمارس بطريقة "طبيعية" لا يتدخل فيه المجتمع إلا للاعتراف به كحالة طبيعية. فبمجرد ما أن يبلغ الفتى أو الفتاة سن الرشد الجنسي (16-12 سنة)، تقوم الجماعة بتزويجهما باعتبار أن المسألة طبيعية، وعكس ذلك يدخل ضمن معاكسة الطبيعة. حفل الزواج هنا هو اعتراف نهائي بحق طبيعي، وليس بداية لممارسة هذا الحق. ولإضافة طقوس اجتماعية على هذا الحق الطبيعي، تشترك الشعوب في كثير من الاحتفالات الجماعية المواكبة للأمر الطبيعي، وما موسم إملشيل في الأطلس وموسم سيدي شعيب أومفتاح في الريف إلا تجسيداً لهذه الطقوس. في هذين الموسمين يتعارف العشيقان الجديدان أو يقوم العشيقان القديمان "بالتأشير الاجتماعي" على أمر قائم. لكن الأمور ستتغير جذريا عندما ستتدخّل السياسة (أي الدولة)؛ حيث ستتبنى الدولة "حقها العام" في إدارة الجنس عبر التحكم القانوني في الرغبات والشهوات وتبادل اللذات. ومع تطور الدولة ستنصهر "الأعراف" الاجتماعية مع القوانين "السياسية" وسيصبح "الحق الطبيعي" في ممارسة الجنس، الذي هو في الوقت نفسه حق إنساني، حقاً مشروطاً، وسيكون على الفرد أن يؤدي ذعيرة كبيرة إن أراد أن يمارس هذا الحق: المهر الذي ترتفع قيمته حسب قانون السوق وتكاليف الإشهار عبر حفل الزواج (الذي أصبح تحت رحمة السوق الرأسمالية: تكاليف قاعات الحفلات وتوابعها). وبما أن قانون الرأسمالية المتوحشة لا يرحم إلا الميسورين، فمع مرور الزمن سيصبح من الصعب جدا على الأفراد أن يمارسوا حقهم الطبيعي في الجنس واللذات الجنسية. وهكذا فالأفراد، خصوصاً منهم الشباب، سيجدون أنفسهم أمام باب مسدود: إما أن يتزوجوا، وهو مطلب أصبح بعيد المنال، وإما أن يمارسوا الجنس خارج الزواج، وهو مطلب وراءه عواقب سالبة للحرية (السجن والبهدلة)، إضافة إلى أنه مؤدى عنه. ولا عجب، في هذه الحالة، أن يطول سن الزواج الأول عند المغاربة (متوسط سن الزواج عند الرجال هو 35 سنة، وعند النساء 28 سنة). وطبعاً، ضمن منظومة الرأسمالية المتوحشة (تدخل في ذلك حليفتها الرأسمالية الإسلاموية أيضاً)، فالجنس يبتعد عن طابعه الطبيعي (والإنساني) ويتحول إلى سلعة ومتعة لمن يستطيع فقط أن يؤدي: أن يؤدي رسوم وتكاليف الزواج وإشهاره (مثنى وثلاث ورباع بالنسبة للماتشو المسلم)، أو أن يؤدي ثمن استئجار متعة جنسية لمدة محدودة (من ربع ساعة إلى بضعة أيام). وحتى استئجار المتعة واللذة هنا ستختلف حسب وضعك الاجتماعي: إن كنت "مزلوطاً" يمكن أن تستأجر متعتك بعشرة دريهمات وتقضي حاجتك في المساكن المهجورة مثلاً، تحت طائلة جناية الفساد وغير ذلك، وإن كنت من الميسورين يمكنك أن تستأجر شقة في فندق 5 نجوم وأنت مرتاح البال لأنك تعرف مسبقاً أنك لن تتعرض لأية مضايقة. الجنس والمتعة الجنسية حق، لكن، على ما يبدو، لمن استطاع إليهما سبيلا. الفلاح البسيط والعامل والطالب الفقير والموظف غير الإطار لا يستطيعون ممارسة حقهم "الطبيعي" في الجنس نظراً لعجزهم المادي (وليس الجنسي). فهم، خوفاً من القانون ومن البهدلة، إما أنهم يكتفون بممارسة الجنس الذاتي (كما لو كانوا خناثاً، جمع خنثى)، أو أنهم يتنازلون عن كرامتهم ويغامرون بصحتهم وبوضعهم القانوني فيبحثون في السوق السوداء عما "يرضي" رغباتهم الإنسانية. الوضع يختلف كثيراً إن كنت "إسلامياً" ورأسمالياً في الوقت نفسه (أو حليفاً للرأسماليين). في هذه الحالة، بإمكانك أن تتزوج (مع أداء كل التكاليف والذعائر الاجتماعية) بامرأة أو اثنتين أو ثلاثة أو أربعة. وبالطبع فالجمع هنا تسلسلي: فكلما أحسست بأن المرأة الأولى بدأت "تترهل"، كلما توفرت لك فرصة الإتيان بأحسن منها. طبعاً، وحتى وإن كان العصر لا يسمح بالاستمتاع "بما ملكت أيمانكم"، فإن الدولار يعطي لك فرصة الاستمتاع بما هو أحسن. لا حاجة لنا بالتذكير بفقهاء الوهابية الذين يطبقون "القمع الجنسي الممنهج" على غالبية السعوديين، بينما هم، بفضل الدولار، "يستمتعون" (إن كانوا فعلاً يستمتعون) "بحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون" في بقاع العالم المتفتح. في مجتمعنا هناك مواطنون يعانون قساوة من طرف المجتمع والدولة معاً. قساوة لا تتصور. فمثلاً، ماذا عساه يعمل رجل في سن السبعين، في تمام صحته الجنسية، متزوج وله أولاد وأحفاد وامرأة ميؤوس منها (من ناحية الصحة الجنسية)؟ هل سيتزوج امرأة ثانية؟ (وهو ما يقوم به الكثير بدعوى توفير امرأة شابة تخدم "الهرمين" معاً!)، مع ما يتضمن ذلك من مشاكل عملية وأخلاقية تجاه الزوجة والأولاد والأحفاد والمجتمع؟ هل من الحكمة أن يتزوج "وفق السنة" أم أن تكون له خليلة تقاسمه "حقاً طبيعياً" في اللذة دون أن تقاسمه مشاكل إضافية هو وزوجته وأولاده في غنى عنها؟ ثم، ماذا عسانا نعمل في حالة امرأة شابة تزوجت في ظروف اجتماعية مقهورة بشيخ سرعان ما نضبت "ديناميته"، ولدت معه عدة أولاد؟ هذه الشابة، هل سنشجعها على قضاء عمرها مثل راهبة محكوم عليها أن تقمع رغباتها الطبيعية؟ أم ندفعها إلى طلب الطلاق مع كل المآسي التي يمكن أن تترتب عن ذلك بالنسبة لأولادها؟ ما الذي يمكن فعله في هذه الحالة، مع العلم أن كل علاقة خارج "عقد الجماع" المعترف به يعاقب عليها القانون قبل المجتمع؟ هناك قانون ما يزال ساري المفعول، على الصعيد الوطني كما على الصعيد العالمي، قانون فرضته الرأسمالية المتوحشة وهو "قانون 10/90". هذا القانون مفاده أن 10% من المواطنين يستفيدون من الخيرات المادية والرمزية (ومن بينها الخيرات الجنسية)، بينما 90% يجدون صعوبات كبيرة من الاستفادة من هذه الخيرات. المسألة لا تتعلق بالرجال فقط، بل بالنساء أيضاً (على بالكم قصة الأميرة القطرية التي ضبطت مؤخراً بأحد فنادق لندن تمارس الجنس بعربدة مع 7 فحول من الشباب). إنها فعلاً لالّة سبعة رجال كما يحكي لنا التراث! الديمقراطية ليست مطلباً خبزياً فقط، إنها مطلب "جنسي" أيضا، فبالجنس ترتبط صحة العقل والمجتمع معاً! *أستاذ جامعي