غالبا ما يهجم علي خاطر فكري يسائلني في مختلف اللحظات التأملية التي أستمتع فيها بفنجان قهوة فكرية، على شاطئ بحر التدبر تحت شمس المعاني، فيقول لي مستغربا: لماذا أمة الإسلام أمرت بالقراءة في حين آثرت الغرق في بحر الجهالة و الحال أن أراد منها ربها الغوص في بحر الاستبصار و الروية و النظر و الفكر و الملاحظة و التدبر. أول ما يتبادر إلى الذهن حين أسترجع حال المعارف و الأصدقاء الذين آثرو عدم المضي قدما في درب البحث العلمي لمظنة طول الطريق و امتداد السبيل، في حين أن الأغلب الغالب ينتظر النتيجة و يتوقع الحصيلة في أقرب الأوقات فهل يشكل هذا بالفعل عائقا لدى شبابنا و مراهقينا ينفرهم من سبيل التنور بمشكاة النبوة "القراءة"؟ و إن كان الأمر كذلك فكيف السبيل الى التوعية ببطلان هذا العائق أو قل بوهمية هذا الحاجز و سرابيته؟ لا شك أن الحكمة الصينية التي فاه بها حكيم و فيلسوف الشرق لاو تزو صادقة حيث قال في بلاغة كبيرة"رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة" في إشارة الى أهمية المثابرة في الطريق مع استحضار أن النتائج تأتي حتما لكن بعد صبر و مشقة و من عرف ما قصد هان عليه ما وجد. و حتى نفهم أن هذا الطول المهول الذي يتبدى لنا عند الحديث عن درب البحث العلمي ليس الا سرابا، و أن ذلك التمطط الذي يلوح عند استحضار سبيل المدارسة و البحث و الملاحظة العلمية ليس الا محظ وهم و توهم، أستحضر قولة بديعة للروائي الأمريكي الكبير والتر إليوت " المثابرة .. ليست سباقاً طويلا ، وإنما هي مجموعة من السباقات القصيرة .. سباق إثر سباق". فإن دلت حكمته على شيء فإنما تدل على تبصره الكبير و وعيه الدقيق بخبايا النفس الإنسانية و ما تحاوله مرارا و تكرارا مع كل من راودته نفسه خوض طريق شاق من أجل بلوغ هدف عظيم بغض النظر عن دينه و ديانته، أو جنسه و عرقه، فإن هاته النفس تصور له ذلك الطريق مملوئا بالأشواك، لكن تلك الأشواك حتى و إن كانت فإنها مما يحتمل من أجل بلوغ هدف أسمى و مراد أرقى، حيث أن د جمال الدين القادري بودشيش غالبا ما يردد حكمة بليغة أجدها من صميم موضوعنا في هذا المقال وهو أن "من عرف أنه إن تجاوز تلك الأشواك سيصل على عين صافية سيحاول تفادي تلك الأشواك في طريقه الى أن يبلغ هدفه و لن يكون وجود تلك الأشواك مثبطا له في سبيله، و حتى إن أصابه بعض منها مع تفاديه لها فإنه سيصبر لعلمه بفوائد و برودة الماء الذي حين سيصله سيروي عطشه". و تذهب الناقدة الأمريكية مولي هاسكل الى نفس المعنى حين تردد "إعتقادي أنني أتحمل ما لا يحتمل .. هو الذي يساعدني على الاستمرار". و نحت الكاتبة الأفرو أمريكية توني كيد بمبارا نفس المنحى حين أبدعت قائلة "إلى أولئك الذين يعتقدون – أحياناً – أن الأمان .. هو أن يعيشوا مع التذمر .. والشكوى .. وأن يتعاونوا في تحمل الأحزان .. وأن يشتركوا في جلد ذزاتهم .. إليهم جميعاً .. أقول .. أريحوا قلوبكم .. وسيروا خطى المستقبل .. أصحاء .. سليمي العقل .. سيروا هكذا جميعاً" من خلال أقوال من سبق من عميقي التبصر سواء الفكري أو الروحي يمكن القول أنه لا مناص من استحضار الهدف و المبتغى "و هو خلق مجتمع قارئ" بجميع فئاته سواء المفكرة أو المنظرة أو العاملة، الشباب و الشياب، من أجل تجشم طول الطريق و لا طول هناك و إنما هو كما رأينا مع الروائي الأمريكي والتر إيلوت سراب ووهم. هوامش: - لاو تزو – حكيم صيني شهير من زعماء الطاوية عاش خلال القرن السابع الميلادي. - والتر إليوت – روائي أمريكي مسيحي كاتوليكي عاش خلال نهاية القرن تاسع عشر. - د جمال الدين القادري بودشيش - أكاديمي مغربي و باحث في التصوف دكتوراه من دار الحديث الحسنية حول زوايا التصوف بالمغرب و نجل شيخ الطريقة القادرية البودشيشية. - مولي هاسكل – كاتبة و ناقدة سينميائية أمريكية معاصرة ولدت سنة 1939. - توني كيد بمبارا –أستاذة جامعية و ناشطة اجتماعية و معدة برامج وثائقية وكاتبة أفرو أمريكية. * باحث في الأكسيولوجيا و الديونطولوجيا