مما لا يجهله أحد أن للإسلام كما لغيره من الأديان والملل، عقيدة لا يصح انتساب المرء إليه ولا يقبل من تدين به إلا إذا آمن بتلك العقيدة والتزم بمقتضياتها، فلو تظاهر أحد بالإسلام وقام بجميع أعماله وشرائعه من صلاة وصيام وحج وجهاد وغير ذلك مما ظهر من عباداته وشعائره، ولم يكن له إيمان بما جاء به الإسلام ولا اعتراف بعقيدته، فهو في حكم الإسلام منافق يستوجب الدرك الأسفل من النار، كما قال عز وجل، وهو ممن قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر". وكذلك الوطن له عقيدة يحملها أبناؤها ويؤمن بأصولها كل فرد من المنتمين إليه، ولا يكون أحد صادقا في انتسابه إلى وطنه إلا إذا كان مؤمنا بعقيدته الوطنية ومخلصا في التشبث بأصولها، وإن لم يكن كذلك فهو الخائن الغادر الذي يتقى مكره ولا يؤمن شره، ولو ظهر منه بذل وعطاء للوطن وحرص على سيادته وسلامته، كما هو شأن الخونة في كل زمان ومكان، فإنهم لم ينزلقوا إلى خيانة أوطانهم والغدر بأمتهم إلا لكونهم فقدوا التعلق بالوطن ولم يدخل الإيمان بعقيداته في قلوبهم، فعاشوا بأبدانهم وبطونهم، وتنكرت له قلوبهم ومشاعرهم، فأضاعوا دينهم ودنياهم وكانوا في الدنيا والآخرة من الخاسرين.
العقيدة الوطنية المغربية
و إذا كانت عقيدة كل دين ومذهب مختلفة عن غيرها في الملل والأديان الأخرى، فكذلك العقيدة الوطنية تختلف أصولها ومبادئها بين وطن وآخر، فالعقيدة الوطنية في الصين، مثلا، ليست هي العقيدة الوطنية في بريطانيا، وهكذا يجري الحكم على كافة الأوطان في العالم.
ومقصدنا في هذا المقام تبيان العقيدة الوطنية المغربية وإبراز أصولها ومعالمها التي يؤمن بها كل مغربي مسلم صادق في تدينه، ويحملها بإخلاص في قلبه كما يحمل حبه لأهله وبنيه، وهي عقيدة متألفة من سبعة أصول: الوطن والدين والنظام والشعب واللغة والمقاومة، والجيش، وسأقف عند كل أصل من هذه الأصول لأضيف إليه ما يستوجب من الشرح والبيان.
الوطن
أما الوطن فإن المغرب الذي يتعلق به كل فرد من أبنائه، ويؤثره على غيره من بلاد الأرض ولا يبغي به بديلا، ولا يتردد في الذود عنه والدفاع عن حماه بكل ما أوتي من جهد ومال، وهو لا يخرج منه إلا كارها أو مضطرا وما يزال حنينه إلى وطنه حتى يرجع إليه، وكل مغربي صالح يؤمن أن أطرافا من بلاده مازالت تحت سيطرة الاستعمار الإسباني كسبتة ومليلية وما بينهما من الجزر، وهو ينتظر بشوق وتلهف ذلك اليوم المنشود الذي تعود فيه الأطراف المقطعة إلى جسدها، كما يؤمن أيضا أن الصحراء المغربية قطعة من المغرب، وإن الخلاف القائم حولها إنما هو كيد يكاد به المغرب، ومكر يمكره خصومه ومنافسوه، وليس له في الواقع موجب ولا مسوغ، غير أن الوطن في اعتبار كل وطني صالح دار وملجأ وملاذ، يستقر فيه المرء في وضعه مطمئنا على مصيره ومآله، لا يخشى طردا منه ولا إبعادا من بيته وأهله، فهو فيه حر طليق يمشي في مناكبه كما يريد، ويتبوأ من أرضه حيث يشاء لا قهر عليه في ذلك ولا مضايقة ولا اضطهاد.
الدين في عقيدتنا الوطنية هو الإسلام
وأما الدين فإنه في عقيدتنا الوطنية هو الإسلام الذي آمن به أبناء المغرب منذ عرفوه قبل اثني عشر قرنا، فجمع صفوفهم وألف بين قلوبهم ووحد كلمتهم، وجعلهم على كلمة سواء لا يعبدون إلا الله ولا يشركون به شيئا ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، فهم جميعا إخوة في الله وطائفة من الأمة الإسلامية، والدين لباس الوطن ومناعته التي تحمي من التصدع والانشقاق، وتقي أفراده الصراع والتناحر، وتضمن لهم الأمن والاستقرار، "والذين تبوءوا الدار والإيمان" وغير بعيد عن الأذهان ما وقع في بعض البلاد من حروب أهلية وصراعات طائفية من جراء تعدد الأديان والمذاهب الذي تعرفه تلك البلاد، كالهند والباكستان وإيرلندا ولبنان ويوغسلافيا والسودان وغيرها، مما يدرك به كل فرد صالح من أبناء المغرب نعمة الله العظمى وفضله الكبير على هذه البلاد بالدين الواحد الذي حفظها به من الفتن والشرور التي تعانيها كثير من بلاد العالم من مسلمين وغير مسلمين، "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا".
نظام الحكم في العقيدة الوطنية هو النظام الملكي
وأما النظام فإن نظام الحكم في العقيدة الوطنية هو النظام الملكي وهو النظام الذي لم يعرف أبناء المغرب غيره منذ جاءهم إدريس الأول وأقام على أرضهم أول دولة إسلامية، وما زال النظام الملكي في المغرب مقبولا عند الشعب ومرضيا لدى كافة أفراده، يلتفون حول ملكهم ويتعلقون به ويلتزمون طاعته، لأنه طاعة الإمام من شرع الله ودينه، والنظام الملكي في المغرب رغم ما يلمزه به خصومه ومناوئون من تقصير أو تفريط، فليس في الساحة السياسية في المغرب بديل خير منه، كما أنه ليس في أنظمة الحكم التي عرفتها دول العالم الإسلامي نظام أفضل من النظام الملكي في هذه البلاد، وهذه حقيقة يدركها كل من زار الدول العربية ولمس أوضاعها وعرف معاناة شعوبها من جراء ما يكابدونه من قهر وتسلط وطغيان، ولقد امتاز النظام الملكي في المغرب على عهد الملك محمد السادس بمزيد من التفتح والإنصاف، وأداء الحقوق وفسح مجال الحريات العامة والسعي في رفع المظالم، والتخفيف عن الضعيف والمحروم، وقد بدت معالم هذا التحول بارزة في مختلف مجالات الحياة وأوضاع المجتمع، لا ينكرها منكر و لا يجحدها جاحد مهما بلغ جحوده من العناد والتصلب، لأنها أصبحت حقيقة ساطعة مثل الشمس في كبد السماء والقمر ليلة البدر، لا يجحد نورها إلا مجنون وسقيم.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم
الشعب سند الحكم و مصدر شرعيته
وأما الشعب فإنه سند الحكم ومصدر شرعيته، فالحكم في المغرب لا يتغير بالانقلابات العسكرية والثورات القبلية، وإنما ينتقل الملك فيه من ملك إلى آخر بالبيعة التي يقدمها الشعب إلى الملك الذي خلف من كان قبله، فيصير الشعب ملتزما ببيعته ووفيا لملكه بما أعطاه من العهد، كما أن الشعب مرجع الملك فيما يريد أن يسن من قوانين، ويصحح من أوضاع البلاد، فالدستور مثلا لا يجري العمل به إلا إذا أجازه الشعب كما أن فصوله وبنوده لا يتم تغيير شيء منها إلا باستفتاء الشعب وموافقته على ذلك التغيير، فالشعب هو صاحب السيادة حكما وله الكلمة الأولى والأخيرة في تصريف شؤون الحياة وتسيير أوضاع البلاد، ولما كان الشعب مسلما فإن تدينه يمنعه من الرضا والموافقة على ما يخالف شرع الله ودينه.
وأما ما يروج في المجتمع من فسوق وفواحش ومخالفات للشريعة فإنه من سلوك الناس وأعمالهم، التي لو تركوها لما أكرههم قانون ولا سلطة على إتيانها والعمل بها.
المقاومة رمز حب الوطن
وأما المقاومة فإنها كانت السبيل إلى تحقيق الاستقلال للمغرب وتحريره من سيطرة الاستعمار ورفع يده عن البلاد وأهلها، ومن أجل ذلك استوجب المقاومون تمجيدا وتقديرا وإجلالا من الشعب المغربي لما قدموا للبلاد من تضحيات جليلة، ولما قاموا به من الجهاد الصامد في سبيل دينهم ووطنهم مسترخصين فيه كل ما يملكون من نفس وأهل ومال، فقد كانوا يؤمنون أن نضالهم عن وطنهم من الجهاد في سبيل الله ومن أجل ذلك كانت مظاهراتهم تنطلق من المساجد، وكانت مقاومتهم مصبوغة بصبغة ربانية، فكانوا لا يهابون الموت لأنهم كانوا مستيقنين أن لهم بجهادهم إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة، وهكذا كانت المقاومة رمزا لحب الوطن والتعلق به والدفاع عن حرمته وكرامته، لتبقى تبصرة وذكرى للمؤمنين في كل عصر وجيل.
وجوب الاعتراف بجميل الجيش المغربي
وأما الجيش فإنه درع الوطن، وحصن البلاد، والسد الذي يحميها من الغزو والعدوان، وقد أبلى الجيش المغربي البلاء الحسن في مواطن كثيرة، وأسدى للشعب خدمات جليلة في شتى المجالات، عسكرية ومدنية واجتماعية، وإن للجيش فضلا خاصا على الشعب المغربي لا ينسى ولا يجحد ألا وهو رباطه في الصحراء المغربية وحمايته لحدود البلاد وثغورها وصموده في وجه العصابة الآثمة (البوليساريو) ومصابرته في صد عدوانها وإجرامها، ولولا هذا الصمود المستميت لاستطاع أفراد العصابة الإجرامية أن يتسللوا إلى مختلف مدن المغرب ليرهبوا السكان ويسفكوا الدماء ويقطعوا السبيل، على غرار ما كانت تقوم به العصابات المنشقة في إسبانيا وإيطاليا وإيرلندا وغيرها من البلاد، ولكن الله سلم المغرب من هذه الفتنة بفضل يقظة الجيش وتجنده وصبره الذي لم ينفذ في الدفاع عن البلاد ورد اعتداءات المجرمين عن الديار وأهلها. ومن أجل ذلك وجب للجيش المغربي اعتراف بجميله وتقدير لأعيانه، وشكر وتنويه بجليل أعماله وجسيم تضحياته، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
العربية لغة الوطن ولسان الأمة
وأما اللغة فإنها في المغرب اللغة العربية، فهي لغة الوطن ولسان الأمة وأداة التفاهم والتقارب بين أفرادها، وذلك لكونها لغة القرآن ولسان نبي الإسلام الذي يؤمن به المسلمون كافة عربا وغير عرب واعتماد اللغة العربية لغة رسمية للدولة لا يعني التنكر لغيرها من اللغات القومية التي يتألف منها الشعب المغربي، فلم يزل أبناء المغرب منذ عرفوا الإسلام محتفظين بقومياتهم ولغاتهم ولم تذب ثقافاتهم في الثقافة العربية، ولا احتوت اللغة العربية لغاتهم، وليس هناك من ضرورة تدعو إلى تغيير هذا الوضع والانقلاب عليه، و دسترتها لا ينتظر أن تغير من و ضعها شيئا، اللهم إلا أن تندس في جسد الشعب المغربي طفيليات خبيثة تسعى في إعلال صحته وتقطيع أوصاله "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".
هذه عقيدتنا الوطنية التي نؤمن، بصدق وإخلاص، بأصولها ونتشبث بمقتضياتها إيمانا واحتسابا، لا نريد عليها جزاء ولا شكورا، وتمسكنا نحن المسلمين في المغرب لا يعني أننا راضون عن أوضاع البلاد ومسرورون بما تعرفه كثير من مؤسساتها من تقصير وتفريط، كما أن ما نقوم به من نصح ونقد لصور من الانحراف البارزة في حياة الأمة لا يعني تنكرا لعقيدتنا الوطنية ولا مسا بحرمتها ولا إخلالا بمقتضياتها، ولكنا نقوم بواجب النصح والتواصي بالحق المفروض على كل مسلم حريص على صلاح وطنه وسلامة أمته واستقرار الأوضاع في بلاده، تحقيقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".