اشتهرت أحياء البرونكس ومنهاتان وكوينز في نيويورك كما اشتهرت أحياء شيكاغو بتضخم معدلات الجريمة وارتفاع منسوب حمامات الدم في وضح النهار وفي جوف الليل. لكن يظل مقتل (كيتي جينوفيز) بتفاصيله المقززة من أفضع الجرائم التي يعج بها أرشيف رجال "الجدار الأزرق" حماة "القانون والنظام" في نيويورك، بل وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية قاطبة. إذ لا يزال الأمريكيون يتذكرون بمزيج من الدهشة والأسى والامتعاض عناوين الصحف المتذمرة في صفحتها الأولى صبيحة مقتل كيتي عن "عار أوستين ستريت". كانت كاترين فتاة جميلة فارعة القامة في ربيعها الثامن والعشرين، عندما غادرت سيارتها في ساعة متؤخرة من ليلة 14 مارس 1964 ، متوجهة من الموقف نحو شقتها في (كيو غاردن) عبر حارة مأهولة بالسكان (أوستين ستريت). يعترض طريقها قاتل سيكوباتي يدعى (ونستون موزلي) بدون سبب ظاهر أو باطن، ويعتدي عليها بالسلاح الأبيض. يطل أحد السكان من نافذته وقد أثارت فضوله صرخات الضحية لينهر ونستون. يفر هذا الأخير من ساحة الجريمة. لكن سرعان ما يعود ليطعن كيتي بخنجره قبل أن يفر من جديد. في حين تهرول الضحية ثم تمشي ثم تزحف ثم تحبو في اتجاه بيتها، يعود ونستون في استماتة شيطانية مرتين أخريين "لينهي العمل" قبل أن تلهمه نوازعه النكروفيلية الاعتداء الجنسي على الضحية بعد موتها، في مشهد مقيت يذكر متتبع العجب المغربي بفتوى (إباحة المرض النفسي وعدم تحريمه كما أبيح أكل الثوم والبصل).
استنكر الشارع الأمريكي كما استهجن المحققون عدم تدخل سكان أوستين ستريت لإنقاذ الضحية ولو بمكالمة تلفونية مجانية واحدة. حال بين حياة كاترين وموتها شعرة رفيعة تقطعت، حين استحوذت على عشرات الشهود مشاعر الخوف واللامبالاة والأنانية وعدم الاكثرات. وفي أحسن الأحوال وأرحم التقديرات؛ ربما يكون قد غلب عليهم النعاس أو (وهم فرض الكفاية) و (مبادرة الآخر) الذي سينوب عن الجماعة النائمة أو المشغولة بأمور حيوية في المطبخ أو مستعجلة في الحمام ، في التكفل بإنقاذ ضحية لا حول لها ولا قوة من موت محقق.
مضى أزيد من ربع قرن على هذه الجريمة النكراء كما وصفها المحققون والتلفزيون. وجفت أقلام أصحاب الافتتاحيات ورفعت صحفهم ومعها نفاقهم، لأن عار أوستين ستريت ليس أمرا جديدا تحت الشمس. إنه عار الألمان زمن النازية بثوب جديد. إنه عار حكومة بيتان في ثوب جديد. إنه عار من رضخ لمنطق السلامة وفلسفة الخونة وقت الاستعمار من أمثال تهامي الغلاوي وغيره؛ بثوب جديد. إنه عار ملايين المغاربة في زمن ما يدعى بسنوات الرصاص في ثوب جديد. وعار الافتتاحيات المكبوتة التي كتبت نعي الملك الراحل في عدد، لتشتق مصطلح (سنوات الرصاص) وتغرم باستعماله المبتذل في الأعداد اللاحقة، بعد أن اكتشفت في نفسها روحا ثورية دفينة وحبا لأدب السجون جما.
ما يحدث في البرونكس ومنهاتان وكوينز، قد يحدث في الحي المحمدي وعين الشق ودرب السلطان. لكن طمس الحقائق وتزييفها بادعاء أنه حدث في كل يوم (بروباغندا واهمة ودعاية واهية تكذبها ما تختزنه ذاكرة البيضاويين الجماعية مما يصفه المخزن بالانفلاتات الأمنية الجرذانية وثورات الخبز والزيت والسكر)، والرهان الانتحاري على أن هذا ما سيحدث غذا، فيه كثير من التفاؤل بنجاعة "القوانين الحامية لسلامة الوطن والمواطنين" وقليل من التقدير لعقول مواطنين قد لا يسلم الوطن من عناقيد غضبهم.