هذه من الإشاراتِ القويّة في خطاب العرش (2016)، حيث قال جلالةُ محمد السادس: «أنا ملكٌ لجميعِ المغاربة، مُرشَّحِين وناخِبين، وكذلك الذين لا يُصوّتُون...».. إشارةٌ تُحيلُنا أيضًا على «الذين لا يُصوّتون».. وعلى أنّ لهؤلاء حقوقًا على من «وصَلُوا» إلى الحُكم عن طريقِ الصناديق.. فمهما كانت نسبةُ الأصواتِ العدَدِيّة المحصّلِ عليها، فإنّه لا يجُوزُ التّفريقُ بين أكثريةٍ وأقليةٍ ومَعَهُما «الذين لا يُصوّتون».. وإذن، نحنُ أمام ثلاثةِ أطراف حدَّدَتْها الإشارةُ الملكية: أكثرية.. وأقلّية.. و«الذين لا يُصوّتون».. وعلى «الأكثرية»أنْ تُدرِكَ أنّها في حدّ ذاتِها أقلّيّة.. وأنّ أصواتَ «الأقلّية» هي أيضا أقلّيّة.. وأنّ مجمُوعتيْ «الأكثرية» و«الأقلّية»، حتى وهُما معًا، تُعْتَبَرانِ أقلّيّةً إذا ما قُورِنَتَا بمجمُوعِ ما يُشكّلُهُ «الذين لا يُصوّتون».. الأغلبيةُ المطلَقَةُ من الشّعب هي إذن خارجَ الصّناديق، ومنها منْ يُبالُون، ومن لا يَعبأون، ومن لا يفهمُون.. ومنها أيضا الشريحةُ الأكثرُ وعيًا، وهذه نجدُها في ما يُعرَفُ بالطّبَقةِ الوُسطى، وهي تتكوّنُ من المثقّفين، والمتتبّعين للحركةِ السياسية الوطنية والدولية.. وهؤلاء غاضبُون من الأحزاب.. لا ثقةَ لهم في الأحزاب.. أحزابُنا ذاتُ عقليةٍ انتهازية.. لا تُقدّمّ للانتخاباتِ إلاّ نمطًا من المرشّحين.. جُلُّهم انتهازيّون.. يُحارِبُون الثقافة، والفنّ، والذوق... ويُحاربُون العِلْم.. والعُلماء.. وكلّ ما هو وعيٌ وتوعيّة.. ويُحرّضون على اللاّتعليم.. واللاّصحّة.. وبكُلّ وُضُوح: يُحاربُون الفقر، بسياسةِ مُحاربةِ الفُقراء! هم يَستحوذُون على أراضي الفُقراء، وينهبُون ما لغيْرِهم، ولا يُؤدّون الضرائب.. هكذا يُحرّضُون على انتشارِ الفقرِ في بلدِنا.. وعلى العمُوم يتعاملُون مع الخارج.. ولا يرون في الوطن إلا بقرةً حَلُوبًا.. واسألُوا البوادي، والأحياءَ المهمّشة.. اسألُوا الصحّةَ والتّعليم وغيرَهُما، تُدركُوا أنّ أحزابَنا تُظهِرُ التعاطُفَ الشّفَوي مع الفُقراء، وفي نفسِ الوقت تنهجُ سياسةً هي عكسُ ما تُظهِر.. إنها ليست مع الشعب، هي ضدّ الشعب.. هذا هو الواقعُ الذي أفرزته «الحركاتُ» الحزبيةُ في بلادِنا.. جُلُّ الأحزابِ هي على هذه المنوال.. انتهازيةٌ تُفرِزُ انتهازياتٍ في المجالس والحكومةِ وغيرِها... وفي «سياسيّينا» من يَجْهَرُ، بصددِ حُقوقِ التّقاعُد، أنّ «المغاربة» يعيشُون كثيرا! ماذا يعني هذا؟ هل يعني أنّ علينا أن نمُوت، قبلَ الأوان؟ سؤالان ضروريان عندما يصدُرُ التصريحُ عن مسؤولٍ يُساهمُ في رسْمِ السياسةِ الحكومية.. ومن في البلد أكثرُ استيعابًا للسؤال، واستقراءًا للجواب؟ إنهُ الفردُ الأكثرُ وعْيًا، وهو المثقّفُ الذي تُحاربُه الحكومةُ والأحزابُ ومن معَهُما من أباطرةِ «المالِ والأعمال».. وهذا ما يُفسِّرُ كونَ الرّمُوزِ العِلْمية والثقافية والفنية والإبداعية، وكذا البنايات، من مدارس ومَسارح وغيرِها، لا تُرصَدُ لها ميزانياتٌ كافية.. ويُفسِّرُ أيضا كونَ صحافيين وشُعراء وفنّانين وأساتذة وغيرِهم يُحارَبُون في أبسطِ حقُوقِهم الميعيشية.. ويُفسِّرُ كونَ أغلبيةِ المتقاعِداتِ والمتقاعِدين يعيشُون بلا أدنى حقُوق.. فترى مُتقاعِدًا يتقاضَى في مَعاشِه ملايين، وآخرَ لا تصِلُه إلاّ بِضْعُ دُرَيْهِماتٍ في نهايةِ كلِّ شهر.. وفي نفس الوقت، تجدُ الأغلبيةَ الساحقة من بنات وأبناءِ الشعب المغربي بدُون تغطيةٍ صحّية.. ناهيك عن تكاثُر العاطلين والمعطّلين! هل تُقدّمُ لنا الأحزابُ كفاءاتٍ وضمائرَ قادرةً على أن تُنْهيَ التّفاوُتَ الطبقي المُرعِب في بلدِنا؟ وعلى فرضِ هيْبَةِ القانُون؟ هل تستطيعُ بالفعل، لا بالقول، المساهمةَ في بناءِ وطننِا؟ هل لها برامج حقيقية، قابلة للتّنفيذ، أم فقط تهريجٌ في تهريج؟ وأصْلاً، أين هي هذه الأحزاب؟ إنّنا لا نرى قياداتِها إلا في التلفزيون.. وهي تحضُر في مواقعِ القرار، فقط لكي تجلسَ أو تنامَ أمامَ العدَسات.. وعلى العموم لا تأتي إلى دواوِيرِنا وأحيائِنا البسيطة، إلا في مَواسمِ الحمَلاتِ الانتخابية.. وكأنّ مُجْتمَعَنا ليس بحاجةٍ إلى حُلُولٍ جذرية، بل فقط إلى برلمانٍ صوري، وحُكومةٍ شكلية! ونحنُ نريدُ برلمانًا له فعَالية.. وضمير.. وحُكومةً عاقِلةً ووَطنيّة.. أمَا آنَ الأوانُ للانتباهِ إلى دورِ الأحزابِ في بناءٍ ديمقراطي حقيقي؟ والانتباهِ إلى فئةٍ عريضةٍ منَ «الذين لا يُصوّتون»؟ [email protected]