ظهرت عدة نظريات أطرت التوسع الحضري و الانشطة الزراعية الممارسة حول المدن منذ القرن 19م، من أهمها نظرية العالم الاقتصادي الالماني (Von Thünen)، الذي اعتمد على أسعار المحاصيل الزراعية في علاقتها بالمسافة و البعد عن السوق، و هي نظرية ساهمت في تأطير و تطوير عدة علوم، كالجغرافيا… حظيت هذه النظرية بإهتمام الدارسين و الباحثين بين مؤيد و معارض لها، الشيء الذي دفع بالكثير من العلماء إلى محاولة تطبيقها على مناطق مختلفة من العالم. فقد طبق تشزولم (CHISHOLM) فرضياتها على عدة دول أوربية و بعض الدول النامية، و خلص إلى أن النظرية قابلة للتطبيق على كل المجتمعات شريطة أن تتوافق الطبيعة الجغرافية مع بعض فرضياتها، و عليه يمكن تلخيص أهدافها الأساسية في النقط التالية: - توضيح أثر الموقع الزراعي بالنسبة للسوق؛ - إدخال عوامل جديدة لتفسير التباين في الانتاج الزراعي و كثافته؛ - ثم إبراز كيفية الاختلافات في الاستخدامات الزراعية بالتباعد عن السوق. كما أنه اهتم (فون ثونن)"بإقليمالمدينة" وهو المجال الذي يحيط بالمدينة حيث يخدمها وتخدمه. فالمدينة لا يمكن لها أن تظهر بدون ريف، و من الضروري تأدية أعمالها في مواقع مركزية (central places)، فالأصل في المدينة هو أنها تخدم منطقة تابعة، و أهمية وظيفتها هو العنصر الإقليمي(regional component) حتى أن فهم المدينة يصبح فهما ناقصا إذا لم يدرس على المستوى الاقليمي مع الريف المجاور، لأن هناك تفاعل وثيق بين المدينة وريفها، إذ يتكون من مجموعة من الأفعال وردود الأفعال المتبادلة، تنتهي في الواقع بإيجاد مركب إقليمي متميز. و الإقليم في رأي "ماكينزي" (McKenzie) هو "وحدة جغرافية تتجمع فيها أوجه النشاط الاقتصادي والاجتماعي للسكان، حول مركز اقتصادي واداري واحد" . وليس هذا التعريف إلا تلخيصاً لفكرة العلاقة والتكامل بين المدن والريف، وهي الفكرة التي ظهرت في تقسيم فيدال دي لا بلاش(P.Vidal de la Blache) لفرنسا، وتقسيم "فوست" (Fawcett, C.) لإنجلترا، وعندما انتشرت السكك الحديدية في كل منهما، أخذت أهمية المدن الإقليمية تزداد بوضوح، وكانت هذه المدن الكبرى هي الأساس الذي بنى عليه هذين الجغرافيين تقسيماتهما الإقليمية. -1إقليم فون ثونن: وضع فون ثونن (Von Thünen) أساس فكرة إقليمه في كتابه عن "الدولة المنعزلة" الصادر عام 1826، كان هذا الكتاب خلاصة لتجربته في إدارة مزرعته. ويتمثل إقليم "ثونن"، في أن دولته المنعزلة تتألف من مدينة واحدة محاطة بظهير زراعي، بينهما علاقة وثيقة تتمثل في اعتماد المدينة اعتماداً تاماً على ظهيرها في الحصول على حاجياتها من المنتجات الزراعية، مقابل اعتماد الظهير على المدينة في تصريف فائض إنتاج .كما تستغل كل أجزاء الظهير في إنتاج المحاصيل الفلاحية (الزراعة و تربية الماشية). أما سكان الإقليم فيتميزون بالنشاط والرغبة في مضاعفة مداخيلهم النقدية، ومن ثمة يحاولون خلق التوازن بين منتجات حقولهم من ناحية، وحاجة سوق المدينة من ناحية أخرى. وللإشارة فإنهم ينقلون منتجاتهم هاته إلى السوق بإستخدام العربة والحصان (وسيلة النقل المتاحة في عصر "ثونن"). وقد توصل هذا الاخير في ضوء الخصائص السابقة، إلى أن نمط الزراعة حول المدينة يتطور في نطاقات تأخذ شكل حلقات أو دوائر تتخذ من المدينة مركزا لها. بحيث تلعب تكلفة النقل الدور الحاسم في تقرير امتداد الحلقات بعيدا عن مركزها و هو المدينة، حيث تمثل هذه التكلفة مُتغيرا متحركاّ، في حين تتشابه بقية عناصر الإنتاج في كل أجزاء الإقليم، و قد بلغ عدد "حلقات ثونن" ستة حلقات و هي على الشكل التالي: الحلقة الاولى: هي أقرب حلقة إلى المدينة، تتخصص في إنتاج السلع سريعة التلف، كاللبن والخضروات،.. تتميز بإستمرار الطلب على منتجاتها، ومن تم يدفع سكان المدينة لمزارعي هذه الحلقة أسعارا تشجعهم على إنتاج هذه المنتجات في هذه الحلقة بدلا من الحبوب وغيرها، لأن وسائل التعليب أو التبريد لم تكن معروفة أنذاك. الحلقة الثانية: و تهتم بإنتاج أخشاب التدفئة أو الوقود، ويعتمد على مدى الطلب على الأخشاب وعلى تكلفة النقل. الحلقات الثالثة و الرابعة و الخامسة: تتخصص في إنتاج الحبوب وغيرها من المحاصيل. وتتميز باعتماد "الدورة الزراعية" حيث تترك أجزاء منها بدون زراعة خاصة في الحلقتين: الرابعة والخامسة، أي كلما بعدت المنطقة عن المدينة. الحلقة السادسة: و تتخصص في إنتاج المراعي وتربية الحيوان، وتصدر منتجات الألبان، التي لا تتلف بسرعة كالأجبان إلى سوق المدينة. كما تصدر الحيوانات التى تساق إلى هذا السوق دون أن تنقل لتقليل نفقات النقل. -2 إقليم كريستالر: تعبر نظرية "كريستالر" (Walter Christaller)عن المكان المركزي، وضعها سنة 1933،إستناداً إلى أفكار "مارك جيفرسون (Jefferson,M. 1931)التي اقترنت بالنظريات الخاصة بالأقاليم الوظيفية، لأن المركزية في نظر "كريستالر" تعني، أساساً درجة وظيفية يقصد بها تلك المراتب المختلفة للمحلات المركزية، وهي المحلات التى تتباين أقاليمها تبعا لمراتبها المختلفة .وهكذا فقد تكون المدينة: المكان المركزي قليلة السكان، ولكنها في الوقت ذاته تكون ذات أهمية كبيرة كمحطة مركزيّة تبعاً لامتداد الإقليم الذي تخدمه، أي بمركزية المكان (centrality of place) التي تتميز بها. والمركزية التى يعنيها "كريستالر" هي التي تعطي للمكان صفة الدائرة المركزيّة، وهي تتعلق بالوظائف المركزية(central functions) ، وكذلك بالسلع والخدمات المركزية. و يمكن تصنيف هذه الوظائف و السلع و الخدمات إلى درجات عليا ودنيا، حسب مراتب المحلات العمرانية. كان "كريستالر" يرى أن إقليم المكان المركزي هو إقليم متكامل (complementary)، نظرا لتكامل هوامشه (prepheries) مع نواته أو مركزه، والذي تتضح فيه العلاقات المتبادلة بين المدينة وظهيرها، و هي علاقات ايجابية بين الطرفين، وتعمل على ربط المدن بأقاليمها. كذلك كان يرى، أن ثمة نطاقات ذات أشكال منتظمة أقرب ما تكون إلى الشكل الدائري نظاما تتوزع بمقتضاه المجالات المركزية، بحيث يقل انتشارها كلما ارتفعت مرتبتها. تستند هذه النظرية على توزيع العمران وتحديد العلاقة بين أحجامها. تمثل المدن فيها مركزا لتقديم الخدمات لإقليم محدد ضمن مسافة و زمن مناسبين، و يحد فيها منطقة نفوذ المدينة بما يلائم حاجات سكانها من الخدمات و السلع، و لكل سلعة نفوذ خاص بها، آخذا بعين الاعتبار أن الشكل الهندسي السداسي شكلا "مثاليا" لإقليمالمدينة و مناسب لتقديم الخدمات المركزية في المدينة، و أوضح أن الشكل السداسي لا يترك فراغات بدون خدمة. مراجع : أسامة إسماعيل عثمان، الامكانات التخطيطية المتاحة لتطبيق نظرية الموقع الزراعي على محافظة البصرة و دراسة في التخطيط الاقليمي، جامعة البصرة، العراق، كلية الاداب، 2011 ،العدد. 55 أحمد محمد عبد العال، دراسات في الفكر الجغرافيّ، جامعة القاهرة، .2006 [email protected]