برقية تعزية من الملك محمد السادس إلى الرئيس الفرنسي إثر مرور إعصار تشيدو على أرخبيل مايوت    بوساطة ملكية حكيمة.. إنجاز دبلوماسي جديد يتمثل في تأمين الإفراج عن أربعة فرنسيين كانوا محتجزين في واغادوغو    وهبي يؤكد التزام المغرب بحماية حقوق الإنسان ومواجهة تحديات القضايا الناشئة    جلالة الملك يواسي ماكرون إثر مرور إعصار تشيدو على أرخبيل مايوت    المغرب وألمانيا يوقعان شراكة للتزويد بالماء الشروب المتكيف مع المناخ        رامي إمام يطمئن الجمهور عن صحة عادل إمام ويكشف شرطًا لعودة الزعيم إلى الشاشة    تركيا تدعو المجتمع الدولي لإزالة "هيئة تحرير الشام" من قوائم الإرهاب    "هيومن رايتس ووتش": إسرائيل ارتكبت جريمة ضد الإنسانية بحرمان الفلسطينيين من الماء في غزة    الوداد بدون جمهور يتحدى الجيش الملكي في القنيطرة    حكيمي ضمن أفضل 100 لاعب لسنة 2024    كيوسك الخميس | خبراء الداخلية يعملون على تقسيم إداري جديد    أعضاء المجلس الإداري لأكاديمية سوس ماسة يُصادقون بالإجماع على برنامج العمل وميزانية سنة 2025    مديرية الأمن تطلق البوابة الرقمية E-POLICE وخدمة الطلب الإلكتروني لبطاقة السوابق    بطولة فرنسا: ديمبيليه يقود باريس سان جرمان للفوز على موناكو والابتعاد في الصدارة    كأس الرابطة الانجليزية: ليفربول يواصل الدفاع عن لقبه ويتأهل لنصف النهاية    توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس    أكاديمية المملكة تشجع "محبة السينما" باستضافة الناقد إدريس شويكة    رسمياً.. الأمن الوطني يقدم جميع خدماته الإدارية للمواطنين عبر موقع إلكتروني    بعد التراجع 25 عاما إلى الوراء في مستوى تحصيل تلامذتنا في العلوم، هل تحدث الصدمة التربوية؟    ريال مدريد يتوج بكأس القارات للأندية لكرة القدم    الأندية المشاركة في بطولة القسم الممتاز لكرة القدم النسوية تعلن استنكارها لقرار العصبة الوطنية وتأثيره السلبي على مسار البطولة    فريق مستقبل المرسى ينتزع فوزًا ثمينًا على حساب فريق شباب الجنوب بوجدور        الولايات المتحدة.. الاحتياطي الفدرالي يخفض سعر الفائدة الرئيسي للمرة الثالثة خلال 2024    الملك يعزي الرئيس ماكرون في ضحايا إعصار تشيدو بأرخبيل مايوت    ما هي التحديات الكبرى التي تواجه القيادة السورية الجديدة؟    حجز آلاف الأدوية المهربة في مراكش    وزير الخارجية الشيلي: العلاقة الشيلية المغربية توفر إمكانيات كبيرة للتعاون    الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي يخضع للرقابة بسوار إلكتروني لمدة سنة بعد إدانته بتهم الفساد واستغلال النفوذ    فرنسا تقيم الخسائر بعد إعصار مايوت    شباب جمعية "أسوار فاس" يواصلون الإبهار بعروض مسرحية متنوعة بطنجة    تسجيل أول حالة إصابة خطيرة بإنفلونزا الطيور في أمريكا    شركة "أطلنطاسند" للتأمين تعلن عن تقليص مدة الخبرة والتعويض إلى 60 دقيقة فقط    الرجاء يستجدي جامعة كرة القدم لمساعدته في رفع المنع من التعاقدات    النقيب عبد الرحيم الجامعي يراسل عبد الإله بنكيران حول بلاغ حزبه المتعلق بعقوبة الإعدام    لماذا أرفض الرأسمالية ؟    بوريطة يؤكد الحاجة الماسة إلى "روح الصخيرات" لحل الملف الليبي    كلمة .. شعبنا آيل للانقراض    معاناة متجددة لمرضى السل بفعل انقطاع الدواء باستمرار        وداعا أمي جديد الشاعر والروائي محمد بوفتاس    المغرب وإسبانيا يعيشان "أفضل لحظة في علاقاتهما الثنائية" (ألباريس)    حفل توقيع "أبريذ غار أوجنا" يبرز قضايا التعايش والتسامح    مزور يشرف على انطلاق أشغال بناء المصنع الجديد لتريلبورغ بالبيضاء    جمعيات تعبر عن رفضها لمضامين مشروع قانون التراث الثقافي    تداولات الافتتاح ببورصة الدار البيضاء    اختيار الفيلم الفلسطيني "من المسافة صفر" بالقائمة الطويلة لأوسكار أفضل فيلم دولي    تطوان تُسجّل حالة وفاة ب "بوحمرون"    مزرعة مخبرية أميركية تربّي خنازير معدلة وراثيا لبيع أعضائها للبشر    علماء يطورون بطاطس تتحمل موجات الحر لمواجهة التغير المناخي    السينما الإسبانية تُودّع أيقونتها ماريسا باريديس عن 78 عامًا    السفير الدهر: الجزائر تعيش أزمة هوية .. وغياب سردية وطنية يحفز اللصوصية    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تكريس التخلف.. بين الاستثناء والقاعدة!
نشر في هسبريس يوم 11 - 05 - 2011

جرت سنة التاريخ أن يقاوم الفساد كل تغيير وتهدم معاوله كل محاولات الرقي؛ ومضت جريرة المفسدين -عبر العصور- تزرع الأشواك في طريق كل إصلاح، وتعطل آليات التجديد ومحاولات النهوض؛ وفي مقابل ذلك كله، تكتب آلة الإفساد لنفسها صكوك التقى والورع، وتضفي على حلتها لبوس الوقار والبراءة، لتقدم كيانها ضمن مشهد متفرد، يشذ عن القاعدة بأساليب "القاعدة" وينتسب للاستثناء خارج معايير "الاستثناء".
وبلغة البساطة التي أضحت لغة الواقع: كل الأنظمة العربية ادعت أن بلدانها "استثناء" حين شمّت رياح الإصلاح وأحست بنفحاتها تهب -كالعاصفة- على الكراسي الضامنة للامتيازات، ولم تدخر جهدا في تشكيل وعي مطبل لهذا الخيار الاستثنائي، وصل في بعض الأقطار حد الاستماتة السياسية، وعلى شاكلة من يطلب النجاة من النار وهو بين يدي الواحد القهار! لكن حين لم يسعف هذا الخطاب أربابه، وحين أصبح التغيير واقعا مفروضا لا مناص منه، لم تجد وسائل الدعاية بدا من تعديل تموقعها، والتعامل مع المعطيات السائدة على الأرض بشكل مختلف، منتقلة –بذلك- من موقع الدفاع (أو المراقبة) الذي وفرته مظلة "الاستثناء"، إلى موقع الهجوم (أو المبادرة) تحت ذريعة "القاعدة".
وتغني صيرورة الأحداث -هاهنا- عن الكثير من الأمثلة، لكن يكفي الرجوع إلى القاعدة العامة[1] التي حكمت تصرف الأنظمة قبل وبعد تحرك الجماهير في كل من اليمن وليبيا وسوريا (وقبلهما مصر وتونس) لتتضح الصورة بهذا الخصوص؛ فما يهمنا في هذا المقال بالذات، هو التطرق للحالة المغربية بشيء من التفصيل، واختبار النظرية التي تقول: إن الحديث عن الاستثناء المغربي -في سياق التحولات التي تشهدها المنطقة- لم يكن سوى تعامل مع الواقع بنفس القاعدة (أو القواعد) التي أطّرت جل التحركات الرسمية -عبر الامتداد العربي- لاحتواء الحراك الشعبي في مهده. في حين أن "الاستثناء" الحقيقي لم يتبلور إلا مع الطريقة التي تم بها توظيف "القاعدة" (أي تنظيم القاعدة) ضمن ذات القاعدة (أو القواعد) التي سعت إلى التحجير -مجددا- على وعي الشعوب، وتكريس التخلف بإيجاد مبررات تبقى فيها كلمة المتحكمين والمتنفذين هي العليا، وما يعنيه ذلك من سيادة المنطق الأمني-الاستخباراتي، وبكل ما يتيحه من تشويش (في الحد الأدنى) على المطالب المشروعة التي تتغيى الانعتاق من منظومة الفساد والمفسدين والتحرر من الظلم وقبضة الظالمين.
وإذا ما وضعنا الخصوصيات المغربية بعين الاعتبار، خاصة ما تعلق منها بالطريقة التي يقدم بها الشعب مطالبه في جهة، وطريقة التجاوب الرسمي (ومن أعلى مستوى) مع هذه المطالب والتحركات الشعبية التي يقودها الشباب في الجهة الأخرى؛ فإنه يتضح أن هناك جهات لا يريحها أي إصلاح سياسي، ومهما كان رمزيا، على اعتبار أن الاستجابة -لأي مطلب- في حد ذاتها، تشكل تهديدا حقيقيا للمصالح السياسية للجهات المتنفذة، وما يتبعها من تهديدات (مباشرة أو غير مباشرة) لامتيازاتها الاقتصادية، ناهيك عن اضطراب منظومة الإفساد في واجهاتها الثقافية والاجتماعية والإعلامية... الخ. فالمعركة إذن ليست قضية وجود عضوي فحسب، وما يتطلبه ذلك من توفير الشغل والسكن والتعليم والصحة... وإنما قضية وجود نوعي، تتطلع للكرامة والحرية والعدل والمساواة وكل ما يحترم الإنسان كذات واعية تنأى بنفسها عن تأثيث سياسة القطيع التي تؤطر مشهد الدول المتخلفة!
وحين تسعى تلك الجهات إلى كبح الإصلاح والتغيير بهذا الشكل؛ فإنها -في الواقع- تسعى إلى تكريس التخلف الذي يخدم مصالح سلالتها و/أو أسيادها فقط؛ سواء أكان المبرر ينحو تجاه "الاستثناء"، أو كانت الذريعة تشير نحو "القاعدة"! وبالرجوع إلى تفجير مراكش الإجرامي (بكل معاني الجريمة[2])، يمكننا قراءة الرسالة برويّة وتمعن، وجمع الصورة المشتتة والمعطيات المتباعدة، لنقترب (ولو قليلا) من الجهة المرسلة، والتي يبدو أنها كانت ذكية في خط رسالتها، وبارعة أيضا في تنزيل مضمونها!
تحدثت التقارير الرسمية عن وجود "بصمة القاعدة" في هذه العملية، ونحن نحترم هذا الرأي ويكاد الكل يتبناه، لكن مع فارق في تصريف الموقف؛ إذ الحديث عن "بصمة" القاعدة يعني أمرين؛ إما أن "القاعدة" فعلا هي من خططت ونفذت، وإما أن الجهة التي دبرت التفجير تعرف جيدا "بصمة القاعدة" وخبرت أسلوب القاعدة في تنفيذ مثل هذه الأحداث، ما يعني أنها قريبة من الدوائر الأمنية، ولا تبعد كثيرا عن دواليب الأجهزة المهتمة بهذه القضايا. ومن يريد الربط السريع بين وجود "بصمة" وبين تنفيذ القاعدة للعملية، فكأنما يريد التدليس وخلط الأوراق لصرف الأنظار عن أي احتمالات أخرى ترتبط بالعناصر التي سنوردها تباعا ضمن هذا المقال. ويكفي –هاهنا- التذكير بإشارتين اثنتين تضعنا أمام قناعة قوية لتورط جهات غير تنظيم "القاعدة":
الإشارة الأولى، وهي دأب التنظيم على الخروج ببيانات تتبنى أي عملية نوعية ناجحة، فتكون بمثابة فخر للتنظيم ودعامة معنوية معتبرة لمنتسبيه، خاصة وأن المغرب عرف تفكيك العديد من "الخلايا الإرهابية"؛ وهو ما كانت ستعتبره "القاعدة" ردا لصاع الأجهزة الاستخباراتية بصاعين، أي بنجاح الاختراق الأمني أولا، وباستثماره إعلاميا في المقام الثاني، الشيء الذي لم يحصل لحد الآن! ولا نعتقد أنه سيفي بغرض من سيجعله حاصلا بعد مرور كل هذا الوقت!
والإشارة الثانية، تتمثل في إعادة بعض المقاطع القديمة للتنظيم على "اليوتيوب" إلى الواجهة، وتقديمها على أنها تهديد جديد يسعى لضرب المصالح المغربية، علما أن النشاط الميداني والإعلامي ل"القاعدة"، عرف -بشكل عام- أفولا معتبرا بعد التحركات الشعبية[3]. ومراوغة الوقائع بهذا الشكل لا يوحي إلا بوجود طرف ما يحاول أن يوطد علاقة "القاعدة" بالتفجير، ويستبق التحقيقات التي أكدت المعطى الإجرامي بعد أن حُمّل "غاز البروبان" مسؤولية الانفجار للوهلة الأولى! أو هكذا على الأقل، أريد للظروف أن تتهيأ لخروج كل الأطراف من قفص الاتهام غير تنظيم "القاعدة" إذا لم تصْدُق نظرية القنينة!
وبالرجوع لحيثيات التفجير (من زمان ومكان وطريقة التنفيذ...) تطلعنا "سكتلانديار درْب غلّف" على العديد من الإشارات الهامة، نوردها -فيما يأتي- مركزة ومختصرة، ونترك للقارئ أن يشكل قناعته الخاصة عن الجهة التي قد تكون ضالعة في هذا التصرف الجبان:
أولا من حيث الزمان:
أجمع المتتبعون، لاسيما السياسيون والمتحزبون منهم، بأن توقيت الحادثة غير بريء، وهو كذلك بالنظر لمجموعة من المعطيات؛ لكن قبل الخوض فيها، لابد من الإشارة إلى أن الاختيار الزماني -في حد ذاته- يعبر عن وجود خطة دقيقة ومحكمة، تكاد تجعل من عنصر التوقيت رابطا محوريا بين باقي العناصر، وهو ما يكتسي أهمية بالغة بالنظر أولا لتاريخ وساعة التنفيذ، وثانيا باستحضار المدبرين ضمن خلفية التحليل؛ أي أن البحث في المعطى الزماني -لذاته- مهم، لكن الأهم هو أن هذه الخطة في طريقة إخراجها تدفعنا للاعتقاد بأن الجهات المدبرة أخذت وقتها الكافي في إعداد الخطة، وتفرغت لتدقيق المعطيات ومتابعة المجريات الميدانية بشكل حثيث، ما يعني قدرة المدبرين على توفير الجانب المعلوماتي إلى جانب الأداء العالي في توظيف اللوجستيك المطلوب (أموال، وسائل تنقل، مواد متفجرة، تقنيات لاسلكية...)، وهذه العناصر لا يمكن أن تتوفر إلا في جهة تملك من القوة والنفوذ والجرأة ما يكفي لتسهل مأمورية المرتزقة الذين يشتغلون على الأرض.
وإذا ما تطرقنا لعنصر الزمان بشكل مباشر؛ فالتفجير يأتي في مرحلة يعرف فيها المغرب دينامية إصلاحية بغض النظر عن القناعات المختلفة التي تقيّم تدبير ورش الإصلاح. كما تأتي بُعيد انتهاء الجولة الرسمية الثالثة من احتجاجات الشارع التي يقودها شباب 20 فبراير، وفي جو ينذر بتصاعد وتيرة الحراك الشعبي لمواجهة العديد من الجيوب الوازنة التي مازالت تقاوم التغيير وتبخس الفعل الجماهيري، وفي بيئة تُفتعَل فيها العديد من الأحداث للتقليص من قوة التركيز على مطالب الإصلاح لحساب قضايا جزئية رغم أهميتها الآنية (متابعات قضائية، تجييش إعلامي... الخ).
كما تأتي حادثة مراكش قبل موعد الإعلان عن مقترح التعديلات الدستورية التي ستعرض على أنظار الشعب، ولعل التفجير كان مناسبة لتذكير هذا الشعب بأحداث 16 ماي الإجرامية وبكل تبعاتها، خاصة وأن ورش الإصلاح فرض إطلاق سراح العديد من المتهمين سابقا ضمن ذات الملف، إلى جانب قياديين إسلاميين أصبح الجميع يعلم الحسابات التي أودعتهم السجن؛ في الوقت الذي تعالت فيه مطالبات الحقوقيين بإطلاق كافة المعتقلين المظلومين وهم بالعشرات. فهل كان التفجير محاولة لحماية ما تبقى من مكتسبات ما بعد 16 ماي التي أضحى انفراطها يزعج من استفادوا منها؟!
ولا يجب أن ننهي هذا المعطى الزماني دون التطرق لتوقيت الانفجار من زاوية عيد الشغل، وما يتيحه فاتح ماي من قوة التعبير الجماعي عن مطالب الإصلاح وبالجملة، وهو ما يشكل أول اختبار حقيقي لأئمة الفساد أمام التحام شرائح وفئات واسعة من المجتمع، خاصة وأن الشعارات كانت معروفة بأنها ستتوحدّ ضد المفسدين. ولعل التفجير أخذ شيئا من حيز اللافتات والكلمات، لكنه لم يأخذ من وقت المطالبة بالإصلاح شيئا، ولم يزد المطالبين بمحاربة الفساد إلا تركيزا على رؤوس بعينها. فهل أحسنت الضربة التوقيت أم كانت وبالا؟! الله أعلم!
ثانيا من حيث المكان:
اختيار مراكش يحمل رسالة استباحة لكل الإمكانات والمقدرات الاقتصادية للبلاد، ويبلّغ الرأي العام أن المدبرين قادرون على تنويع الأهداف والوصول إلى كافة ربوع الوطن؛ فبعد الدارالبيضاء، القلب النابض لاقتصاد المملكة، جاء الدور على مراكش التي تمثل القلب النابض للسياحة بالبلاد، والتي أصبحت تعرف إقبالا متزايدا، ليس لأن الوقت يقترب من موسم الصيف وحسب، وإنما لأن هناك العديد من وكالات الأسفار عبر العالم (لاسيما من جنوب أوروبا) غيرت حجوزات زبنائها تجاه المغرب بعد التحولات الطارئة التي حصلت في دول عربية منافسة كتونس ومصر.
ولاشك أن هذا الاختيار المكاني، إلى جانب التوقيت، يقربنا أكثر فأكثر من سمات المدبرين، فمن يقرأ الخارطة الاقتصادية والوضع الدولي بهذه الاحترافية، ويعرف الفرص التي أضحت تتيحها قطاعات بعينها للاقتصاد الوطني، ويملك القدرة على العبث بها في توقيت حساس، لاشك أنه يبعث برسالة عميقة، إحدى مفاداتها يلخصها المثل القائل: "عليَّ وعلى أعدائي"؛ ونحن فهمنا من شِفرة هذه البرقية أنها تقول: إما أن يبقى الحال على ما هو عليه (وبالشكل الذي يحفظ الامتيازات) وإما لن ينعم أحد باقتصاد تهب عليه رياح التغيير والإصلاح ويطير فجأة من أيدينا!
ثالثا في طريقة التدبير والتنفيذ:
ونحن نتقدم في تحليل المعطيات، تحذونا قناعة كبيرة بأن الجهة التي دبرت الأحداث الإجرامية بالبيضاء (2003) هي نفسها التي خططت لعملية مراكش (2011)، ويبدو أن هذه الجهة استفادت من بعض الثغرات التي خلفتها أحداث 16 ماي، والتي ما كانت لتُتجاوز بسهولة لولا مناخ الترويع والتكميم الذي مورس حينها في مختلف الواجهات (الإعلامية، القضائية، السياسية، الأمنية... الخ).
وأبرز ثغرة تمت الاستعاضة عنها، هي توظيف العنصر البشري ضمن عناصر العملية، ليتم تعويضه بتقنية التفجير عن بعد، وهي تقنية فعالة ومأمونة العواقب، ويمكنها أن تمحو الكثير من المتاعب المستقبلية، من شاكلة ما يقع -لحد الآن- من تصريحات لمعتقلي ما يسمى "السلفية الجهادية"[4]، والذين تبرؤوا من كل الأحداث والتهم المنسوبة إليهم. وهنا بالذات، يجب أن نستحضر تساؤلين على الأقل: يتعلق الأول بالملقب "مول الصباط" وظروف وملابسات تغييبه، خاصة وأن تصريحاته كانت ستكشف عن المتورطين الحقيقيين في التدبير؛ والثاني يتعلق بالاعتراف الذي نشر إبانه في جريدة "الصباح" والذي يعترف فيه من وصف ب"المسؤول الأول" عن العملية، يعترف بأن المتفجرات وصلت المنفذين جاهزة، وأغلبهم من ذوي مستويات علمية متدنية، بعضهم لا يعرف حتى الكتابة فكيف يدبر لعملية بحجم ما وقع في 16 ماي، ووجه حينها أصابع الاتهام مباشرة لجهات، اعتبر أنها استغلت حماستهم واندفاعهم باسم الدين ضمن أجندتها الخفية! والتي ربما لم تعد "خفية" بعد مرور ثماني سنوات!
رابعا من حيث الضحايا:
بالرجوع لمعطى الضحايا، تتعزز -بشكل قوي- نظرية استبعاد "القاعدة" وضلوع جهات محلية لا يخدمها التفاعل الشعبي والرسمي الحالي؛ إذ لو كانت هناك رغبة لاستهداف الأجانب (كل الأجانب) كما تفعل القاعدة، لحصل التفجير في توقيت الذروة وبشكل أقوى، ولكان عدد الضحايا (من الموتى خصوصا) أكبر بكثير مما حصل، لكن تداخل حسابات الاستهداف مع باقي العناصر السابقة جعل الأمور تسير وفق ما هو معروف من معطيات لحد الآن.
وسقوط عدد كبير من الضحايا الفرنسيين، مقارنة حتى مع المغاربة، يجعل الفرضية تسير في اتجاه استهداف التفجير للسياح الفرنسيين بالذات، وكأن هناك من يريد أن يشغل الآلة الدبلوماسية الرسمية ويشوش على الحراك الرسمي باستعداء المستعمر السابق على جهود الإصلاح الحالية، وتحميل الحراك الشعبي "المسؤولية المعنوية" عن مقتل الفرنسيين! أو على الأقل، توفير العذر المبيح للتدخل الفرنسي في الشأن المغربي الداخلي، وطبعا من خلفه الامتداد الفرنكفوني الذي يحمي المصالح الاقتصادية والسياسية لجمهورية "موليير" داخل الوطن؛ وكأني بلسان حال المدبرين يقول: حمينا المشروع الفرنكفوني ومصالحه، وهانحن نقدم لفرنسا الذريعة لتحمينا من زحف الشعب على مصالحنا التي هي جزء من مصالح فرنسا والفرنكفونية بالمغرب! وحين يفتح "ساركوزي" فمه متوعدا المعتدين، يخال المرء وكأن الرئيس الفرنسي يتحدث عن مقاطعة تدين لفرنسا بالولاء، وليس عن دولة مستقلة وذات سيادة! ويتناسى أن تربية فرنسا قد تسيء للفرنسيين، إذا كان فعلا يهم الرئيس الفرنسي أمن وسلامة وكرامة مواطنيه! وإذا كانت تهمه أيضا سمعة فرنسا وتقدير سياستها الخارجية!
هكذا إذن، لعب المدبرون بعضا من آخر أوراقهم لتوفير المظلة الخارجية التي تحمي كياناتهم ومصالحهم، خاصة إذا لم تؤت التفجيرات أكلها وتحقق أهدافها المباشرة؛ ما يعني أن التحقيقات الحالية، والتي يشارك فيها فرنسيون (فضلا عن الإسبان)، قد لا تخرج بنتيجة موضوعية، وهو ما يحتم على المغاربة أن يستعينوا بجهودهم الخاصة للوصول إلى الحقيقة، وهم أقدر على بلوغ هذه النتيجة إذا كانت هناك إرادة فعلية.
وحتى لا نستبق بعض التطورات التي أصبحت إرهاصاتها تبزغ شيئا فشيئا، وحتى نلتزم بالتحليل الموضوعي، فمنطق الأحداث -كما يبدو- لن يخرج عن دائرة المؤامرة في التفجير، لكن من زاوية تنفيذ لا تحمل "بصمة" القاعدة فقط، وإنما تحمل أيضا "تخطيط" القاعدة وما جوارها، ما يعني تكرار سيناريو 16 ماي بإخراج جديد. لكن حتى ومع هذا الحال، تبقى هناك مؤشرات ينبغي الالتفات إليها؛ فإذا كانت أحداث 16 ماي الإجرامية قد تمخض عنها تنزيل ورش "الإصلاح الديني" كإجراء استباقي لتفادي مسببات التطرف باسم الدين؛ فإننا اليوم، ومع اقتراب موعد "الإصلاح العميق والشامل"، أمام حاجة ماسة لإطلاق ورش استباقي جديد يجنب البلاد والعباد مآسي التطرف الدنيوي-المادي بجميع أبعاده، والبداية بالمجال السياسي مع إبعاد كافة الوجوه التي ينادي الشعب بإسقاطها من مراكز القرار الحساسة بالبلاد، والقطع مع سياسة الحزب الوحيد وكل إفرازاته، والرقي بالشأن السياسي وإعادة مصداقيته وفاعليته؛ ثم في مجال الاقتصاد بالقضاء على بيئة "الريع" وسياسة "الامتيازات" و"احتكار الثروة"؛ على أن يشمل الإصلاح أيضا مجال الثقافة والإعلام وبكل ما يحترم القيم المغربية وينهض بالمواطنة الصالحة ويحترم الشعور العام للمغاربة، فلا يمكن في زمن التغيير أن يصدق المغاربة خطاب الإصلاح وهم يرون تبذير المال العام في المهرجانات والحفلات والمسلسلات والأفلام التي لا ترقى بفن ولا ترتفع بذوق!
والأمّة قبل وبعد ذلك كله، مستعدة لأداء ضريبة التغيير والإصلاح؛ لأنها تعلم أن ما يهدد المغرب في المرحلة القادمة أكبر من أعضاء "القاعدة" الذين ليس لهم ما يتركون وراء ظهورهم، أما الذين يجثمون على صدور المغاربة في كافة مناحي الحياة، فهم الذين سيخسرون الكثير، ورأسمالهم في السياسة والثقافة والاقتصاد جبان، وضربة الجبان لا يمكن توقعها أين ومتى ستأتي! وحينها سنكون أمام تمظهرات جديدة لمسمى تنظيم "القاعدة"، لكن بنفس الآليات التي تكرس التخلف! وهو ما لم يعد الشعب يطيقه أو يريده! ويجدر بنا في الأخير أن نذكر من يعنيهم محتوى هذه الرسالة بالمثل المشهور، والمفهوم جيدا: قد تستطيعون قطف كل الزهور، لكن لن تستطيعوا وقف زحف الربيع!
[1] ونحن نضع اللمسات الأخيرة على هذه المقالة، كان لابد من الإشارة إلى أن هذه القواعد تكتسي طابع العموم لأنها تربية أمنية وسياسية موحدة تأتي عادة من نفس المصدر، الذي ليس سوى شرطي العالم ومتزعم النظام العالمي الجديد. فلا غرابة إذن، وأمام تهدد المصالح الأمريكية في المنطقة العربية، من أن يرمي البيت الأبيض لمن تبقى من حلفائه بطوق نجاة، من خلال خبر مقتل "أسامة ابن لادن"، إمعانا في التشويش على مطالب الشعوب التي لا تخدم المشروع الأمريكي ولا تحمي مكتسباته بالمنطقة. وهذا الأمر جدير بالمتابعة والتحليل لتفكيك باقي خيوط المؤامرة التي تكرس واقع التخلف العربي-الإسلامي، والتي تجد لها خداما مخلصين من داخل الأقطار العربية.
[2] وهنا لا نتحدث فقط عن جريمة في حق الإنسانية التي سقط منها ضحايا أبرياء، وإنما جريمة في حق التاريخ أيضا وصيرورته التي لا تقبل الركود أو الركون! وإنما تجعل من التغيير حتمية لا مفر منها، شاء من شاء وأبى من أبى!
[3] وكأن العقول المدبرة في تنظيم القاعدة تراهن -مرحليا- على التغيير الذي كانت تنشده من خلال الشعوب، وهو ما إن حصل سيعتبر تحولا فارقا في تاريخ المنطقة العربية-الإسلامية، ما يعني أن التنظيم قد يتفرغ لأولويات جديدة على ضوء ما ستسفر عنه التحولات الإقليمية.
[4] والحديث في هذه المرحلة عن "الفكر" الجهادي بعيدا عن مصطلح "السلفية" الجهادية يعكس العديد من الدلالات التي تؤيد وجهة نظرنا في هذا الطرح.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.