المتابع لمسيرة تاريخ الإسلام لا يمضي بعيدا حتى يكتشف ما أثله الإسلام في الأمم التي دانت به من منجزات حضارية باهرة على كل صعيد، إن في المجال العلمي أو الأدبي والفلسفي أو القانوني، كما لن تعزب عنه منجزات قرنين على صعيد الإصلاح الشامل الذي ظلت مشاريعه من أجل النهوض اكتسابا لناصية البحث العلمي والتقدم الصناعي واستقلال القرار السياسي، تتعرض بشكل دوري ثابت لعمليات إجهاض تتولى كبرها القوى الغربية المتغلبة؟ فهل ستتبع التجربة الإيرانية نفس مسار التجارب السابقة منذ محاولة محمد علي، لتقف حسيرة أسيفة أمام واقع الهزيمة المر؟ أم سيكون حظها أسعد وكسبها أرشد؟ 1 - لقد قدمت سابقة الخلافة الراشدة ريادة عظيمة في مجال إدارة الشأن العام إدارة شورية تحل فيها السياسة محل القوة ويحل فيها العدل محل الرهبة مصدرا لشرعية السلطة، حتى أمكن في وقت مبكر أن يتحقق تداول سلمي للسلطة عبر عملية سياسية شورية راقية، كانت استثناء في السياق العالمي السائد حيث تسود أنظمة الملوك المتألّهة. إلا أن التجربة لم تعمر أكثر من أربعين سنة، بدأ انخرامها بمقتل الخليفة الثالث المنتخب.. وانتهت بمعركة صفين حيث تولى السيف حسم الصراع داخل المعسكر الإسلامي، في نوع من العودة للنظام القديم. ورغم المحاولات المتكررة عبر تاريخ الإسلام الممتد لاستعادة النموذج الراشدي، فإن السيف ظل حتى يومنا هذا العامل الحاسم في المعركة على السلطة ومصدر شرعيتها. 2 - وبسبب ما آلت إليه المحاولات المتكررة من فشل وما جلبته معها من فتن وكوارث مثلت تهديدا لوحدة الأمة، فقد مال جل الفقهاء -وهم أهل الرأي في الأمة، وأصحاب السلطة الفكرية والتشريعية- إلى إيلاء الأولوية للوحدة على العدل والشورى، فاعترفوا -مخطئين- بحكم المتغلب باعتباره أمرا واقعا تضفى عليه الشرعية، فيبايع، شريطة التزامه بالشريعة حسبما يستنبطه العلماء من الوحي، منفذا ما يقضون به -في ما لا علاقة له بالسياسة- وحاميا بيضة الأمة. وقد أشبه ذلك الصفقة التاريخية، صفقة شراكة بين العلماء والحكام، صفقة أفرزت المعادلة التاريخية التي استمرت حاكمة عالم الإسلام ما بعد الراشدين، ولم يبطل مفعولها ويجهز عليها غير مدافع الفرنجة تدك حصون المسلمين منذ بدايات القرن التاسع عشر، وتدك معها معادلة الحكم تلك، وتفكك بنية المجتمع الإسلامي التي يحتل فيها العلماء قلب مركز الدائرة، دافعة بهم إلى الهامش من خلال تجريدهم من مصادر قوتهم، بدءا بمصادرة الوقف، العمود الفقري لقوتهم وقوة المجتمع الأهلي، بتخليق نخب، بقيم ورؤى، هي امتداد للنفوذ الاستعماري، وإرساء قيم ونظم، لا مكان فيها للدين وعلمائه في غير الهامش، بما نقل هؤلاء من كونهم مصدرا لشرعية الحاكم والحكم ومدرسة لتصنيع النخب وتثقيف الأمة والوسيط بينها وبين الحاكم، إلى كونهم مجرد هامش في الدولة الحديثة وموظفين صغارا. 3 - قامت، على امتداد عالم الإسلام منذ قرنين، حركات إحيائية تنفض عن الإسلام غبار الانحطاط، من بدع وخرافات، وتعيد من خلال فكر التجديد الفعالية إلى المسلم، قوة فعل في التاريخ، وتستأنف الحوار المقطوع بين الإسلام وبين ضروب التطور ومنتجات الحضارة الحديثة العلمية والتقنية والفكرية السياسية، وذلك عن طريق إخضاع الوافد الغربي للنقد وتمحيصه لاقتباس ما هو نافع متساوق مع الإسلام وطرح ما هو مرذول. وكان من نتائج هذه الحركة الإحيائية أن دبت الحياة في الجسم الإسلامي المخدر، فكانت حركات الجهاد التي ما عتمت أن طهّرت أو كادت عالم الإسلام من الوجود العسكري الأجنبي، وعزمات المجاهدين تطارد فلول ما تبقى. كما كان من ثمارها تفعيل آليات الاجتهاد، تفعيلا للعلاقة بين الدين والواقع، بما أنتج فكرا إسلاميا معاصرا، تفاعل مع الحداثة واستوعبها ووظفها في خدمته، والعملية لا تزال جارية. كما كان من نتائجها نشوء حركات إسلامية على امتداد عالم الإسلام تجاهد من أجل إعادة بناء مجتمعات الإسلام على أساس الإسلام مستوعبا للعصر، أفادت من المستويات الدراسية الحديثة لأبنائها، كما أفادت من الفشل المتكرر المتفاقم لمشاريع النهوض التي تأسست على محاولات المحاكاة الفجة للغرب. 4 - لقد فشلت التجارب التنموية التي قامت على فكرة المحاكاة للتجارب التنموية الغربية والشرقية، فشلت على صعيدين مهمين: داخليا، فشلت في تحقيق مستوى معقول من التنمية الاقتصادية والاجتماعية -وبالأخص التنمية السياسية المتمثلة في بناء سياسي شوري ديمقراطي، على أساس ولاية الأمة على حكامها- يحترم الحقوق والحريات ويحفظ مقومات العيش الكريم للمواطن، وينقل الصراعات داخل المجتمع -ومنها الصراع على السلطة- من سبيل التعانف والحسم بالقوة إلى المستوى السياسي، وهو ما نجح فيه الغرب عبر الالتزام بآليات الديمقراطية سبيلا وحيدا إلى حسم كل الصراعات الفكرية والسياسية، ومنها الصراع على السلطة. الفشل في ذلك انتهى بالأنظمة السائدة في الأمة إلى العزلة عن شعوبها، بما أعاد إلى الأذهان صورة الاحتلال بل أسوأ، وكان ذلك مصدر الكوارث التي حلت بالأمة. لقد فشلت هذه الأنظمة في إدارة الشأن العام ديمقراطيا، فساد الاستبداد والفساد، وقاد ذلك إلى فشل جملة المشاريع التنموية، كتطوير بنية علمية وصناعية قوية تكفل استقلال البلاد، بمعنى استقلال قرارها. وكان من الطبيعي أن يقود الفشل التنموي الداخلي إلى فشل خارجي شنيع في رد العدوان على الأمة، والذود عن حماها؛ وكارثة فلسطين شاهد. وبلغ التناقض والتكايد بين الشعوب والحكام درجة التنافس على الاستظهار بالأجنبي، حتى رفض معتقلون تونسيون في غوانتانامو أن يسلموا إلى بلادهم. أما الأزمة مكثفة فيلخصها استدراج المعارضة للاحتلال سبيلا إلى الخلاص. 5 - وكانت من أولى تلك التجارب النهضوية تجربة محمد علي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، حيث تمكن من تعبئة موارد مصر وموقعها لبناء قاعدة صناعية وعسكرية قوية، مستفيدا من التناقضات الأوربية ومن خبرة بعض دولها، إلا أنه ما إن قطع شوطا على طريق بناء قاعدة صناعية قوية وجيش حديث شرع في توحيد المنطقة وتجديد نظام الخلافة المهترئ، حتى تصدت له الأساطيل الأوربية مجتمعة وكسرته وردّته على أعقابه، بل حتى فككت قاعدته الصناعية وحجمت قوته العسكرية، فارضة على خلفائه الاستلحاق بل الاحتلال. ورغم أن التجربة انطلقت مشروعا مشتركا بين حاكم ومؤسسة دينية، هي الأزهر، فإن شهوة الملك وحب الانفراد قاد الحاكم ذا التقاليد السلطوية العريقة إلى الانفراد بالأمر وتهميش العلماء، شركاء المشروع، مما آل به إلى مشروع سلطوي وحرمه من العمق الشعبي والمخزون الديني، المفجّر الأعظم للطاقات في أمتنا.