الانقلاب السياسي ونظيره العسكري عاشت تركيا ؛ بعد مصطفى كمال أتاتورك مجدد دولتها ؛ فترات حالكة ، اتسمت بتوالي الانقلابات العسكرية وهيمنة سلطة العسكر ، طالت جميع مؤسسات الدولة ومرافقها .. ظلت مجتمعة في أيدي حفنة من الجنرالات الأتراك ؛ يتلاعبون بها في تولية هذا والانقلاب على ذاك ؛ تبعا لمصالح كانت تحركهم من الخارج . وهذا يكشف بوضوح هوية الانقلابات المتوالية التي تبدو سياسية في تمظهراتها ، ولكنها عسكرية من ( تدبير ) العسكر في منابعها وتدبيراتها . الأطراف الفاعلة في مشهد الجمعة الحاسم أجمعت كل التقارير والقصاصات الإخبارية المتداولة ، والمعاينة المباشرة أن هناك ثلاثة أطراف فاعلة في المشهد الانقلابي العام بتركيا : الرئيس والشعب والجيش . فكل المقاربات الأفقية والعمودية التي تناولت المحاولة (الانقلاب) من ساعة صفر حدوثها إلى فشلها ، عزت ذلك إلى حسن تدبير الأزمة التي تحلت بها نداءات الرئيس في الساعات الأولى من حدوث التمرد في صفوف فئات الجيش ، ولعل أشهر نداء له عبر هاتفه النقال كان موجها إلى الشعب التركي بضرورة نزوله إلى الشوارع والميادين في أنحاء تركيا ، والوقوف في وجه الانقلابيين . استجابة الشعب التركي بكل أطيافه باستجابته لنداء رئيسه الشرعي أردوغان ، يكون ؛ هذا الشعب ؛ قد ضرب أروع الأمثلة في البطولات ، والتضحية والوطنية الصادقة ، إلى جانب تحليه بوعي سياسي عز نظيره .. وقد كشفت بعض الصور المتداولة احتكاك الجماهير الشعبية بالآليات العسكرية ، وهي تجوب الشوارع ، ووقوفها سدا منيعا في وجه جبروت الجيش بالرغم من إطلاق االرصاص الحي ، وصفارات الإنذار في وجه الحشود الجماهيرية بمختلف أطيافها وأعراقها ، ومشاربها السياسية ؛ كانت في الموالاة أو المعارضة أو مستقلة ، علمانية إسلامية محافظة أو حداثية .. فلم تنل منه كل أشكال التهديدات التي استخدمها العسكر لثنيه عن إخلاء سبيله في الشوارع والميادين . الجيش التركي الجيش التركي ؛ مؤسسة تتحلى بكثير من انضباط النفس والوطنية ، وليست مجرد آلة للبطش والقتل ، بالرغم من خضوعها لتعليمات كبار ضباطها . لكن وبعد اصطدامها بوطنية الشعب القاهرة ، تراجعت إلى الخلف وأخذت تبحث عن مهادنة الجماهير الشعبية ، بيد أن هذه الأخيرة وتعاظم موجاتها ، كسرت من حدة قوات العسكر وأرغمتها على تغيير مواقعها تحت حصار الشعب الذي سارع ؛ في الساعات الأخيرة من المحاولة الانقلابية ؛ إلى الانقضاض على وحدات الجيش وشل حركاته في كثير من المواقع .. والذي كان إيذانا بالفشل الذريع للانقلاب . الشعب التركي يوجه صفعة تاريخية للحاكم المصري في الساعات الأولى من محاولة الانقلاب العسكري في تركيا ، شرعت وسائل الإعلام المصري في التهليل والتصفيق للجيش التركي ، وفي آن التنديد بالنظام التركي بزعامة أردوغان .. لكن هذا " الحراك العسكري المصري " سرعان ما أصيب بالخرس والوجوم ، وهو يشاهد ؛ في وقت قياسي ؛ عودة الشرعية إلى تركيا على يد الجماهير الشعبية التي واجهت ؛ بصدور مكشوفة ؛ كل آليات القمع والبطش التي كانت تجوب كبريات الشوارع والميادين في كل من اسطنبول وأنقرة وإزمير .. فدرجة الوعي السياسي ، والالتحام الجماهيري جد كبيرة ، بمقارنتها بالشعب المصري الذي يهاب الجيش ، ويخشى فرعونيته التي لا يمكن لأحد مقاومتها ، فهي ( أي المؤسسة العسكرية الحاكمة بمصر ) قادرة أن تبيد نصف الشعب ، إذا اقتضت منه ذلك اغتصاب السلطة ! فالجيش ؛ في مصر وكثير من الدول العربية ؛ هو مؤسسة عسكرية لحماية النظام الحاكم وليس لحماية الشعب ! هل كانت أمريكا على علم بالانقلاب قبل وقوعه ؟! كثير من التقارير السرية المودعة بدهاليز الإدارة الأمريكية تكشف ؛ بوضوح تام ؛ وجود شبه "تنسيق تام" ، أو معلومة استخباراتية صادرة من الهيئة العسكرية الضالعة في الانقلاب .. تطلب " الضوء الأخضر الأمريكي " ، أو الدعم المعنوي ، أو غطاء سياسي ما ، وخاصة دول الشرق الأوسط ، ودول الخليج . لكن دول أمريكا وحلفاءها ؛ وحسب سلسلة التجارب الانقلاباتية الماضية ؛ لم يكن خبراؤها الاستراتيجيون يستحضرون في حساباتهم قوة الشعب ، بل يكتفون بالتأشير عليه " كقطيع قابل للانقياد في كل اتجاه " ، بيد أن الشعب التركي كان استثناء فاصلا زلزل كل حسابات وتوقعات الخبراء العسكريين ، وقد لاحظ المراقبون السياسيون في أنحاء العالم البلاغات الحذرة والغامضة التي كانت تصدرها تباعا الإدارة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون .. لكن بعد انقشاع الغمام ودحر فلول الانقلابيين ، أخذت البلاغات مسحة أخرى موازية للواقع الميداني : من قبيل "أمريكا تدعو إلى احترام الدستور والعودة إلى الشرعية .. والديموقراطية..." ، فأي مداهنة ونفاق سياسي أكبر من هذا ؟! ومثل هذه البلاغات الحربائية الأمريكية تذكرنا بانقلاب العسكر على الشرعية المصرية ، فلماذا عدلت عن موقفها ، وركنت إلى دعم التوجه العسكري ؟ وقع هذا بعد أن كشفت لها الحسابات الاستخباراتية أن الجيش المصري أصبح سيد الميدان منقضا على جميع مفاصل مؤسسات الدولة ، وأن الجماهير المصرية ولت الأدبار ، تضرط كلما سمعت بالرصاص يلعلع خلفها ! الجيش لحماية الشعب وليس لحماية النظام االحاكم هذه أخطر معادلة سياسية ؛ تسقط فيها حسابات الاستراتيجيات العسكرية والسياسية على حد سواء . وقد قدمت تركيا للعالم أروع مثال ونموذج يحتذى في المجال الديموقراطي عبر هذه المعادلة لكن ؛ ومن واجهة أخرى ؛ وعلى مستوى الأنظمة العربية ، نصطدم بتحول هذه المعادلة إلى نقيضها هكذا " الجيش في خدمة النظام الحاكم وليس في خدمة الشعب " ،، ومن تبعاتها الأولية أن الحاكم العربي وغيره إذا اغتيل أو مات فجأة تحولت البلاد إلى فوضى عارمة ، بما فيها مؤسساتها والتي كانت تابعة ؛ في عمقها ؛ للنظام الحاكم ، فلا غرو أن تطالها هذه الفوضى ، وهنا يكون الجيش مجبرا على تعويض الحاكم في كل المؤسسات ، وضخ دماء الحياة فيها . أما تجربة "الربيع العربي" فتعد استثناء لهذه المعادلة لسبب وجيه هو اجتياح عدوى "التمرد الشعبي" الذي اكتسح جميع أنحاء المدن مدعما بحرارة وسائل التواصل الاجتماعي ، لكن المفارقة الواضحة في مشهدها هو سواد غوغاء الشارع الخالي من كل قيادة تأطيرية رصينة ، وأهداف ديموقراطية ممؤسسة فسقطت في أيادي مسلحة ذات أجندات مختلفة ؛ همها الوحيد الطمع والتناحر على السلطة ، وليس كالحشود التركية التي كانت تمظهراتها سلمية وليست مسلحة فضلا عن كونها سعت إلى الحفاظ على مؤسسات الدولة وصد محاولة الجيش لتعطيل أدوارها .