حب المرأة مرتبط بحب الكلمات. الأول لا يكون بدون الثاني. اسألوا الشعراء واسألوا نزار قباني. في كتابه "موجز الفصيح في الدارج اليومي" (دار سليكي إخوان للنشر) يكشف الصحفي والشاعر الصديق شكري البكري عن حب واضح للكلمة، وعن مجهود كبير لعاشق دخل إلى عالم المعاجم الصعب الذي يتطلب دراية بكنوز اللغة وأسرارها وثقافة وبيداغوجية خاصة. معجم يصدر في سياق استمرار بعض المحاولات اليائسة الإعلامية والسياسوية، بالمعنى السلبي للكلمة، الرامية إلى تخريب علاقة الدارجة باللغة العربية وخلق علاقة عداوة عوض التكامل بينهما. محاولات لها هدف استراتيجي هو عزل المغرب عن محيطه، عبر فرض الدارجة في الحياة العامة وفي التعليم والإعلام على حساب الفصحى بشكل يجعلنا نعيش "فوضى لغوية " كما يسميها الأستاذ حسن الصميلي. في هذا المعجم نكتشف ونعيد اكتشاف بعض الدروس الممتعة والمفيدة في علاقة الفصحى بالدارجة. نكتشف مثلا أن كلمة "باسل" صحيحة في الدارجة وفي الفصحى أيضا. وهي تعني الطعام الحامض أو المر. حيث يقول الشاعر عنترة: "وإذا ظلمت فإن ظلمي باسل مر مذاقته كطعم العلقم". أما كلمة "هاي هاي" في الدارجة فأصلها في الفصحى هو: "هيهات" وتعني: البعيد. وكلمة "بزق" (حاشاكم) مثلا تقال وتكتب في الدراجة وفي الفصحى معا، إلا أن بصق أصبحت تستعمل أكثر من بزق. ونكتشف أن كلمة "بزاف" أصلها في الفصحى هو: "جزاف" ومعناها: شيء مجهول قدره أو وزنه. أما كلمة "فالطة" فأصلها ليس إسبانيا ( FALTA) كما هو شائع، ولكنها، في الغالب، تحريف لكلمة "فلتة" بالفصحى وتعني: الغلطة. ويبدو أثر حس الدعابة والضحك، وهي من طباع الكاتب، واضحا في انتقاء كلمات هذا المعجم وفي طريقة تقديمه. ومن علامات الدعابة والتهكم الذاتي ما قاله مثلا في كلمة "سلت" (وتعني مسح. مثل مسح قصعة الطعام). حيث يقول معلقا: "رحم الله أياما كنا نمتثل فيها للأمر بسلت القصعة. واليوم حتى القصعة لم تعد موجودة". لكن يمكن التساؤل، في نفس السياق، لماذا لم يتحدث الكاتب عن كلمة: "ساس - يسوس" مع أنه يستعملها كثيرا عندما يتحدث في السياسة؟ وهو غالبا ما يستعملها للدعابة وبطريقة تجعل التأويل مفتوحا على معنيين اثنين: أولا، يستعملها عندما لا يريد أن يتحدث عن السياسة، لأن كلمة "سوس" تعني في الدارجة: ابتعد عن موضوع ما أو تعني إذهب إلى حال سبيلك... وثانيا، يستعملها عندما يريد فعلا الحديث عن السياسة فيبدأ أولا وكمقدمة للحديث بتصريف فعل "ساس – يسوس".. وأشهد على أن الكاتب كان من أول الناس الذين سمعتهم يستعملون كلمة "ساس - يسوس" قبل أن تشتهر وتصبح عنوانا لبرنامج إذاعي فكاهي شهير يتحدث عن السياسة والسياسيين في المغرب. إن بناء معجم ما تحكمه بالضرورة مرجعيات ثقافية واجتماعية خاصة، لأن الدارجة ابنة بيئتها ومجتمعها. والدارجات تختلف من الحي الشعبي إلى البورجوازي، كما تختلف دارجة الشباب عن دارجة الكبار. كما أن هناك طبعا دارجات بحسب الجهات بالمغرب، لكن دارجة الشمال حاضرة أكثر بالضرورة في الكتاب بحكم أن اللغة "أم" ("مُتْ ساهل" عبارة دارجة تعني: سهل جدا. ويستعملها الشبان كثيرا اليوم في المدرسة عند الحديث مثلا عن سهولة الإمتحان، وهو إبداع جديد في الدارجة). وهكذا نجد إشارات إلى التربية اللغوية التي تلقاها الكاتب في فضاء الأسرة، وفي بيئة مدينة تطوانمسقط رأسه، وهي المدينة المشبعة بحب اللغة العربية وبالإنفتاح على اللغة الإسبانية وثقافتها. لإخراج معجمه هذا، بحث الكاتب في وقواميس كبرى ومرجعية في اللغة العربية مثل: "لسان العرب" و"القاموس المحيط"، إلى جانب معجم الكاتب المغربي محمد الحلوي المسمى "معجم الفصحى في العامية المغربية". لقد بذل مجهودا كبيرا في كشف أسرار اللغة التي يشتغل عليها كصحفي مذيع في إذاعة البحر الأبيض المتوسط (الكتاب هو تجميع لمواد برنامج سبق أن بثته هاته الإذاعة ) وككاتب له إبداعات في القصة والشعر بالعربية وبالإسبانية. في المعجم، ستجد الإستشهاد بالشعر العربي وبالقرآن الكريم وبالحديث النبوي للدلالة على تاريخية وعمق العلاقة التي تربط بين الفصحى والدارجة وهي علاقة الأم بابنتها الشرعية. كما تجد فيه بعض أسرار ارتباط الدارجة المغربية بلغات مختلفة مثل الأمازيغية والعبرية والإسبانية والفرنسية. وفي المعجم، أخيرا وليس آخرا، رسائل ومواقف شخصية نقدية تجاه النفاق في المجتمع أو تعكس موقفه كمواطن يتطلع إلى مغرب عربي قوي وموحد. وكل ذلك جاء بأسلوب سلس وبخفة دم بعيدة عن أي أستاذية. *صحفي ومترجم