تحتلّ مسألة الردة حيزا مهما في دساتير الملل والدول. عندما يرتدّ فردٌ عن عقيدة جماعته، عن إجماعها الروحي والسياسي، فإنّه يصير خائنا مُعرضّا للرّجم بالحجارة أو القتل صعقا على كرسي كهربائي. حسب اختلاف القوانين والأزمنة، وضراوة الشّريعة. قد يوضع في حفرة، داخلها يشوى، وقد يدفن حيا أو يأكل لحمه نيّئاً. إنّ المرتد يحمل على كاهله ثقل نص لا ينتمي إليه، ويعلن الولاء لغربة جذريّة قد تمحقه. الإصر النصي الذي حمله بنو إسرائيل، ندعو ذات الإله أن ينقذنا منه ونحن نتوجه إليه بالدعاء. بيد أنّ إصر اليهود، تلك الصّخرة التوراتية القديمة التي تقسم ظهرنا اليوم، قد يبدو أحياناً أخفّ عبئا من الخطيئة الأصلية التي جاء المسيح الناصري مدعيا تخليصنا منها. إنّ الأديان، في الارتداد إليها أو عنها، هي شؤون المنشغلين بأهوال البشر والآلهة، والمشتغلين بها حدّ السواء. ولقد نحا الرّاهب الفرنسيسكانيّ يوحنا محمد بن عبد الجليل (1904-1979) منحى عدد من أولئك الإبراهيميين التائهين في صحراء القداسة والوحدة، فاختار خوض "تجربة الإيمان" بانفصالاتها الحادة والمضنية. الهجرة، ثم الانفصال. ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا. هل هناك من دَيْنٍ يدين به المحمديون للنّصرانية؟ هل يوجد، في هذا الذهاب والإياب الروحي، مجال للحديث عن "صفقة" لتقاسم الأمصار والقلوب أو "تآلف ديني" على عتبات العدّ والحساب؟ أين تقرّ السكينة وتكتمل، على اللّسان أم في الفؤاد؟ مديونية أم دينونة؟ ولد محمد بن عبد الجليل في فاس، حاضرة الغرب الإسلامي. مدينة تكاد تبلغ من القداسة مبلغ أورشليم، حتى أنّ بعض المُحدّثين أورد قولاً منسوباً للرّسول يُبشّر بتأسيسها. حفظ بن عبد الجليل القرآن ودرسه في جامعة القرويين، ثم سافر مع والديه إلى مكة حاجّا وعمره لم يتجاوز حينئذ التسع سنوات. يكتب الرّاهب يوحنّا-محمد: "للذّين لا يعرفونني... أنا مغربي، من مدينة فاس، سليل عائلة متواضعة وعريقة، عائلة شديدة التدين، عائلة تقوى وورع في العقيدة والأخلاق (...) عن سن الثالثة والعشرين، أثناء دراستي في جامعة السوربون، وبعد أبحاث دينية دامت زهاء الثلاث سنوات، قرّرت طلب معمودية الكنيسة الكاثوليكية". بعدما عزم على دخول النصرانية، احتفظ بن عبد الجليل باسمه وأضاف إلى جنبه، تصديقا منه بالمسيح، لقب يوحنّا، التلميذ الأحبّ إلى يسوع. كأنّ بن عبد الجليل اختار راحة الخلاص انفصالاً، في انتظار يوم الرب، وخاض محنة الاتصال باسم نبيٍّ لم يتنكّر لصدقه حتى في غمرة انقلابه عليه. بين عامي 1922 إلى 1925، التحق بن عبد الجليل بثانوية "غورو" في الرباط، وبها تعرّف على المستشرق الفرنسي لُوِي ماسينيون، الذي كان آنئذ مشرفاً على تلك المؤسسة التعليمية، وهو نفسه سيصير عرّابه الكنسي، وستجمعهما صداقة وثّقت لها مراسلات منشورة في كتاب تحت عنوان "الراعي والابن: مراسلات بين لوي ماسينيون وبن عبد الجليل من 1926 إلى 1962". بعد حصوله على شهادة الباكالوريا، سافر بن عبد الجليل إلى باريس، بتشجيع من المشير ليوطي المقيم العام الفرنسي بالمغرب. هذا القرب وتلك الحميمية، من رجل معرفة ومن صاحب جاه وسلطة، جعل بعض الحائرين في أمر "ردّة" بن عبد الجليل يتحدّثون عن ردّ جميل، وعن مقايضة أو دين، اتجاه من اعتبرهما صاحبي فضل عليه. فرنسا والكنيسة. لكن بن عبد الجليل، من خلاله كتاباته ورسائله المتعددة، كان يبدو صارما ومقتنعا ومخلصا لإيمانه الجديد ومدافعا حتى عن تقارب وجداني بين المسيحية والإسلام. في مراسلاته مع الملا زاده محمد علي (1881-1959)، التركي الذي أصبح اسمه بولس ملا بعد تحوّله إلى المسيحية، يكتب بن عبد الجليل في الرسالة الافتتاحية سنة 1927: "قبل الثلاثين من يناير من هذا العام، كنت أعتقد إنّ أي مسلم، كيفما كان، لا يمكنه التوفر على أيّ علّة لتغيير الدّين (...) ولقد بلغت الآن من ذلك مبلغا جعلني أتخلّى عن قناعاتي الإسلامية والميل بكلّ مشاعري نحو القضية الكاثوليكية". أحداث النهاية يستعمل المغاربة كلمة "رَدّْ" بمعنى الإرجاع والقيء. المرتدّ إذن هو كلّ من يُخرج ما في جوفه، تخمة أو تسمّما، وينظر إليه، كما تفعل الوالدة مع مولود تنبذه. ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى. يكتب بن عبد الجليل: "يجب علينا أن نأسف ل«العزلة» التي يميل الإسلام إلى إقفال الخليقة فيها، و«الصِّغَر» الذي يريد أن يتركها فيه. وهذا كنتيجة، كحرقة لابدّ منها، بسبب تصوّر الله في الإسلام (...) يقوم واجبنا بالأحرى على «إبراز قيمة» جميع تطلّعات الإسلام الفعليّة السليمة البنّاءة: تطلّعات إلى حياة روحانيّة أعمق، وإلى معنى الوحدة معنًى أقل تبسيطًا، وإلى حياة مودّة مع «الآخرين»". عندما تحوّل بن عبد الجليل عن دينه، أي عندما عزم هجر محمد والإقامة إلى جنب عيسى، وأفصح عن ذلك، كتابة وقولاً، تذكر رواية أنّ أهله وذويه لم يحتملوا وقع الصدمة، فأشاعوا وفاة رمزية لابنهم، وخرج موكب الجنازة من بيت العائلة نحو مقبرة على أطراف المدينة. توفي يوحنا محمد بن عبد الجليل، بعد معاناة طويلة مع سرطان اللّسان، مبعداً عن فاس، وبعيداً من روما، داخل مستشفى باريسي بارد. لكن أشياء كثيرة من مملكة الرحمن ظلت في نفسه: بقي يحكي، خلال أيامه الأخيرة، لأصدقاء مقربين قلائل، عن معاناته في وحدته ورسوخه على درب الحق، منهيا كلامه بحمد الله. كانت الكنيسة والغبن قد ابتلعا ريقه ودمه تماما. ولعلّه الآن، في هذه الأزمنة الأخيرة، يقف على باب يهوه، متردّدا في نطق اسمه، واثقا من احتجاجه بحديث من أحاديث السّاعة، وهو يقول على لسان محمد القرشي: "تمتلئ الأرض ظلماً وعدواناً حتى يأتي أخي عيسى فيملؤها قسطاً وعدلاً". عام 1999، عشرون سنة بعد وفاة بن عبد الجليل، اشترى أحد أبناء عمومته، وقد كان صاحب بازار سياحي، ميزانَ طاحونة نحاسيّ وساعة حائطية من جدّي. باع الميزان للنصارى القادمين من الشمال بمليوني سنتيم، وعلّق السّاعة إلى وقت لاحق. كان يأتي كلّ صباح ويحاول إقناع الجد بأنّ الحداثة قادمة، لا ريب فيها، وأنّ القمح والدّقيق سيُطحنان في آلات ضخمة تبلعهما وترميهما في ماكينات تصنع الخبز دون توقف. أخبره أنّ أشراط القيامة تقتل الزّمن وتُبيده، وأنّ السّاعات القديمة الكبيرة المصنوعة من الخشب، ستتحوّل إلى مخابئ لأقزام هُم أولاد المسيح الدجال وأصحاب يأجوج ومأجوج. كنّا أطفالاً، ومن وقتها ونحن نردّد لازمة التّاجر الحاذق: إنّ الساعة قادمة، لا ريب فيها، وإنّ الزمان لقلاّب وإنّ المسيح الدّجال لقادم وذريته بالفتن والخراب، سيأتون إلينا ويغنّون: Arise, children of the Fatherland, The day of glory has arrived!