29 -"السي محمد.. أش درنا؟" أخرجني سؤال "العزوا" من يمّ أفكاري فنظرت إليه نظرة أغنتني عن الكلام. ولم يكن في إمكاني أن أُحَضّرَ أيّ مبلغ من المال، قلّ أو كثُر. بدأ يُلِحُّ عليّ حسن الرماش ويُقنعني بأنَ المبلغ الذي معه قد يكفي لمساعدتي، فهو ضعف ما يملكه الاثنان، بن جلون ووهبي. كان من المهم أن نغادر مراكش دون أي تأخير، فالمداهمات مستمرة والاعتقالات لا تتوقف ليلا ونهارا، والسي محمد بالحاج لا أحد يعلم أين هو، حي أم ميّت أم اعتقل، كما أن كل أسرته تم اعتقالها وانتهكت حرمة منزله وبعثر كل ما فيه. أما أخته وبنت أخته، تلك الفتاة التي كانت تقطر حيوية ونشاطا، فقد وُضِعَتا في مكان مُهين يطلق عليه دار الدقة، وهو مكان خاص بالنساء الخارجات عن الطاعة والشرع. توقف حديث الأصدقاء، ووعدتهم بأنني سأحاول إقناع لالة رقية بسفري إلى الدارالبيضاء من أجل عمل هناك، وإذا أفلحت في ذلك فإنني سألتحق بهم في المكان المحدد فجرا، عند باب ميعارة اليهود، ولست أدري ما السر في اختيار هذا المكان دون غيره من طرف عبد الكبير ووهبي. قضيت ليلتي وأنا أفكر في مصير والدتي، فهؤلاء الاستعماريون الكفرة لا رحمة في قلوبهم، وكل من ذُكِر اسمه وتقرر اعتقاله لا نجاة له من بطشهم ومكرهم، إن لم يعثروا عليه أخذوا أبويه أو كل أسرته مثل ما حصل مع البقال. أخيرا فضلت أن أصبح مُعتقلا بجوار لالة رقية على أن أواجه مجهولا غير محسوب العواقب. ما عادت مستملحات خالي محماد تبعد عني كوابيس الأقدار، وأصبح الشرود يلازمني بالليل والنهار، وذلك الشبح المنتظر الاعتقال أراه في كل قادم نحوي من البشر، وكُلّما حاولت الهروب من بحر التوقعات إلا وسقطتُ في مجرى وادي هَمِ الانقطاع عن الدراسة، فألجأ مرة أخرى إلى خالي محماد، واستدرجه إلى حديث آخر عسى أن أجد فيه ما يخفف حيرتي وكربتي. وفي مرة، فاضت سجية "خالي" بالحديث عن تلك الشخصية العجيبة الغريبة التي تقطع السوق من شرقه إلى غربه كل يوم: البهلول. كان ذلك الرجل واحدا من العشرات أمثاله ممّن اشتهروا في ذلك السوق الجامع لكل المتناقضات..كان أميًّا، ورجلا فقيرا تعلق قلبه بالمساجد وبحلقات جامع علي بن يوسف على الخصوص، يحضر دروس خيرة علماء مراكش، من أمثال الشيخ الفاروقي، وسيدي حماد أكٌرام، والسي عبد السلام المسفيوي، وابن عثمان، والشيخ الخليل الورزازي، والفقيه بلحسن، وسيدي محمد بن عبد القادر العلوي، الشهير ب"مسّو"، وغيرهم من أجلِّ وأكفأ العلماء. ورغم أنه كان لا يكتب ولا يقرأ، فإن ملكة الحفظ عند البهلول كانت قوية، مع تذبذب في الاستيعاب والإدراك والتدبّر؛ ومع ذلك فإنه كان يُفاخر بأنه مُجَالِسٌ من الدرجة الأولى، ويرقى إلى تعليم كل جاهل ومتكبر وخجول.. وقد وجد ضالته المنشودة في سوق الأسواق المراكشية الذي يَعبره كل أمسية حاملا قُفّتَه التي لا يُسمح لأي أحد أن يطّلِع على ما دُسّ بداخلها. والمعلوم أن جل تجار سوق الأسواق هم بالدرجة الأولى حرفيّون، وأغلبهم لم يأخذ نصيبا كافيا من التحصيل والمعرفة، فلم يسلموا من ذلك الداء الاجتماعي الخطير السريع الانتشار في عقل كل خجول وكل متكبّر، والذي يسري مفعوله ليجعل المرء لا يُبارح مكانه على مر الأعوام والسنين، منتظرا فرصة حديث طائش يلتقطه ليرشده لفهم الحلال والحرام، والخير والشر، والربح والربا، فكان بعضهم يستعمل الحيل، وليس هذا الذي ينقصهم، فيعترضون طريق البهلول ويدعونه للجلوس إلى جانبهم وشرب كأس من الشاي المنعنع، ثم يبدأ التاجر منهم في طرح أسئلته من برجه العالي عليه، وكأنه يختبر ذاكرته وفهمه لما يحصده من حلقات العلماء.. ينطلق بّا بهلول يُخرج كل ما في جعبته، ثم يحصل على بعض النقود نظير فتاواه؛ وكان رحمه الله -حسب ما يُحكى ويقال- مصدرَ إزعاج كبير لبعض العلماء بأسئلة قد تُحرج. وكنموذج لذلك، أذكر موقفا حدث بينه وبين العالم الجليل سيدي محمد بن عبد القادر العلوي، حين كان العالم يشرح درسا في الفيزياء بعد إقرار برنامج التعليم الحديث بدل التعليم القديم، فضرب مثلا باحتكاك مادة صلبة بمادة مثلها؛ فتصدّى له البهلول متنطّعا وهو يخرج من قفته "طاسة" نحاسية وقضيبا حديديا، فطلب منه أن يمسك ب"الطاسة"، ففعل، ونقر عليها بالقضيب قائلا: "هلاّ أخبرتنا يا مولانا عن سر الصوت الذي سمعناه بعد نقري لهذه "الطاسة"، أهو صوت أصدرته "الطاسة" أم أصدره القضيب؟.. وكان يقال إن البهلول كان يكثر من أمثال هذه "الشطحات" في جلسات هذا الشيخ الجليل الذي عيل صبره، فوجه بكفه صفعة إلى خد البهلول متسائلا بدوره: أهو صوت كفي ما سمعناه حين صفعتُك، أم هو صوت خدّك؟.. فضحك الجميع وانصرف البهلول ينشر بين العامة هذه الواقعة متباهيا بأنه أفحم الفقيه وأظهر عجزه. كان خالي مُحماد يُقنِع البهلول بالجلوس عند عتبة الدكان ببساطة من غير شاي ولا نقود، فألححت عليه أن يفعل حتى نعرف منه أخبار الوقت وحال المساجد، فجلس فعلا لفترة قصيرة جدا لخّص فيها كل ما كنا نود الاطلاع عليه. قال البهلول: "الحالة مكفسة.. والشيباني اللي كان مخبّيه لكٌلاوي في الستينية ومدوّر به المؤنسين هزو في طوموبيل ودّاه للرباط ورجعو سلطان في محل السلطان..والبلاد كلها هنا ولهيه الطايح أكثر من النايض..وعلى الجوامع كاع لا تسال.. الإقامة قبل الآذان.. والصلاة بلا وضو.. والمهم هو الدعاء.. "اللهم انصر جلالة السلطان محمد بن عرفة".. وابتداء من الجمعة الجاية اللي ما صلا في الجامع ودعا مع السلطان الجديد، ما خص يمّاه خصّاص من أزفل والبنيقة..". سأل خالي محمد: خالي: "والعلماء آبّا البهلول؟ .." البهلول: "مالهم؟ .." خالي: "اشكان منهم؟ .." البهلول: "كل شي سينا على النفي د محمد بن يوسف والنصر د بن عرفة..". خالي: "حتى صاحبك مول الطاسة والطرشة؟.." البهلول: "هداك واحد من اللي طلعو رجال، وجاوب الباشا فوجهو ملي صيفط ليه يتشاور معاه على السلطان الجديد.. قال ليه علاه نعم السي تشاورو معنا مللي بغاو يحيدو لقديم باش يتشاورو معنا على الجديد؟.. وهو يقول ليه الكْلاوي نوض غبّر عليّ كمارتك.. وعندي معاك حساب.. ". وبينما نحن على ما نحن فيه من تسامر، إذ بصوت البراح ترامى إلينا وهو يقول: "أعباد الله ما تسمعو إلا خير.. كيخبركم سيد الباشا باللي صلاة الجمعة في المساجد فريضة، وجميع اللي كيتهرب منها غدي يتعرض للعقوبة.. سمعوا مزيان أسيادنا التجار والأعيان، حتى حد ما يتغيب على صلاة الجمعة، وحتى حد ما يخرج قبل من الدعاء للسلطان الجديد سيدي محمد بن عرفة بالنصر والتأييد..عليكم بالسدان قبل الآذان..". أقْحِم البراح المسكين الذي كان محبوبا من أهل مراكش، والذي طالما حمل الكثير من البشائر لأهل المدينة، (أُقحِم)، غفر الله لنا وله، في تلك الورطة الكبرى التي أشعلت ثورة كبرى. كان الشعب المغربي بعد نفي محمد بن يوسف يقود نفسه بنفسه، وكلما بطشت يد المستعمر وأعوانه الخونة، إلاّ وبرزت عناصر الفداء وتصدت لها بصدق وقوة إيمان ورغبة في الاستشهاد أمام إعجاب العالم الحُر الذي كان أدخل قضية المغرب في أولى أولوياته، حسب إذاعة طنجة الدولية، وصوت العرب الذي تأسس أصلا ليُعلن باسم هذه الأمة عن الهوية تحت شعار "لا تكتمل حرية بلاد عربية دون بلاد عربية"؛ فكان المشهد العظيم الذي لو قُدِّر للسينما المغربية أن تتأسس بروح وطنية، لوفّرت له ما يلزم من فهم ثم إنتاج وإخراج، ولكان لها حقا أن تفتخر وتُعلن ميلادها، وهو مشهد البطل علال بن عبد الله. شاهد العالمُ يومها موقف "الأكشن" الذي كان بطله عاملٌ بسيط يسكن قلبه حب الوطن، انتفض في أول خروج لذلك الشيخ الذي لم تستطع أسوار مشور "التواركة" ولا ما تضمه من أمهر خبراء التنظيم والحراسة الأمنية حمايته من صَبّاغ متواضع لا يحمل إلا سلاحا أبيض يعلم علم اليقين أن حمله ليس له مردود إلا الشهادة في سبيل ما خرج من أجله. سقط الشهيد علال بن عبد الله في مشور الرباط ليلتحق بشهداء مشور مراكش، وفي مقدمتهم محمد بن الحسن الحجام، الفتى الوسيم الذي ذهب في صمت، ولم تبكيه إلاّ أسرته وجماعة البقال. تورط الجنرال كٌيوم مع أسياده في فرنسا، وتورط الباشا بدميته في المغرب كله، وأصبح كالذي سرق صومعة وبدأ يبحث عن بئر لإخفائها.. فما كان لِلعنيد الكْلاوي إلا أن يعود "بحصلته" إلى مراكش التي تخضع لقبضته الحديدية وانتشار أتباع ابنه الأكبر، الذي بدأ هو الآخر ينفرد ببعض القرارات الخانقة للمدينة الحمراء وأهلها البواسل، إضافة إلى النخبة الرائعة القادمة من بعض المدن المجاورة من أجل العِلم والتحصيل في كلية ابن يوسف. اعتمد إبراهيم بن التهامي الكلاوي بالدرجة الأولى على الخليفة محمد ابن المكي، وهو خادم مطيع عاد، حوّله إلى رتبة خليفة عوض ابن العباس الذي سبق أن عُيّن هو الآخر في منصب الخليفة البيّاز بطل "مسلخة" الظهير البربري، وهذا الأخير سجل كل مواقفه الشاعر محمد ابن ابراهيم في قصيدة توجد في ديوانه "روض الزيتون".. أما أنا فلم أكن شاهدا على عصره، وليس لي الحق أن أخوض في أمره سوى في الجزء الأخير من حياته، الذي سيأتي الحديث عنه في جزء لاحق. نظّم الباشا الكلاوي للشيخ ابن عرفة زيارةً لقبور سبعة رجال في بداية عودته الرسمية إلى مراكش، وكنا على علم بها، فبدأنا نعد العدة تجهزا لوصول الموكب إلى حي القصور لزيارة ضريح الغزواني. حاولنا أن نشكل مجموعات انطلاقا من باب الحمام إلى درب السباعي، ثم درب فحل الزفريتي الذي ضرب عليه حصار لم يكن متوقعا من بعض رجال القبائل المزودين بالهراوات، فجعلوا بيننا وبين الطريق العام سدا منيعا، ووقفوا وجها لوجه أمامنا إلى أن مر الموكب. ورغم المنظر المستفز والحصار المضروب علينا، فإننا أظهرنا موقفا معبرا أغاظ الباشا ومن يرافقه، وذلك بالامتناع عن التصفيق والهتاف رفضا لإشارات الخلفاء والمقدمين، وكان من بين المرافقين ضباط فرنسيون ومذيعون لراديو ماروك، أجانب ومغاربة ظل بعضهم عالقا بالذهن إلى الآن. وبمجرد ما ابتعد الموكب عنا، حتى تراقصت الهراوات على رؤوسنا، ومن لم يسرع في الهروب اعتقل أو شجّ رأسه. يتبع... *سيرة ذاتية للفنان المغربي الكبير محمد حسن الجندي، بعنوان "ولد القصور"، تنشرها هسبريس مُنَجمة على حلقات يومية.