2 كان "القائد عبد الله"، والد "القائد محماد"، صديقا حميما لوالدي، ويجمعهما حب شيخ الطريقة التيجانية الحاج "امحمد النظيفي". وقد عهد القائد قبل وفاته إلى والدي بالتكفل ببعض مداخيل ممتلكاته وتقسيمها على أبنائه بعد موته بالإنصاف، لما يعرفه عن والدي رحمه الله من أمانة ووفاء. غير أن وارثه في الحكم، القائد محماد، قد جرته نشوة السلطة إلى تقليد سيده الباشا الكلاوي في بذخه ومجالسه وسخائه المغري لجليسهما الأبرز شاعر الحمراء، فبدأ يَلهف أكثر من حصته، مما سبب الكثير من الإحراج لأبي الذي ظل وفيا لما كان يفعله والد القائد الشاب من المؤدبات كلما حل بمراكش، وما أكثر هذا الحلول الذي لا يقل عن مرتين في الأسبوع، لأن مركز القيادة في أوريكا لا يبعد عن رياض القائد بمراكش إلا بمسافة أربعين كيلومترا غير مُعبدة رغم إصلاحها. ولا يحُد من زيارات القائد إلى رياضه إلاّ حملات الوادي الشهير الذي لا سلطان عليه إلا الحذر والتحذير، وانتظار روعه أن يهدأ. إلى جانب ضْيافة مراكش، كان السي الحسن أحجام والدي، في حياة القائد عبد الله قائد قبائل أوريكا، المشرف على موسم البخاري السنوي، وظل وفيا لهذا الالتزام مع وارث حكمه القائد الشاب محماد. وتلك المهمة من أحب الأشياء إلى قلبه، داخلة في باب قناعاته وعقيدته. وكلما أزف الوقت إلاّ وعبأ جميع أفراد أسرته لتحضير حاجيات ولوازم الموسم في عين المكان المخصص لإقامتنا بدار الضيافة، المجاورة لدار القائد التي تعرف بدورها حركة دائبة تشرف عليها زوجته معتمدة طبعا على خبرة الوالدة لالة رقية، التي تتلقى تعليمات السي الحسن دون تهاون في تنفيذها بحزم، قبل الموسم وبعده، وإلى أن تعود الأمور إلى سابق عادتها، بعد عُرس ختم صحيح البخاري. كنت أينما وليت وجهك، ترى الخيام المختلفة في الحجم والزينة منصوبة، وقباب منازل القائد مفتوحة لعينة النخبة القادمة من مراكش، بمن فيهم الباشا أحيانا، وأحبائه وجلسائه الذين يقضون من أيام الموسم الثلاث يومين بلا نوم ولا عياء ولا ملل: بدءا بركعتي الفجر..فردا فردا، وصلاة الصبح جماعة، ثم قِراءة الحزب المُقرر وبعده مباشرة التحلّق حول موائد الفطور الخاص بالمناسبة: وهو عبارة عن حريرة غنية بخليطها، وزيت الزيتون المحلى، وزبد حليب البقر والماعز، والعسل بشهده، والشاي المنعنع، والقهوة والحليب وأنواع الرغيف والخبز، وألذها ذاك الذي يلصق عجينه بمحيط التنور: تَانُورْت. ويراعى في تحضير ذلك كله الوقت، حتى يدرك الفقهاء والقراء والحفاظ والطلبة المتمسكون بالسنة ركعتي الضُحى. ثم تنطلق الحناجر من حلقات الذكر، والحديثِ المختار باجتهاد وزهد واعتكاف الإمام البُخاري رحمه الله، وتلك بدعة في منتهى الحسن والجمال والصفاء، أراد بها أصحابُها، هؤلاء الصفوة من الأمازيغ الشرفاء، أن تكون نموذجا للمواسم المغربية التي يتوخى من التشبث بها تخليد ذكرى الأفاضل، والعلماء، والمجاهدين الرموز ممن كان لهم دور اجتماعي وإحساني، كدفين الضريح العباسي، أبو العباس السبتي الذي قال في حقه ابن رشد: "مذهبُ هذا الرجل أن الوجود ينفعل بالجود". ولكن، مع كل الأسف والغبن، تم اختراق هذه المواسم، وانحرفت عن أغراضها الأصيلة النبيلة، لتصبح ملتقى للخرافة والزندقة، والتمسح بالأضرحة والتوسط بها إلى الله، وهو سبحانه غني عن العالمين. كان كل الوافدين على موسم أوريكا يصحبون معهم نساءهم وأطفالهم للفائدة والاقتداء، وكذلك للتعارف خلال ثلاثة أيام يُخصص منها يومان كاملان لكتاب صحيح البخاري في جو من أمتع وأبهى الأيام. وقد قال فيهما شاعر الحمراء، الذي كان يحُل ضيفا على القائد مع رفقائه المفضلين: لله يَوْمَان ِتَحْكِى غَمْضَ أَجْفَانِ** مِنْ فَرْطِ بَهْجَتِهَا لِله يَومان يومان يومان في أوريكا سلَفتْ**كأنها مْنحةٌ من كفِّ رِضوان في منزل قد حوى كل المحاسنِ**من قُلوبٍ و أبصارٍ وآذان الرّوض أضحى لفرط البِشرِ منتشيا**فتلتقي فيه أغصان بأغصان أمام واد به ذَوب اللُّجَينِ جرى**ماءً زلالا شفى غليل ظمآن وللقراءة طُلاّبٌ قد اجتمعوا**وَسَادةٌ ذَووا علم وعرفان ولصحيح البخاري في الضحى خَتموا**فالنّور منه ومنها اليوم نوران حاول القائد محماد الحفاظ على طابع الموسم ورونقه بعد موت الوالد في أواخر الأربعينيات، ولكنه لم يفلح ولم يجد بديلا لصديق والده. فبهت المشروع إلى أن أقْبِرَ كأصحابه. أما القائد، فعلمت، بعد النضج، أنه تعرض لامتحان عسير، عندما جندت الحماية بمساعدة الباشا الكلاوي مجموعة من القياد والأعوان والخلفاء والعلماء للتوقيع على التنديد وخلع الملك الراحل محمد بن يوسف، فألهم الله القائد ومنحه الشجاعة ليرفض الانضمام إلى الآخرين وهم كثر، فطرد من منصبه وأجبر على الإقامة في منزله نظرا لشعبيته عند قبائل أوريكا، وإلاّ لكان مصيره الموت أو السجن والتعذيب. وظل على حاله إلى أن عاد محمد الخامس من منفاه، وأعلن استقلال البلاد فأعيد له الاعتبار والمنصب معززا مكرما. هي ومضات وصور لزمن قبل الزمن، وحياة أكبر من الحياة، عايشتها وأنا بعد طفل في صحبة والدي السي الحسن الحجام. ولعل سردي لما سيلي من أحداث لن يكون ميسرا إلاّ باستحضار ما أثث ذاك العصر من مواقف وعادات، فتاريخنا الذي غَرْبلته لنا الأهواء، محتاج إلى تدقيق متحرر من كل الأهواء. يتبع.. *سيرة ذاتية للفنان المغربي الكبير محمد حسن الجندي بعنوان "ولد القصور"، تنشرها هسبريس مُنَجمة عبر حلقات يومية في شهر رمضان الكريم.