قادتني مصادفة أحد رمضاني، لمشاهدة فيلم عن حرب العراق الثانية، حرب بوش الابن، وترسانته الحربية كما الإعلامية ضد صدام ونظامه وكل عراقه، ولأن إعادة قراءة الأحداث بعين مستقبلية تكون أوضح وأنضج، فقد كانت سياسة الترهيب، وممارسات التخويف في وسائل الإعلام الأمريكية كما مورست في تلك الحقبة أهم مدخلات القذارة الكبرى التي أسقطت العالم في حفرة التيه، والتشتت، وضياع الإنسانية. بين كل مشهد وآخر، من فيلم غزو العراق، كانت تغزو مخيلتي مشاهد حقيقية وسريالية في آن، من مسلسل التقاعد الدامي –مجازا- في بلادنا، ولم أك أدري كيف يتسرب المشهد للمشهد، وكيف يستحيل الوجه الطفولي لجورج بوش الابن، شبيها بوجه عبد الإله ابن كيران، قائد حرب الحكومة على الشعب، ووجه كولن باول، هو نفسه وجه الأزمي وزير ميزانية الخراب، ومنظر مخربي التقاعد. من خلال الفيلم، يفهم المشاهد أن حرب العراق، سبقتها حروب أخرى، سياسية، وإعلامية، كانت تبتز المواطن الأمريكي وتقايضه باسم الأمن، أمن الوطن والمواطنين. كانت تفاوضه بين أمرين لا مفر منهما، إما غزو العراق وإسقاط نظامه مع دفع ثمن ذلك، أو انتظار سقوط صواريخه على نيويورك وواشنطن. إنما التسليم بحقيقة علاقة البعث بالقاعدة، عدو أمريكا الأول، أو ترقب التفجيرات التي لا تبقي ولا تذر، وفي قلب التراب الأمريكي. هذه المقايضة، وهذا الابتزاز، رأيته أيضا خلف أحداث الفيلم الأمريكي، في تفاصيل يومياتنا حيث يخير ابن كيران جموع الموظفين، بين تمرير خطته لتعديل التقاعد، أو إعلان إفلاسها، مع ما يعنيه ذلك من رعب وعنف، يفرض إرهابه في نفوس الموظفين بطريقة فجة مباشرة أو غير مباشرة. هل قامت حكومة ابن كيران حقا بالتحري الدقيق لأوضاع الصناديق، وهل تمتلك مفاتيحه ولها كوادر في الحزب، من أهل الحل والعقد، القادرين على الدرس والتحليل والتبشير بالحل ؟ مشروعية هذا السؤال تنطلق من مسألة كون حكوماتنا غفر الله لها، اعتادت على تلك البدعة الجديدة القديمة، التي تقتصر على اللجوء لما يسمى بمكاتب الدراسات، وبعضها ليس أكثر من شقة بغرفتين وحمام، ومهندس وتقنيين "على قد الحال"، في شارع رئيسي، تعود تدبيج الدراسات والأبحاث بفرنسيته الباردة، الجامدة، المليئة بالأرقام المخادعة، يعلم صاحبها أنها للرفوف وللأرشيف. بدعة التفويض هذه، أذكى خطة اخترعتها الحكومات، فبها يتم التنصل من المسؤولية، وتبرير أية خطوة لا شعبية، خصوصا إذا تضمنت في وجبتها بهارات من قبيل التهديد والوعيد بعدم القدرة على تحقيق مبتغى أبناء الشعب، الأيتام، في مأدبة الحكومة ومكاتب الدراسات، اللئام. جلس كولن باول، على مقعده الوثير في مجلس الأمن، بنظارته الطبية التي زادت خطابه قوة وجدية، يستعرض أكبر كذبة ابتلعتها البشرية في استسلام، وعرض في خطابه ما تعتبره الولاياتالمتحدة «أدلة» على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وايوائه لعناصر من تنظيم «القاعدة»، كما عرض باول قارورة صغيرة تحوي جراثيم خبيثة كما قال، يطورها صدام لمواجهة أعدائه، في إشارة إلى تجارب الأمريكيين السابقة مع طرود الجمرة الخبيثة. ذلك الخطاب، اختلط علي مع مشاهد الوزير إدريس الأزمي، وهو الدكتور في الكيمياء، ذات لقاء تلفزي على القناة الأولى، مع زعماء نقابيين كان أبرزهم علي لطفي الكاتب العام للمنظمة الديمقراطية للشغل، والمعارض الشرس للوصفة الحكومية المسمومة، حيث شرع العراب الأزمي يستعرض جمراته الخبيثة أمام المغاربة، لتخويفهم وتهديدهم ومقايضتهم، فإما القبول بما تريد فرضه حكومة ابن كيران في مسألة التقاعد، أو أن الدولة لن تجد فلسا تدفعه للمتقاعدين، المفلسين أصلا، بعد سنتين أو ثلاث. ماذا ترك السياسي الخبيث كولن باول بخطابه أمام الأمريكيين، من خيار عاقل، بعد أن شحنوا بجرعات قوية من الصدمة والخوف، وهل من قرار عاقل يمكن اتخاذه أمام هذا الابتزاز؟ كذلك فعل الخبيث إدريس الأزمي، الوزير المنتدب المكلف بالميزانية، وهو يقايض المغاربة، ويبتز المواطنين، بين أمرين أحلاهما علقم، فإما القبول بتعديل أنظمة التقاعد والتضحية بالمكتسبات، والتنازل عن كم هائل من الحقوق، وإما لن يأخذوا شيئا من هذه الصناديق، بدعوى إفلاسها. إن الحرب النفسية التي تقودها حكومة ابن كيران ضد الموظفين والعمال، في مسألة التقاعد، حرب خبيثة وجبانة، لأنها تحمل الطبقة العاملة، الحلقة الأضعف في المعادلة، كل المسؤولية عن فشل قرارات، وسوء اختيارات سابقة، وجرائم واختلاسات كبرى، كان الأولى محاسبة مقترفيها، وتحميل الدولة تبعاتها. في الفيلم المذكور، تمت الإشارة إلى الأيادي الخفية، التي تدفع بوش الابن لإعلان الحرب على العراق، من كارتلات ومصانع ورؤوس أموال، نفس الأمر في مملكتنا التي ما عادت سعيدة، فضغوطات البنك الدولي، والمؤسسات المالية، والبورجوازية المحلية، والفاشلون في الاقتصاد والسياسة، ليس أحسن ولا أجمل في ملتهم، من تحميل الشعب أوزار النخب الحاكمة وسياساتهم الفاشلة. فما أشبه ظلم البارحة لجورج بوش الابن، بظلم عبد الإله ابن كيران اليوم، كلاهما خطر على الإنسانية.