أعادتنا تفجيرات مقهى "أركانة" بساحة "جامع الفنا" بمراكش، صبيحة 28 أبريل المنصرم، لأجواء الأحداث الأليمة والغامضة التي وقعت بالدارالبيضاء يوم 16 ماي 2003. كلما أعلن الملك عن مبادرة مصالحة مع الشعب لكسب ثقته، خاصة اليوم في ظل أجواء الثورات والانتفاضات العربية، وبعد 38 سنة من حكم الفرد الواحد في عهد الراحل الحسن الثاني التي أدانها الملك محمد السادس نفسه عبر تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة، كلما انفجرت ألغام طائشة وأعمال إجرامية تفسد الفرحة وتجهض مبادرات الملك في مهدها، وتفتح الأبواب على مسلسل اختطافات خارج القانون واعتقالات تعسفية واتهامات ظالمة وتعذيب في سجن تمارة السري الرهيب وتوزيع عشرات السنين من الأحكام الجائرة، مسلسل ينفذ وفق أجندة تفتقر للحرفية ولعناصر الجريمة المثالية، حسب تعبير ألفريد هيتشكوك. لم يمض على خطاب 9 مارس إلا أياما وعلى العفو الملكي إلا ساعات، حتى أقدم "سلفي جهادي"، وهو يردد "الله أكبر"، على تنفيذ عملية "استشهادية" إجرامية داخل مقهى بطنجة، أودت بحياة طالب بريء في مقتبل العمر. وها هي مراكش تستفيق على هزات انفجار غادر يزهق حياة أبرياء، مغاربة وسياح أجانب، وبدأت التصريحات غير المهنية والمضطربة مرة أخرى، حيث تعجل وزير الاتصال الناطق باسم الحكومة، وصرح لقناة "BFM TV"، قبل بداية التحقيقات وظهور الاستنتاجات الأولية على الأقل، بأن ما حصل بمقهى "أركانة" هو "عمل إجرامي وإرهابي"، فيما بيان وزارة الداخلية يسبق التحقيقات القضائية، كعادتها، ليصف الحادث ب"العمل الإجرامي"، ويضيف وزير الداخلية، في تصريح للصحافة، بأنه "عمل إرهابي" ويتوعد من سماهم ب"الإرهابيين"، وبأن الجهات المختصة باشرت التحقيقات لتحديد ملابسات الانفجار. لقد كان حريا بالوزير أن ينتظر ويتريث إلى حين انتهاء مراحل التحقيق وألا يرتكب نفس الأخطاء التي ارتكبها سلفه، شكيب بن موسى في ملف "بلعيرج"، ومصطفى الساهل حول أحداث 16 ماي الغامضة. قيل أن شابا كان يرتدي قميصا، كتب عليه ريال مدريد، دخل المقهى وصعد إلى الطابق العلوي، فطلب عصير برتقال ثم فجر نفسه، ثم سرعان ما ظهرت رواية ثانية تقول إن التفجير تم عن بعد، فتناسلت الروايات والتحليلات، ليتدخل كل من هب ودب، كما حصل مع الإصلاحات الدستورية، لتمطرنا القنوات والصحف بمحللي آخر ساعة وخبراء تفجيرات وتنظيم القاعدة وحركات الإسلام السياسي. أما قناة 2M، فقد حاولت أن تتصنع الحرفية بإرسال مراسلة إلى عين المكان، لتخبر المغاربة، بأسلوب ركيك وارتجال يفتقر إلى المهنية، بأن "طبيبا بقسم المستعجلات بمستشفى ابن طفيل بمراكش وصف التفجير ب"الإرهابي"، لأنه وجد "مسامير في أجساد الضحايا". والأدهى في كل هذه "الروايات الإسرائيلية"، حسب مصطلح علم الحديث، هو تسرع محمد ضريف، خبير شؤون الحركات والأحزاب الإسلامية، حين صرح لقناة الجزيرة القطرية بعد الحادث بساعات، من مدينة الرباط وليس من مراكش، بأن الحادث وقع "نتيجة انفجار قنينة غاز". كما تدخل في تحليل الأحداث عمر الجازولي رغم أنه هو نفسه يحتاج إلى من يحلل فترة تحمله مسؤولية عمدة مراكش ويحاسبه، فأصبح خبيرا في شؤون الإرهاب، فصرح بأن جريمة مقهى "أركانة" من توقيع تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، الذي هدد قبل أقل من أسبوع، في شريط قديم، بتنفيذ أعمال "جهادية" في المغرب، دون أن يقول لنا كيف تأكدت لديه صدقية شريط المدعو المنقب "أبو عبد الرحمن المغربي". هناك ملاحظة ملفتة للنظر والتأمل، في سياق هذه الأحداث الخطيرة، هي غياب الوزير الأول عباس الفاسي، على الأقل في الأيام التي تلت الجريمة، وانفراد "وزراء السيادة"، العدل والداخلية، وأجهزتهما الأمنية والاستخباراتية والقضائية بالتصريحات والتعليقات والاستنتاجات المتسارعة بشأن خبايا وحيثيات هذا العمل الإجرامي، بتغطية إعلامية غير مهنية تتقاسم وجهة نظر الأجهزة الأمنية ووزارتي الداخلية والعدل حول الحدث الإجرامي. يستنتج من العفو الملكي في حق المعتقلين السياسيين، على خلفية أحداث الدارالبيضاء الإجرامية المتتالية، 2003-2007، وملف "بلعيرج"، ومن قبله تصريح الملك للصحافة الإسبانية عام 2005، بأن هناك جهات وأيادي تعبث باستقرار الدولة المغربية وبالسلم الاجتماعي المغربي، أيادي عملت وتعمل منذ انطلاق حركة 20 فبراير وتفاعل الملك معها، على الأقل من وجهة نظره وبما تسمح به الضغوط في دائرة القصر وعواصم دولية، على إحداث وقيعة، بل شرخا ومواجهة بين الملك والشعب وإجهاض كل المبادرات السلمية الرامية لنقل المغرب، في خضم الثورات العربية، نحو تجربة سياسية ديمقراطية متفردة بتصورها وطرحها وتنزيلها وضماناتها. لقد أحست الأوليجارشية، الممثلة في مثلث الموت الأمني-الرأسمالي-اليساري، حليف المخزنيين الجدد، بأن شعارات ومطالب الشعب المغربي بقيادة الحركات التصحيحية، وعلى رأسها 20 فبراير، ومؤطريها من رجالات الفكر والحقوق والإعلام الشرفاء الوطنيين والإسلاميين، قد طالت أعناقها وأن هناك مسارا انطلق سيوصلهم إلى ساحة العدالة الجماهيرية. إن الاعتداء على مقهى "أركانة"، في هذا التوقيت السياسي الدقيق، هي بالفعل "عملية عن بعد"، حسب تعبير وزير الداخلية، خلال اجتماع للجنة الداخلية واللامركزية والبنيات الأساسية بمجلس النواب، بمعنى أن الذين خططوا لهذا التفجير الثلاثي الأبعاد نفذوها عن بعد، تفجير في وجه الملك الذي أعلن رغبته في التجاوب، بطريقته، مع مطالب الشعب المغربي، وتفجير في وجه الشعب الذي لم يُرِد، حتى الآن، أن يضع الملك، بل الملكية، في عمق حركته التصحيحية وموضع المساءلة، وتفجير في وجه عواصم غربية ترى طبقة الأوليجارشية أنها تخلت عنها لفائدة حركة الثوار الشباب في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، فأرادت، كما فعلت نظيراتها في كل الدول التي أُسقطت أنظمتها، أن تستبق هذه العواصم قبل أن تتبنى مطالب الشعب. وأضاف وزير الداخلية أمام أعضاء اللجنة البرلمانية بأن "الجميع يعرف الجهة التي تستخدم هذا الأسلوب في التفجير"، دون أن يقول ماذا يقصد ب"الجميع" ومن هي هذه "الجهة"؟ ربما قد يوجه الاتهام هذه المرة، خلافا لاتهامات 16 ماي، إلى رأس حربة الحركات التصحيحية، 20 فبراير وخط دفاعها الأمامي وهم مناضلو الأحزاب وتيارات الإسلام السياسي واليسار الجديد المناوئين للحزب الملكي وصديقي الملك فؤاد عالي الهمة، كاتب الدولة في الداخلية السابق ومهندس خريطة ما بعد انتخابات 2007 التشريعية، ومحمد منير الماجدي، حارس ومهندس إدماج الاقتصاد الوطني في الثروة الملكية. هناك سيناريو آخر، قد يكون أحد أهداف هذه العملية الإجرامية، هو فرض نوع من الاصطفاف على الشارع المغربي من خلال افتعال قضية "أمن المغرب واستقراره" لإلغاء المطالب الشعبية، خاصة في هذه الظرفية الأمنية الحساسة، أي أن يفرضوا على الشعب المغربي أجندة مفتعلة على حساب المطالب المشروعة، ليصبح شعارهم، كما كان في فترة الحملات الدعائية لقضية الصحراء، "لا صوت يعلو فوق صوت أمن البلد". إنني أتصور سيناريو أسود، له سوابق مع الملك الراحل الحسن الثاني، حين كان وليا للعهد عام 1960، هو أن يعلن تعرض شخصيات هامة في الدولة لمحاولة اغتيال وأنه تم القبض على المجرمين، ويبدأ مسلسل محاكمات جائرة، كما كان الشأن مع المظلومين على خلفية ملف "بلعيرج" و16 ماي. لقد تم اختطاف الفقيه البصري وسعيد بونعيلات وحسن الأعرج ومحمد منصور وبن سعيد آيت يدر وغيرهم عام 1960، بتهمة محاولة اغتيال ولي العهد الحسن الثاني المفبركة، والتي كان عقلها المدبر مستشار وصديق الملك رضا كديرة، فانطلقت حملة اعتقالات في صفوف رجال المقاومة بالدارالبيضاء، كان من بينهم بنحمو الفاخري وبنموسى البرايمي والجابوني والعديد من المقاومين. لقد ساهمت هذه الأحداث في تعميق القطيعة بين المؤسسة الملكية والحركة الوطنية، فهل ستساهم أحداث مراكش الإجرامية في إسقاط الشعب والملك في شراك صراع مدبر ووقيعة جهنمية لإجهاض المسار التصحيحي الذي انخرط فيه الشعب المغربي وقواه الحركية والفكرية؟ أم سيفوت الملك على هؤلاء الانقلابيين الجدد، أعداء التغيير، الفرصة ويرفع التحدي ويتحالف مع الشعب لبناء مغرب دولة القانون والمؤسسات، حيث لا أحد فوق القانون ولا جريمة بدون عقاب. إنه آخر اختبار للملك لمواجهة أعداء الثورة الدستورية الثانية، مثلث الموت الانتحاري، والانضمام لحركة الشعب المغربي التصحيحية والعبور نحو المستقبل. *دبلوماسي سابق [email protected]