كان محمد البقال ينتمي إلى الجماعة التي سئمت مواجهةَ الظلم بالتمني والاعتدال، واقتنعت بأنه لا نهاية لهذا الاحتلال إلا بسواعد الرجال ومشاركة النساء في هذا المجال. وأذكر أننا في إحدى زيارتنا إلى منزله، رأينا أفراد أسرته تتحرك كما عهدناه يتحرك. فحين تقطع المنزل المتواضع في اتجاه الغرفة التقليدية البسيطة التي جعلها محمد البقال للاستقبال، تمر من صحن الدار، فيُعطرك عبير الوطنية، ويهب عليك من كل ركن وزاوية نسيم البطولة النسائية. ولفت انتباهي يومها خروج ودخول أصغر عُنصر في هذه الأسرة: فتاةٌ أقبلت علينا بجلبابها الرمادي مع نقاب، وبعد السلام على جمعِنا، استأذنت خالها للانصراف إلى تنفيذ ما أوكل إليها من مهام، فهمس في أذني صاحبي "العزوا" أو بن جلون كما سأسميه من الآن، وقال لي همسا: "هذه فاطمة البقال بنت أخت السي محمد، نسخة طبق الأصل عن خالها..عليك أن تأخذها قدوة أنت الذي صدعت رأسي بصغر سنك.. هاهي فاطمة أصغر منك سنا ولكنها تعمل كعشرة من الرجال دون كلل ولا ملل". وبالفعل لم أدْرِ كم مر من الوقت علينا حتى رأيتها تعود بخطواتها السريعة، مشيرة إلى خالها أنها أنجزت المهمة حسب ما فهمت.. يا لها من أسرة.. أسرة البقال.. بعد جمعنا بدأ الطريق أمامنا يتضح، والحديث يكتسي جرأة التصريح بدل التلميح، وبدأ البقال يفسر لنا أن جماعتنا هي من ثمرات تلك الشجرة المغروسة بأيادي النخبة البررة المعرضين منذ عشرينيات القرن العشرين لبطش وعدوان وتنكيل الكفرة، وأننا سنجتهد في الوسائل ونبتكر البدائل، لأن الحق يؤخذ ولا يعطى. فالحماية المتنكرة لعقدها لم تكتف باحتلال الوطن، وسلب خيراته وقمع من تفوه بطلب حقه، بل عززت ذلك بنشر الفساد وتشجيع المفسدين وفتح دور الإفساد، وتنصيب المسؤولين عليها الذين يبلغ بعضهم رتبة قائد في بعض الأماكن، كعرصة الحوتة، وأشهر "القيمين" عليها هو القائد بُوفسِّوْ.. أما عرصة موسى، فذاك "وكر" تصب فيه السواقي من الأموال، وتتقاسمها جميع الشخصيات التي باعت ضميرها وخانت وطنها، ومنهم من أجّر للمستعمرين أماكن أُخرى خارج الأسوار تُعد بالهكتارات لهذه المحرمات.. فالجشع يعمي البصيرة وينسي الأغبياء النهاية الأخيرة. أدرك المستعمر ذلك، فبدأ يوزع فُتات نهبه، ويمنح الرخص لمن هُن في خدمته من جاسوساتٍ يسميهن "الباطرونات"، اللواتي كن يستدرجن النساء المغريات ويحبسنهن في تلك الدور والرياضات لتوفير "المتعة" لمختلف الزبائن ومن كل الجنسيات. كما أن المستعمر أدرك ما في بعض المناسبات من شعوذة ومواسم جهل وخرافات، فعمل على تشجيعها وحث الأعوان على دعمها وتزكيتها. هكذا كان يشرح البقال ذلك كله، ويُلح على وجوب محاربته في إطار الأسلوب الجديد الذي سينطلق هذه المرة ابتداء من هذه التحضيرات للاحتفال بعيد العرش المجيد.. وكرر السي محمد أننا جماعة تحتفظ لنفسها بهامش من الحرية في اتخاذ المناسب من القرارات، خاصة بعد المناخ الذي أصبح يسود بفعل ما يطال القيادات من اعتقالات أو اختفاء، أو هروب وإبعادات، إضافة إلى ما تُيسِّره وسائل الاتصال المتجددة، كظاهرة "الراديو" العابرة للبحور والمسافات، من تزويد المُواكب لها بما جد من الأحداث. وكان البقال من المواظبين على "الراديو"، حاثا أتباعه على الاستفادة من أخباره وبرامجه.. ولم يكن "الراديو" قد انتشر عند عامة الناس بعد، فالقلة القليلة من يهتمون به، وعلى رأسهم الوطنيون، وبعض الفلاحين الكبار، وبعض المتعلمين من أعوان السلطة والاستعمار؛ كما أنه كان قد حظي بإعجاب الباشا واعتبره حجة علمية تليق للتنويه بفوائد الحماية، وهو الذي يملك أحدث الأجهزة؛ فتسابق المقربون منه للثناء على هذا الاختراع مجاملة له.. حتى إن شاعر الحمراء أدخل "الراديو" ضمن اهتماماته الإبداعية الأدبية، فضَمّنَ مجموعته الشعرية بعضا من الأبيات عنه، والتي انتشرت بفضل ما كان له من شعبية، حتى عند شباب الكلية اليوسفية، رغم ما كانوا يعيبونه عليه من ضُعف في مواقفه الوطنية، وكان بعضهم يحفظ بعض الأبيات من أشعاره التي تأتي مصاحبة لبعض أخباره وطرائفه وأسفاره، ومنها: السِّحْرُ هَذَا مَا أَرَى *** أَمْ تِلْكَ أَحْلاَمُ الكَرَى بْلْ هِيَ أَفْكَارُ الوَرَى *** أتَتْ بِعُجْبِ العَجَبِ كُرَةُ الأَرْضِ انْكَمَشَتْ *** فِي بَعْضِهَا بَعْض مَشَتْ وفِي حَشَاهُ عشَّشَتْ *** فالشرقُ جَارُ المَغربِ يَا لَخَطِيبٍ قَدْ سَكَنْ *** مِنْبََرهُ فَكُلُّ مَنْ يَشَاؤُهُ عَلَيْهِ أَنْ *** يَطْلُبَهُ فَيَخْطُبِ يَدْرِي لُغَاتَ العَالَمِ *** وَلَيْسَ بِابْنِ آدَمِ وَهُوَ لِسانُ تَفَاهُمِ *** مِنْ أعجميٍّ وعربِيٍ فكُلُّ حادثٍ جَرَى *** مِمَّا تَرَى أولاَ تَرَى فِي الحِينِ عَنْهُ أَخْبَرَ *** بالصِّدْقِ أو بالكَذِبِ وبقية الأبيات أصبحت متوفرة بفضل ديوان روض الزيتون لشاعر الحمراء الذي نسّقه ودقّقه الدكتور أحمد بينبين. كان كما قلت من التجار والعلماء قلة ممّن يواكبون سير الحضارة البشرية، ويملكون هذا الجهاز وما قبله من ماكينات خاصة بالأسطوانات، أما في بيوت بعض المتشددين والصوفيين فهو من المحرمات، وهناك من فسّره بالدّابة التي تُكَلِّمُ الناس في بيوتهم كعلامة عن فناء الدنيا ونهاية الحياة. ومن هنا كان أيضا وجوب محاربة مثل هذه الخزعبلات من طرف نخبة ابن يوسف، والوطنيون منهم على الخصوص، ضِدا على الذين كانوا يروجون هذه التفاهات من المعتقدات التي بلغت في إحدى الجُمعات أن فقيها مشهورا ومحبوبا حدد يوما معلوما لقيام الساعة، وخلق ذلك بلبلة تخطّى صداها حتى حِزام مراكش، وانتظر الناس فعلا ذلك اليوم الذي قيل فيه ما قيل، ولكن شيئا بطبيعة الحال لم يحدث. وصدق الله العظيم إذ قال: "يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ".. غفر الله لنا ولفقيهنا المتنبئ بتلك الفتنة. المهم أن "الراديو" أصبح يلعب دورا هاما في تكوين الوطنيين، فصرنا نفضل اللقاء حيث يوجد هذا الجهاز، فنتحلق حوله باندهاش وبعلامات الاستفهام والتعجب والإعجاز، خاصة عند نقله أخبار تلك الديار التي غزت بفنها الغنائي، والمسرحي، والسينمائي، جل الأقطار: مِصْرْ. وبدأنا نتناول بالتدقيق ما حدث فيها من ثورة نُسبت لضباط أحرار، جعلوا على رأسهم محمد نجيب، الذي نال الثناء والتنويه. وانتهز الوطنيون فرصة الحدث وما يحمله من عِبر فوظفوا كل ذلك في عمليات التوعية، واعتباره قوة تدعم القضية، وتعلن قرب بزوغ شمس الاستقلال والحرية. وقام المستعمر في مقابل ذلك يُوصد المسالك، وينشر أعوانه بين عامة الناس للتخويف بأن تداول أخبار "الراديو" يجر إلى المهالك، ودفع بالخبراء إلى التشويش على كل اتجاه أشارت إليه أصابع التفتيش، فأصبح ما يعرف ب"البَارَازِيتْ" يخفي وضوح الأصوات، ويقطع بعض المحطات. غير أن أيادي الوطنيين لم تعد مغلولة، ولا عقولهم عاجزة مشلولة، فبرزت المواهب، واكتُشفت الأساليب التي يسرت للمعلومة أن تصل ولا تغيب. وبقصد أو بغير قصد بدأ الشعب يساعد في استفزاز الاستعمار وإشعاره بمواكبة ما يذاع من أخبار "ثورة أحرار مصر"، فأصبح كل من رزق بمولود ذكر في تلك المرحلة يُسميه محمد نجيب. ومر احتفالنا بعيد عرشنا في غمرة هذه الأفراح، وتسابق الشباب إلى منصة الخطابة والنضال والكفاح، لتتبارى "الحومات" والأقلام في انتقاء كلمات التنويه بطلبة ابن يوسف المفْرَجِ عنهم، وهم من خيرة الشبان، وارتفعت الحناجر للمطالبة بالإفراج عن الزعماء وكل من هم وراء القضبان، وانتشر صدى ما يجري في ساحة مولاي اليزيد المزينة بالرّايات الحمراء وأقواس الجريد، وصور الرمز محمد ابن يوسف في إطار جديد، فأقبل الناس يتسابقون، وبما كان يردده الخطباء يهتفون، ولإظهار التأييد يصفقون ويحمسون. أما أنا فقد كنت أتنقل بين القصور والقصبة، احمل صورة ابن يوسف التي استعنت بالمعلم لعوينة النفافري بحي سيدي إسحاق لصنع إطار جميل لها، وأحاطتها بنجوم مذهبة في أحجام صغيرة إلى أن أصبحت تحفة مثيرة. وكلما ازداد حماس المتحلقين في تجاوب مع المشاركين إلا وكنت أرفعها فيزداد لهيب الحماس وترتفع الهتافات من حولي. أمر طبيعي ألا يخلو جو احتفالي كالذي غمر ذكرى عيد العرش في تلك السنة من عناصر الفتنة المبثوثة المدسوسة، المتلوِّنين في أكثر من صفة. كان الوطنيون ينعتونهم ب"الأذناب" أو"البيّاعة" المتملقين للسلطات المظهرين كل الخضوع والطاعة والاستعداد للقيام بكل ما يُدْفَعُونَ إليه من ترويج الإشاعات المغرضة، وتشتيت الصفوف المتوحّدة، وفضّ الاجتماعات والتجمعات بافتعال الخصومات ومظاهر العربدة، وإلصاق الاتهامات بمن يصعب عليهم جرّهم أو إغراؤهم.. فتارة هم "شُورِيُّونَ" يُشَوِّشُونَ على تجمعات المنتمين إلى "الاستقلال"، وتارة أخرى هم "استقلاليون" يفسدون الحفلات لتلك القلة "الشّورية"، فتنطلي حيلهم على الجميع، وأحيانا تتحقق أغراضهم فتقدم لهم المكافآت وبعض الامتيازات بِغَضِّ الطّرْفِ عن أنشطتهم في بيع "الحشيش" والخمور وموائد القمار في ساحة جامع الفناء لسلب الناس أرزاقهم.. بمثل هذه النماذج كانت تحارب أنجح تجمعات الوطنيين، وحتى تجمعات أولئك الذين يحتفلون على طريقتهم في أماكن متفرقة من مراكش، حيث أسقط كلام العَيْاطَات نشيدهم، والصينيتان الكبيرة بأباريقها (البراريد)، والصغيرة ب"زنابلها" الخاصة بحبوب الشاي الأخضر، والسكر، والنعناع، على مختلف أحجامها، ديكورهم، للتمويه والتغطية على ما تكدس من صناديق "بِيرَة" الشعير، وأخرى لمُسْتَخْرجات العنب المخمّرة، إلى جانب منتوج "الميعارة" المستخلص من ثمرات كرم التين المعروف ب"الماحيا".. حتى هؤلاء لم تسلم تجمعاتهم الماجنة من التضييق. أما احتفالات أعلى سلطة في المدينة والإقليم، فتنحصر في ذلك الموكب الباشوي المثير الذي سبقت الإشارة إليه، إذ ينطلق بالسيارات إلى أبواب "سوق أبلوح"، ثم يترجل الجميع وراء الباشا لشق كل الأسواق المتجاورة من "السمارين" و"النجارين" و"الشكايرة" وبعض "القيساريات" الهامشية، التي ذكرتها من قبل. وهنا لا يكتفي التجار بإظهار الزينة فحسب، بل يدفعون للأمناء قدرا من المال، والأمناء للخلفاء، والخلفاء لسيادة الباشا. أما إذا صادف العيد زيارة الملك إلى مراكش كمثل سنتنا تلك، فإن الأمر يختلف تماما. كان السلطان يستعمل الحصان إضافة إلى السيارة، ويقوم بزيارة "سبعة رجال"، وتختفي عجرفة الباشا فتراه يعطي التعليمات لأعوانه بنفسه. ومن مظاهر الحفاوة وحسن الاستقبال التي كان يحرص عليها الباشا أثناء زيارة محمد بن يوسف، ظاهرة "العْلامات"، وهي عبارة عن تشكيل هيكل امرأة من القصب، يلبسونها الملابس النسائية (القفطان) ويغطون رأسها بأحسن المناديل ويزينون الوجه الافتراضي بمساحيق التزيين، إضافة إلى بعض الزهور والورود على "شدة الرأس"، وحزام الخِصر. كانت كل هذه الطقوس في وادي، واحتفالات الوطنيين في ساحة "مولاي اليزيد" في واد آخر. يتبع.. *سيرة ذاتية للفنان المغربي الكبير محمد حسن الجندي، بعنوان "ولد القصور"، تنشرها هسبريس مُنَجمة على حلقات يومية في شهر رمضان الكريم