حدث ما لم يكن في الحسبان ، حيث لم تكن الأنظمة العربية تنتظر خروج شبابها في يوم من الأيام إلى الشارع للمطالبة بتغيير النظام جملة وتفصيلا أو إعادة صياغة دستور جديد . ولم تكن الشعوب هي الأخرى تتوقع أن شبابها سيلتحم وسيتكتل للمطالبة بحقوق المواطن على الدولة ،وهو يتلقى كل أشكال العنف والتقتيل بصدور عارية ، وأيد فارغة من أي سلاح للدفاع عن النفس . لقد استطاع هذا الشباب أن يتخلص من أول حاكم مستبد بتونس ، لما قضى الله ألا يستمر بنعلي في محاربة التونسيين طويلا، فكان محمد البوعزيزي بمثابة " دابة الأرض " التي حررت الجن من خدمة سيدنا سليمان عليه السلام –سنينا أخرى - بعد موته ، مع الأخذ بالفارق الكبير بين سيدنا سليمان ونظام بنعلي . فثبت بالبرهان أن نظام بنعلي كان أهون من بيت العنكبوت، وأنه كان نظاما متهالكا وميتا قبل سقوطه . فكان نظام بنعلي كذلك بمثابة " دابة الأرض" التي دلت المصريين على موت نظام مبارك . وهكذا بدأت كل الشعوب تحرك عروش الأنظمة الحاكمة وتهزها هزا ، لتتيقن من موتها أو اقتراب ساعة سقوطها. فخروج الشباب للشارع فاجأ الجميع ، وإن كان المتتبعون يربطونه بانتشار وسحر الشبكة العنكبوتية . فهل كان الانترنيت واتصال الشباب يبعضهم البعض بعيدا عن عيون المراقبين الأمنيين الأداة الفعالة التي مكنت الشباب من صناعة قوة معارضة للأنظمة الحاكمة ،وعلى خلفية الفساد الذي ميز سلوك تلك الأنظمة لعقود ؟ أم هناك أشياء أخرى فرضت على تلك الأنظمة من الخارج ، ولم تستطع – تلك الأنظمة -إدارتها فسقطت في الفشل ؟. هذا الفشل الذي أضيف إلى حالات فشل سابقة عانت منها الشعوب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا . ولقد أقر محسوبون على الأنظمة المنحلة في تونس و مصر وفي ليبيا و اليمن وسوريا وغيرها بوجود خروقات وفساد وتلاعب بحقوق الإنسان . لقد سقط القناع ثم سقط النظام في تونس، والذي كان يشكل " نموذجا" بالنسبة للغير. وها هي " ثورة معمر " تعيش أحلك أيامها ، بعدما فطن الشباب الليبي إلى أن ثورة قائدهم (!) كانت فقط ثورة سريالية . نفس الأمر في مصر حيث كان مبارك يصر على أن مصر هي " أم الدنيا" بينما كان يقودها، هو، وزمرته إلى الإفلاس . وفي المغرب مع فارق في الشكل ، وفي وقت كان " القاضون حاجة " يتغنون بالإنجازات على صعيد حقوق الإنسان وحقوق المرأة ، و السكن ، و الشغل ، وجودة التعليم ، ومسلسلات الديمقراطية ، تبين أن الديمقراطية التي كان يتغنى بها أصدقاء السلطة كانت " ديكتاتورية" بالنسبة للعديدين . ولقد حان الوقت ، لإعطاء الفرصة لبزوغ شمس يوم ديمقراطية غير مزيفة تمنح رئيس الوزراء صلاحيات سلطة تنفيذية معقولة ، ولغرفة البرلمان صلاحيات السلطة التشريعية الحقيقية ، وكذلك تعطي القضاء الاستقلالية التامة والمسؤولة . لقد اجتمع الشباب حول كلمة التغيير بالآلاف ، وهم يطالبون بالحقوق الفردية والجماعية ،و يضغطون على الحكومة بقوة وكأنها ساعة الحسم التي ستكتب البقاء للأقوى . ربط حركة الشارع " بالقاعدة "ب (ليبيا، سوريا ، اليمن) أو بمجموعة متمردة فاسدة ، لم يعط أكله عند الغرب - كما في السابق – الذي راح مخالفا لكل توقعات الحكام الاستبداديين ، بثمن التغيير في الكثير من البلدان العربية ، لأن هذا الغرب كان يعلم مسبقا من قريب أو بعيد أن " موجة التغيير " ستضرب تلك الدول ، بعد كل الحراك السياسي والاجتماعي الذي عرفته تلك الدول ونظرا للتراكمات السلبية داخل كل بلد بلد . كما بات أمرا مستحيلا تهرب الدول العربية من مسؤولياتها القانونية والجنائية اتجاه مواطنيها في حالة حدوث تجاوزات. فلم يعد في استطاعة أي دولة عربية التلاعب بالاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها بخصوص حقوق الإنسان . فالشباب أصبح لا يؤمن بالشعارات وإنما بالوقائع . فهو يطالب بالحرية والكرامة والشغل والسكن ويريد أن يرى كل هذا حقيقة ملموسة . لقد مضى زمن كان فيه الشباب يقرأ عن الحرية ولا يراها ، ويقرأ عن العمل ولا يمارسه ، ويقرأ عن الكرامة وهو عبد لغيره ، لا قيمة اجتماعية له . واليوم يريد هذا الشباب أن تكون كل الاتفاقيات الدولية واقعا معاشا ،وليس فقط دروسا في المدارس، وبرامج عبر وسائل الإعلام ، ووثائق تؤثث مؤسسات الدولة ، ومساحيق يزين بها النظام واجهته . ولقد كانت التظاهرات الشبابية فرصة وضعت الأنظمة العربية تحت المجهر وتحت التجربة ، فتبين بالملموس أن حقوق الإنسان وحقوق الطفل والعيش الكريم لم تكن سوى شعارات براقة ، خاوية من أي مضمون ومن أي إرادة سياسية حقيقية . وإلا كيف يعطي النظام لنفسه -في بلدان عربية - قتل مواطنيه بالرصاص الحي وتسميمهم بالغازات المحظورة لسبب واحد أنهم قالوا " اللهم هذا منكر" ؟؟ من سوء طالع الأنظمة أن شباب اليوم ، لا يشبه آباءه في المهادنة والموازنة إزاء السلطة، فهو شباب متعلم ، مدرك لواقعه ، وعالم بقدرات بلده ، يستطيع الدفاع عن نفسه بكل جرأة . فهل دعواته بالشفافية ومحاربة الفساد عقوق في حق وطنه ، أم هو المطلوب فعله بالضبط ؟؟؟ فالفقر ليس سببا وحيدا وراء تحرك الشارع بالبلدان العربية ، وإنما " السياسة " على خلفية أن الفقر الذي تعرفه الشعوب العربية نابع من فساد النخب السياسية واستحواذ الحزب الوحيد أو الحاكم الوحيد على القرار والخيرات. لقد عرفت اليونان السنة الماضية مظاهرات وأحداث شغب وهي دولة غربية، وعرفت البرتغال وإسبانيا واسكتلندا وأمريكا أزمات مماثلة ،ولم يحدث أن طالب الشعب بتنحي " النظام" ، لأن الأوروبيين يعلمون علم اليقين أن الأزمات كانت خارج إرادة الحكومات المنتخبة بطريقة ديمقراطية ، وأن تلك الحكومات لها الكفاءة لفك الاختلالات ومواجهة الأزمات . فلم تلاحظ أية مطالبة بحل حزب أو نظام أو أحداث قتل . هم لم يفعلوا ذلك لأنهم كانوا يثقون في دولهم وفي مؤسساتها التي تدار بعقول نقية ، وأيد طاهرة .فالمواطن الأمريكي الذي فقد شغله وفقد سكنه كان يؤمن بأن دولته لن تتخلى عنه، لأن هناك ثقة متبادلة بين الحاكم والمواطن . هذه الثقة المفقودة بين الأنظمة العربية وشعوبها التي تؤمن بأن أزمة بلدانها هي أزمة هيكلية مزمنة لن ينفع معها، الثروات الباطنية ولا " ضخ أموال الغرب كاستثمارات"، لأن أموال الشعب التي كان من المفروض أن توظف لصالح الشعب كانت تهرب للخارج . الغرب يعلم هذا ، ويعلم عن ودائع كل الأنظمة العربية بالخارج ، ولهذا السبب لم نسمع أي حاكم عربي يصرح بأن الأزمة العالمية كانت سببا مباشرا في قلب الطاولة على نظامه من طرف الشباب المطالبين بالعيش الكريم . كان بإمكان ملايير مبارك ، وبنعلي وعلي صالح والقذافي أن تفعل الكثير .. وتنقد الشيب والشباب من الضياع . هي مهزلة حقيقية أن يطالب نظام ما باستثمارات الغرب ومساعداته و بملايين الدولارات ،في وقت رأس النظام أو من حوله يودعون عشرات ملايين الدولارات ببنوك غربية. ألم يكن الأولى أن يعطي رؤوس النظام المثل بأنفسهم باستثمار مدخراتهم ببلدانهم أولا ؟؟؟ فلو أعطى مبارك لمصر القليل مما يملك لأعطاه فقراء مصر مالا يملك " الحب". ولو أعطى القذافي لليبيين مما كان يملك ،في وقت كان يغدق في العطاء لمرتزقة سياسيين وعسكريين ، لأعطاه الليبيون مالا يملك " الوفاء". ولو أعطى بنعلي للتونسيين شيئا مما كان يملك لأعطاه التونسيون ما لا يملك " الأمان" . وهكذا... صفحة جديدة من تاريخ الشعوب تكتب، اليوم ،بدماء الشباب وتضحياتهم من أجل تغيير واقعهم الذي أصبح متجاوزا ، وأصبح فعلا أمرا مكروها أن تسمع عن سرقات المال العام ، والفساد ، وغياب الضمير المهني والتحريف ، والعبودية ، والانحراف والرشوة والزبونية ونحن في القرن الواحد والعشرين ، وفي عصر الفضائيات والانترنيت والحريات ، إضافة أننا مسلمون. لقد أصبح أمرا مخجلا فعلا ، أن يتمادى أي نظام سياسي في التعامل مع الشعب بعشوائية وهناك ترسانة من القوانين ، والمئات من دور العدالة ، في حين أن هذا الشعب يسمع يوميا عن فساد اقتصادي أو سياسي ، اجتماعي أو إداري ولا يتعرض صاحبه لأي متابعة أو عقاب ، بينما يسمع عن اختطافات لمواطنين بمجرد ما تحوم حولهم شبهات التطرف. ولو تعامل النظام بنفس العدة مع الفاسدين في النظام وفي المجتمع لاستقامت حياة الناس ولحصل كل من يستحق على حقه كاملا. من أجل ذلك ، لن يتحقق التغيير الحقيقي إلا إذا تكونت هياكل التغيير داخل المجتمع المدني ، من الشباب وغير الشباب ، ليكونوا قوة ضغط دائمة وثابتة على النظام نفسه انطلاقا من داخله وخارجه (فلسفة الدفاع، ولولا دفاع الله الناس بعضهم لبعض). فالبرلمانيون جزء من النظام ، ولكنهم نواب عن الشعب . والمحامون والقضاة جزء من النظام ولكنهم جزء من الشعب كذلك. والعسكريون والأمنيون هم جزء من النظام وجزء من الشباب ولكنهم كذلك أبناء الشعب يمكنهم الوقوف إلى جانب الشباب ، بل عليهم أن يكونوا أول المطالبين بتنقية النظام والمجتمع من الفاسدين وفضحهم . ففي تونس ومصر بدأت محاكمات الفاسدين كمقدمة للإصلاح والتغيير الذي طالب به الشباب ، فهل سنسمع عن محاكمة فاسدين في المغرب والجزائر وموريتانيا والسودان وليبيا وقطر والأردن وغيرها ، كي نستطيع القول أن الشعوب فعلا بدأت تجني ثمار ثورات 2011 ، وأن الأنظمة أدركت أن لا شيئا ثابا وأن قاعدة " يوم لك ويوم عليك " صالحة لكل العصور. ما على الشباب أن يدركه ، أن تغيير رجل برجل ليس هو الحل ، وإنما الحل في الرجل نفسه .وما على الشباب أن يدركه أن الاضاءة " بالشمع " خير من العيش تحت الظلام ووسط الفوضى . وإذا كان العقلاء والحكماء في هذا الوطن " المغرب" يؤمنون بالتغيير حقا، لأن لا تغيير معناه الرتابة والموت ،فما عليهم إلا يثبتوا بنيانهم وصرحهم فوق قواعد صلبة وبوطنية صادقة ، تتيح التغيير دون التفريط ولو بقطمير من المنجزات . وعليهم أن يضعوا أمام أعينهم أن التغيير يستوجب الموارد، وموارد المغرب محدودة ، وأن هذه الإشكالية ستكون مشكلة أي حكومة كيفما كان لونها. وأن فقط بالحوار حقق المغاربة المعجزات وصدوا عن المغرب أشرس العواصف . فالتغيير يستوجب درء الفرقة والحفاظ على الوحدة البشرية والوحدة الترابية . كما أنه يستوجب أكثر من تظاهرة سلمية وبطريقة حضارية ، لأنه لا يوجد نظام يعمل من ذات نفسه لصالح المواطن . ولكي يأخذ كل ذي حق حقه ، يجب أن يكون التعليم للجميع ولكن العمل لمن يستحق ، والصحة للجميع لكن المساعدة للفقراء ، والحرية للجميع لكن العقاب جزاء المتهور ، والمسؤولية للكفء لكن المحاسبة هي التي تمكن من ترقي وتزكية الأفراد .والسياسة للجميع لكن القيادة للفقيه ،الملتزم ، والأمين على الوطن والموطن. نباهة الشاب المغربي ستمكنه لا محالة من بلوغ التغيير الذي ينشده ، ولقد أثبت أن لا أحد يمكنه أن يزايد عليه في حب المغرب ، فهو يمارس حقوقه بكل مسؤولية ، وعينه على التغيير والعين الأخرى على الوطن .