تشهد مختلف وسائل الإعلام البلجيكية منذ أن استهل شهر رمضان لهذه السنة جدلا محموما حول صيام التلاميذ، سيما أن الصيام يقع هذه السنة في المرحلة الأخيرة من الموسم الدراسي، ويمتد لحوالي 19 ساعة، في حين تزامن في الأعوام الماضية مع العطلة الصيفية. ولعل هذا الجدل ما هو إلا انعكاس مباشر لما يجري من نقاشات وأخذ ورد داخل مختلف المؤسسات التعليمية الابتدائية والثانوية، التي وجدت نفسها بين عشية وضحاها أمام نوازل غير مسبوقة بمثل هذا التأثير والتحدي، ولا تملك حلولا عملية جاهزة للتعامل معها بشكل أنجع. ولابد من الوقوف عند أسباب نشوب مثل هذا الجدل الساخن واستمراره، للتأكد من مدى موضوعية وواقعية ما يتذرع به التيار المعارض لصيام أطفال المدارس، ومن ثم الكيفية التي تفاعل بها الطرف الإسلامي مع هذه النازلة، التي تعد بمثابة تحد آخر للشريحة المسلمة في بلجيكا. إن المبررات التي يتمسك بها المسؤولون عن القطاع التربوي تبدو بشكل أو بآخر موضوعية ولو نسبيا، فهي نابعة من تخوفهم من الفوضى المباغتة التي نشأت داخل بعض المؤسسات التعليمية التي تحتضن أعدادا كبيرة من التلاميذ المسلمين. ويمتنع عدد من التلاميذ عن المشاركة في بعض المواد والأنشطة المدرسية الإجبارية، كدروس الموسيقى والتربية البدنية والسباحة، بدعوى أنها قد تسبب في عرقلة مسار الصيام ونقضه، كما أن مردودية التلاميذ الصائمين تتراجع بشكل ملحوظ، فيشعرون بالتعب والنوم والجوع والعطش. ويعيق الصيام الأنشطة المتنوعة التي يتوج بها الموسم الدراسي، كالأيام الرياضية التي يشارك التلاميذ أثناءها في مختلف المباريات والمنافسات الرياضية، وهذا يعني بذل مزيد من الجهد والحركة، والحفلات المدرسية التي اعتاد أولياء الأمر المساهمة فيها بشتى أنواع الأكل والحلويات والهدايا وإدخال السرور على الأطفال، الذين قضوا عاما كاملا في التعلّم والتحصيل.. وتزامن شهر رمضان هذه السنة مع امتحانات نهاية الموسم الدراسي، التي تشكل حدثا مفصليا في حياة الطفل الدراسية، إذ يشكل رسوب التلميذ خسارة لا تقدر بثمن، إما للتلميذ نفسه، أو لأسرته، أو للمدرسة، أو للمنظومة التعليمية برمتها. ويرى القائمون على التعليم ببلجيكا أن الصيام قد يحطّم كل ما اكتسبه التلميذ طوال العام الدراسي من معارف ومهارات وإدراكات، سيما أن التلميذ المسلم في الأقسام الابتدائية الأخيرة والثانوية يشارك في الامتحان وهو صائم ولم يأخذ قسطه من النوم والراحة، بالمقارنة مع الأطفال الآخرين الذين يلجون قاعات الامتحان وهم على أتم الاستعداد، وبمعنويات جد عالية. تخوف رسمي هذه الوضعية الحرجة التي طرأت بقدوم شهر رمضان تخص عشرات الآلاف من التلاميذ المسلمين الذين ينخرطون في التعليم البلجيكي الرسمي، إذ يقدر عددهم حسب إحصائيات وزارة التعليم الفلامانكية أثناء العام الجاري حوالي 60 ألف تلميذ، ما يقارب 36 ألف منهم في التعليم الابتدائي، وما يربو على 24 ألف في التعليم الثانوي. ولا تقتصر تداعيات الصيام على عدد محدد من المؤسسات التعليمية، وإنما تمس المنظومة التربوية الرسمية قاطبة، وفي المدن الكبرى بشكل أوسع. ولعل هذا ما دعا وزيرة التعليم البلجيكي هيلدي كريفيتس إلى رفض مثل هذه الوضعية. وشددت الوزيرة على أنه يجب أن يحظى كل طفل بظروف جيدة داخل المدرسة، فلا تقف المعتقدات الثقافية والدينية حاجزا أمام مشاركته العادية في الدروس، وينبغي للمدارس التي تشهد مثل هذه المشاكل أن تفتح فورا الحوار مع التلاميذ وأولياء الامر". ولفت مدير مجموعة مدارس بروكسيل في شبكة التعليم المجتمعي جاكي خوريس الأنظار بتصريحه، الذي يعتبر فيه صيام الأطفال في سن التاسعة، العاشرة والحادية عشر جريمة، وفق ما تداولته أغلب وسائل الإعلام البلجيكية. وحسب خوريس، يرفض هؤلاء التلاميذ دروس السباحة تخوفا من تجرع الماء الذي قد ينقض الصيام، بل ويتجنبون أيضا المشاركة في دروس الموسيقى، وهذا أمر غير مسبوق تشهده مجموعة من المدارس في أحياء مولنبيك، أندرلخت وسخاربيك، حيث يتم إجبار الأطفال على الصوم. وربط خوريس هذا الأمر بتفشي الرؤية الأصولية حول الإسلام، ويرى أن كلمة الغناء لم تذكر في القرآن، لذلك فإن تحريمها هو مجرد تأويل، فإذا أردنا إقامة مجتمع عاد ينبغي التخلي عن هذه الأفكار الأصولية، ويقصد المتطرفة. أصوات إسلامية معتدلة وتعاطى الطرف الإسلامي بسرعة فائقة مع هذا المستجد، مقارنة مع تعامله مع جملة من القضايا الإشكالية في الماضي، كمسألة الذبيحة التي لا يزال الرأي العام الإسلامي في بلجيكا مختلفا حولها إلى حد اليوم. وأول من تفاعل مع إشكالية صيام التلاميذ هم المفتشون القائمون على التعليم الإسلامي في بلجيكا، والذين يحملون رؤية وسطية تتسم بالاعتدال والعقلانية كذلك. وفي حوار له مع جريدة "الستاندارد" الناطقة باللغة الفلامانكية أكد المفتش التعليمي المسؤول على منطقة الفلاندر الشرقية والغربية مالك الأسمر، أنه لا يجب على الأطفال الصيام، لا سيما الأطفال الذين لم يصلوا مرحلة المراهقة، فمن يجبر هؤلاء الأطفال على الصيام يرسل رسالة خاطئة. وعزا الأسمر رغبة بعض الأطفال في الصيام إلى تأثير الوسط الذي يعيشون فيه، فعندما يرون والديهم وإخوانهم وأخواتهم يصومون، فهم بدورهم يرغبون في ذلك، ولا يحبون الوجود خارج السرب. أما أحمد عزوز المفتش التعليمي المسؤول على منطقة أونفيرس، فيرى أن الأطفال أصغر من أن يصوموا، وعلينا أن نتحاور معهم بشكل منفتح وبناء، وذلك في حوار أجراه معه برنامج اليوم السابع الذي تبثه القناة الفلامانكية VRT. وأوضح عزوز أن الأمر يتعلق بقلة قليلة من الأطفال الذين لم يستوعبوا جملة من القضايا بشكل سليم، فمنهم من لا يريد المشاركة في دروس الموسيقى، رغم أن هناك رأيان في الإسلام حول هذه المسألة، فالأول متشدد ولا يجيز السماع إلى الموسيقى، في حين لا يرى الرأي الثاني أي مشكلة في الموسيقى. وربط المتحدث هذا الجدل حول صيام الأطفال بالتيار السلفي من جهة، وبتزامن شهر رمضان لهذه السنة مع الموسم الدراسي من جهة ثانية، فقبل ستة أعوام لم نكن نسمع مثل هذه الشكاوى، لأن شهر رمضان كان يحل في العطلة الصيفية. وخلص إلى أن الأطفال أصغر من أن يصوموا، وأنهم ليسوا مجبرين على الصيام في مثل هذه الوضعيات"، مضيفا أنه يسري عليهم ما يسري على المرضى والمسافرين والحوامل والعجزة، مبرزا أن الصيام لا يعني الامتناع عن الأكل والشراب فحسب، وإنما مجموعة من القيم كالتسامح والصبر ومساعدة المحتاجين. الكلمة الفصل لتنفيذية المسلمين ولم يكتف الرئيس الجديد لتمثيلية المسلمين في بلجيكا الأستاذ صلاح الشلاوي بإطلاق التصريحات لوسائل الإعلام بخصوص قضية صيام التلاميذ، بل تمكن من أن يقنع في زمن قياسي مجلس العلماء المنضوي تحت التنفيذية من أن يخرج ببيان يوضح فيه موقف الإسلام من صيام الطلبة والتلاميذ أثناء مرحلة الامتحانات. وقد كان المنطلق في صياغة هذا البيان هو الآيتان القرآنيتان الكريمتان في سورة البقرة، (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) و(لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)، كما تم تبرير هذه الفتوى بثلاثة أسباب، هي: أولا أن الإسلام دين يهدف إلى اليسر لا إلى العسر؛ وثانيا أن مدة الصيام هذه السنة جد طويلة؛ ثم ثالثا أن الأولوية هي نجاج التلاميذ في امتحاناتهم. وورد في نص الفتوى بنسختيها الفرنسية والفلامانكية ما مفاده أنه بالنظر إلى الظروف الاستثنائية التي جاء فيها شهر رمضان لهذه السنة، فإن مجلس العلماء التابع لتنفيذية المسلمين في بلجيكا قرر أن الطلبة والتلاميذ الذين بلغوا سن الصيام، ويجدون الصعوبة في أداء شعيرة الصيام بسبب ضغط الامتحانات، يمكن لهم الإفطار، وقضاء أيام الصيام لاحقا. ولعل من شأن هذه الخطوة الجريئة أن ترفع الكثير من اللبس حول مسألة صيام التلاميذ تحت ظروف التعليم والامتحانات الصعبة، سواء لدى الجانب البلجيكي الذي بدا حائرا أمام هذه المسألة التي لم يستطع استيعابها لتعارضها مع حقوق الطفل، أم لدى شريحة مهمة من المسلمين المعتدلين الذين لم يعرفوا كيفية التعامل مع هذه النازلة.