"أنت بن الماحي ستتولى مقاليد وزارة الصحة العمومية..."، هكذا خاطب الملك الراحل الحسن الثاني الدكتور عبد المجيد بن الماحي إثر استقباله بالقصر الملكي بالرباط، بمعية الدكتور بربيش، الذي عينه بدوره عميدا لكلية الطب والصيدلة بالرباط في شهر يونيو1969، فأديا القسم أمام العاهل المغربي.. وكان آنذاك عبد المجيد بن الماحي أصغر وزير في الحكومة، في سن لا يتجاوز 32 سنة. نجا الدكتور عبد المجيد بن الماحي من أحداث محاولتين انقلابيتين، ولعل تواجده بالقرب من الراحل الحسن الثاني في لحظتين هامتين لدليل على المكانة المهمة التي نجح بذكائه العلمي والاجتماعي في الوصول إليها، وأنجز مهامه كأصغر وزير للصحة، وفي رصيده ما يؤهله إلى دخول التاريخ من بابه الواسع. أشرف الدكتور عبد المجيد بن الماحي على مغربة الأطر الطبية العليا في كافة أنحاء الوطن، واستحسن هذه العملية جميع عمال الأقاليم وعمالات المملكة بعدما أصبح رؤساء المستشفيات ومسؤولو المصالح المركزية الصحية، وجلهم من الأطباء المغاربة، مكونين في هذا المجال.. كما سهر عبد المجيد بن الماحي على ختان 40 ألف طفل يوم 3 مارس 1971، وأعلن الحرب على الكوليرا القادمة من إسبانيا. ازداد عبد المجيد بن الماحي سنة 1937 بمدينة تازة، حيث تابع دراسته الابتدائية، قبل أن ينتقل إلى فاس لمواصلة المرحلة الثانوية بمؤسسة مولاي ادريس، ثم التحق بثانوية "فورو" بالرباط، وحصل فيها على الباكالوريا في العلوم التجريبية سنة 1954، ثم حصل الشهادة الجامعية في الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا سنة 1955 من كلية العلوم.. وطار بن الماحي إلى كلية الطب بمدينة استراسبورغ، فحصل على شهادة الدكتوراه في الطب من جامعة لوي باستور سنة 1963، وهي السنة نفسها التي عاد فيها إلى أرض الوطن ليشغل مهمة طبيب في وزارة الصحة. وزير الصحة الشاب الذي قاد الحرب ضد الكوليرا القادمة من إسبانيا في 30 يونيو1971 أخبر أحد موظفي الصحة عبد المجيد بن الماحي بوفاة خمسة أطفال بمصلحة طب الأطفال بمدينة الناظور، فعمد وزير الصحة الشاب إلى تنظيم رحلة عاجلة إلى هنالك بمعية فريق من الخبراء، اكتشفوا أن الأمر يتعلق بأعراض مرض الكوليرا القادمة من إسبانيا، فاشتغلت وزارة بن الماحي بتنسيق مع منظمة الصحة العالمية، وشراكة مع مؤسسة باستور في الدارالبيضاء، لتحضير العدد الكافي من "اللقاح"، وحرص على ضمان مجانيته وإجباريته..كما اتخذ جميع التدابير الضرورية لمحاربة هذا الداء الخطير والقضاء عليه بأقصى سرعة قبل أن ينتشر ويفتك بالمواطنين.. كما أعطيت التعليمات لإقفال الحدود مع الجارة إسبانيا لمدة أسبوع كامل. هكذا تزامن التحضير للاحتفال بالذكرى العاشرة لعيد الشباب بقصر الصخيرات بعودة أجواء الثقة والطمأنينة لنفوس المواطنين بعد علمهم بإعداد العدة للتصدي لوباء الكوليرا. شهادة بن الماحي بخصوص أحداث المحاولة الانقلابية بقصر الصخيرات في 10 يوليوز 1971 يروي الدكتور عبد المجيد بن الماحي في كتابه "مسار مناضل تجربة حياة" أن عدد المدعوين لاحتفال الذكرى العاشرة لعيد الشباب بقصر الصخيرات ناهز ألفي (2000) شخصية أجنبية ومغربية وأطر عسكرية ومدنية رفيعة، جاؤوا لتقديم التهاني لجلالة الملك. بعد بدء الحفل يقول بن لماحي: "سمعنا إطلاق الرصاص من جهة المدخل الرئيسي للقصر.. من هنالك دخلت شاحنات نزل منها جنود شباب فاتجهوا نحو المدعوين، فسادت حالة من الذعر بعدما شرعوا في إطلاق الرصاص على الجميع بشكل عشوائي، وطُلب منا أن نصطف ونخرج من باحة الاحتفال، حيث قتل وجرح الكثير؛ ثم طلب منا بعد ذلك أن نستلقي أرضا على بطوننا فوق العشب، وسمعنا حينها صوت الكولونيل عبابو يقول: "لن يصيبكم أي مكروه، رئيسنا خاننا ونحن هنا من أجل مصلحة الشعب" (قصد ب"رئيسنا" الجنرال المدبوح). ماذا وقع بالصخيرات؟ عندما دخلت الشاحنات العسكرية إلى فضاء الاحتفال، غادر جلالة الملك إلى غرفة خلفية بمعية بعض الأشخاص الذين كانوا يجالسونه، وقد رآه الجنرال المدبوح وأجرى حديثا معه، ولكنه أعلن أن الملك غادر قصر الصخيرات. وإثر نقاش حاد رمى العقيد الوفي للجنرال المدبوح الكولونيل عبابو وأصابه في كتفه، فيما قتل حرس هذا الأخير المدبوح، الذي كان يضع خطابا في جيبه، وهذا ما يفسر عبارة: "لقد خاننا رئيسنا". بصفته وزيرا ولالتزامه الطبي، بقي عبد المجيد بن الماحي في عين المكان، فأمره جلالة الملك بمواصلة المكوث حتى تتم عملية نقل القتلى إلى مستودع الأموات بمستشفى بن سينا والتقاط صور للضحايا. وفي يوم الأحد 11 يوليوز، يحكي عبد المجيد بن الماحي عن خطاب الملك الذي أعلن من خلاله أن الأمور عادت إلى نصابها، معبرا عن حزنه لفقدان بعض الأوفياء كالجنرال غرباوي والدكتور بنيعي، وأنه في الآن نفسه تلقى خبر احتفاظه بمنصبه كوزير للصحة العمومية لإتمام عملية تدخله ضد الكوليرا. حضر بن الماحي مراسيم تأبين السفير البلجيكي قبل أن يلتحق بمكان إعدام كل الضباط الكبار المتورطين في مجزرة الصخيرات، وهم الجنرال بوغرين وحمو وحبيبي، وآخرين.. وتمت عملية تنفيذ الإعدام تحت أوامر الجنرال ادريس بنعمر، بحضور العاهل المغربي والملك حسين الأردني. المعنيون بالأمر صاحوا قبيل إعدامهم: "عاش الملك" بصوت مرتفع، فرد الراحل الحسن الثاني: "إنهم وحتى أثناء إعدامهم يريدون استغلال عطفي لخيانتي". وفاء بن الماحي للراحل الحسن الثاني كان وراء إبعاده عن وزارة الصحة.. والسبب الجنرال أوفقير يروي عبد المجيد بن الماحي عن يوم في شهر يناير من سنة 1972، إذ اتصل به شخصان بشكل غير متوقع حوالي منتصف الليل، أحدهما صديقه، وهو صاحب "بيسترو العربة" آنذاك، يرافقه القائد العسكري لمنطقة فاس، الذي كان يرتدي جلبابا، فسلمه رسالة لتبليغها إلى السلطات العليا المغربية، بعد قوله بشكل واضح إنه يتم التحضير لانقلاب يتزعمه الجنرال أوفقير. حمل ابن تازة الرسالة وهو في حالة نفسية لا يحسد عليها، بإرادة يحركها أساسا الوفاء لعاهل البلاد والضمير والمسؤولية، باعتباره عضوا في الحكومة، واتصل بأحمد عصمان، مدير الديوان الملكي آنذاك، حوالي الساعة الثالثة صباحا، والذي استقبله بحفاوة، وتسلم منه الرسالة المذكورة. لكن بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة لأوفقير، سأل عبد المجيد بن الماحي الجنرال الدليمي عن مصير رسالة كان قد وضعها بالديوان الملكي، فأخبره بأن الحسن الثاني اطلع على فحواها، بل وأمر الجنرال أوفقير بقراءتها، لكن الأخير أقسم بالله واضعا يده على القرآن بأن مضمونها مجرد أكذوبة مفبركة من طرف أعدائه وأنه سيظل وفيا للعرش. هكذا استنتج بن الماحي أن الجنرال أوفقير كان يقف وراء استبعاده من وزارة الصحة، كما علق مهام الضابط الذي كتب الرسالة ووضعه تحت الحراسة المشددة. وبعد خطاب العرش يوم 3 مارس 1972 أعلنت حكومة جديدة كان على رأسها كريم العمراني، وأسندت وزارة الدفاع الوطني ورئاسة الأركان الجوية للجنرال أوفقير، ومن بين المغادرين للحكومة وزير الصحة الذي حل مكانه الدكتور التوهامي..وقبل مغادرته لمهامه الوزارية استقبله العاهل الكريم وكانت مقابلة ودية وصادقة فتوجه الملك إليه بالسؤال التالي: "ماذا يحدث مع الأطباء.. بن الماحي؟" فأجاب بأنه يمتلك ملفات الذين تآمروا عليه، ورد عليه الملك: "ستخبرني بكل هذا لاحقا وأقترح عليك التفكير لأنني أود أن تكون من بين أفراد الطاقم الطبي بالمصحة التابعة للقصر الملكي". شهادة بن الماحي بخصوص أحداث المحاولة الانقلابية في 16 غشت 1972 أرسل عبد المجيد بن الماحي إلى مدينة باريس ليلتحق بمصحة أرجونتاي التي كان يرأسها البروفيسور كارني، وهو من الجراحين الكبار، وكان مسؤولا عن جلب جميع كبار المختصين من المستشفيات الباريسية إلى مدينة الرباط كلما دعت الحاجة..من هنالك اتصل به الدكتور بنجاي ليخبره بأنه سيكون ضمن الطاقم الطبي الذي سيرافق صاحب الجلالة إلى الديار الفرنسية، وذلك ابتداء من 20 يوليوز. التحق بن الماحي بالوفد الرسمي المرافق للملك، لقضاء فترة راحة في القصر الملكي بمدينة "بيتز" قرب مطار رواسي، ومكثوا إلى 16 غشت 1972، ثم بدؤوا الاستعدادات للرجوع إلى المملكة..توجهوا إلى مطار "بورجيي" حوالي الساعة العاشرة والنصف، وأقلعت الطائرة في اتجاه بارسالون، حيث ثم استقبال صاحب الجلالة من طرف وزير الخارجية الإسباني في الساعة الثالثة، وأقلعت الطائرة متوجهة نحو مدينة الرباط، وعندما دخلت أجواء المغرب تفاجأت بقدوم ستة طائرات مقاتلة من نوع F5 متوجهة نحوها، قبل أن تتوزع ثلاثة عن اليمين وثلاثة على اليسار. وفي أول رد فعل لمحافظ القصر الملكي قال: "لم يكن هذا سفرا رسميا ولم يكن أمرا مطلوبا"، وأضاف: "ربما يريدون التعبير عن فرحتهم برجوع الملك بعد غيابه عدة أسابيع"، وفي اللحظة نفسها تبين عكس ذلك، إذ بدأت إحدى الطائرات تطلق نيرانها بكثافة من الجهة اليمنى فوق جناح البوينغ، ولم ينجح الطيار في عمليته العدوانية، إذ فقد توازنه واضطر إلى القفز باستعمال المقعد الأوتوماتيكي للنجاة..أخذ قائد الطائرة بزمام الأمور عندما كان يحلق على ارتفاع 700 قدم فوق مدينة تطوان تحت نيران الطائرات المقاتلة، وزاد في الارتفاع ليتجنبها. تسربت مادة الكيروزين وتقلصت سرعة الطائرة وبدء القائد الاستعداد للهبوط الاضطراري باتجاه المطار العسكري بسلا.. وربما كان الهدف هو تحويل اتجاه الطائرة إلى المطار العسكري بالقنيطرة، لكن القائد القباج الذي أصبح لاحقا مديرا عاما للطيران العسكري، تمكن من الهبوط في مطار سلا على جهة واحدة من عجلات الطائرة بينما كان النظام الإلكتروني معطلا بالكامل. وذكر عبد المجيد بالماحي بأن الوضع داخل الطائرة كان جحيما لمدة حوالي 20 دقيقة وانتاب الذعر جميع الركاب. بعد الهبوط الاضطراري بالمطار العسكري بسلا، اقتربت سيارة من نوع مرسيديس من الطائرة المنكوبة لاصطحاب صاحب الجلالة إلى المطار المدني بسلا، ليستقبل من طرف أعضاء الحكومة، الذين حضروا جميعهم باستثناء الجنرال أوفقير. وفي الساعة الحادية عشرة ليلا أخبر الدكتور عبد المجيد بن الماحي بان الجنرال أوفقير قد انتحر. هكذا روى عبد المجيد بن الماحي في كتابه "مسار مناضل تجربة حياة" الصادر عن دار النشر"المعاريف تجربته في محطات تستحق الاهتمام، فيما تطرق في فصول أخرى من المؤلف نفسه إلى حياته المهنية التي تؤرخ لمرحلة علمية لا تقل أهمية عن حياته السياسية، تحتاج إلى مزيد من تسليط الضوء من طرف الهيئات الطبية والعلمية المغربية. وهي دعوة إلى تنظيم حفل توقيع لكتب عبد المجيد بن الماحي بمسقط رأسه في تازة. *إعلامي