شخصيات خريجة من المؤسسة العسكرية تمرّدت على الحسن الثاني في عزّ سنوات الرصاص، حمّالة أوجه بعقليتها التي كانت مثار جدل دائم، لا تنكسر ولا تلين حتى الرمق الأخير، انتصاراً أو انكساراً، لا فرق، المهم حتى الرمق الأخير. تولّى أقربون كما أبعدُون تزيين وصولهم إلى السلطة، أتوا باسم الحل وخلطوا الأوراق لدى الكل؛ لكنهم من ضمن شخصيات كثيرة لم يَسعها القبول بالواقع لأنها لا تَرْعَوي عن المُنازلة ولا ترتوي من الدماء في المعركة، إلا أنها أدت في النهاية ثمن طموحها الزائد، ورغم ذلك استمرت تردداتها إلى حدود اليوم. نُبحر بالقراء الكِرام في هذه الفُسْحَة الرمضانية ضمن سلسلة بورتريهات حول شخصيات عسكرية انقلابية كادت أن تغيّر مجرى التاريخ. -4- رجلٌ من أهلِ العَزمِ ترسَّمَ طريقَه نحوَ التميّز منذُ نعومةِ أظافرِه..يُفضل دائماً أن يكون الرجل القوي، ولكن في الظل، لا يكاد المغاربة يعرفون عنه الكثير رغم أنه -واقعيا- مهندس الانقلاب العسكري الثاني سنة 1972.. وقع على طريق تضاربت فيها المصالح بين جنرالات الجيش آنذاك، كأنه نصب خيمته وسط صحراء تعبرها القوافل والخيول التي تخلف وراءها الغبار والفوضى. طوق النجاة من الصخيرات منذ انقلاب الصخيرات المُجهض، يبدو ليوتنان-كولونيل أمقران في وضع مربك وشائك، بعدما تلّقى رسائل التأييد والغزل الصريح من قبل الجنرال أوفقير. وتعود تفاصيل الموضوع إلى منتصف ليلة الحادي عشر من يوليوز 1971، حيث جرى استدعاؤه من قبل العلبة السوداء للحسن الثاني، الذي عُين وزيرا للدفاع، بحكم وجوده في القصر الملكي أثناء تنفيذ العقيد اعبابو محاولة الانقلاب. ويروي أحمد الوافي، رئيس العمليات في القاعدة العسكرية بالقنيطرة، وهو الضابط الذي وجد نفسه بصدد القيام بانقلاب عسكري على الملك الراحل، تفاصيل اللقاء الذي جمع أمقران بالجنرال النافذ، في مذكراته الشخصية المعنونة ب"عملية البراق إف 5"، قائلا: "شعرت بأنه متوتر كالمحموم، فقد بدا جليا أن هذا الاستدعاء يقلقه"، قبل أن يخاطبه بنبرة ملؤها الخوف: "لماذا طلب الجنرال رؤيتي؟ هل يعتقد أنني متورط في العملية الانقلابية؟"؛ لكن سرعان ما اختفت ملامح القلق التي كانت بادية على محياه، بعد عودته من الاستدعاء المفاجئ، إذ قال للضابط الوافي: "إن الجنرال حينما استقبلني كان يضع بندقية رشاشة فوق مكتبه، بعدما انتظرت استقباله طويلا، ليسألني بعدها عن مدى تورطي في تنفيذ الانقلاب، لكنني أجبت بالنفي، قبل أن يستفسر عن العلاقة التي تجمعني بالجنرال المذبوح، لأجيبه بأنه كان يزور القاعدة الجوية للعب الغولف، فضلا عن دعوته لمرافقته في أغلب الأحيان بحكم أنني ريفي أيضا"..ويمضي مسترسلا: "لكن لا أخفي عنكم "مون جنرال" القيمة المضافة التي تشكلها مرافقة أصحاب الرتب العسكرية الرفيعة؛ وهي العلاقة الوحيدة التي تجمعني به"، قبل أن يواجه الجنرال أوفقير بلهجة حازمة شكلت طوق نجاته في الحقيقة: "اعلموا سيدي الجنرال، إن كنت أريد تنفيذ عملية انقلاب عسكري لقمت بها شخصيا، لأنني أتوفر على طائرات مقاتلة سريعة وسلاح متطور للغاية وأمهر الطيّارين". فوجئ أوفقير بما صرّح به ليوتنان-كولونيل أمقران، وفق ما يرويه الضابط الوافي، ليظل صامتا لوهلة، ثم نهض لمعانقته بشكل فجائي، متوجها إليه بالقول: "اطمئن يا أمقران..فقط بعض الطيارين يحسدونك على منصبك، إذ يريدون استغلال ما حدث لتصفية الحسابات معك، لكنني متيّقن أنك ضابط مخلص للوطن، ولذلك سأعينك مؤقتا مسؤولا عن قواتنا الجوية"؛ بل إنه اتصل بالملك بنفسه لإبلاغه بالتعيين أمامه. أوفقير يتفرّغ للقنيطرة من هو العقيد أمقران أحد مهندسي انقلاب 1972؟.. إنه ضابط ريفي، من مواليد سنة 1938، متزوج من أستاذة ألمانية التقى بها في عاصمة الأنوار، كانت مسؤولة عن المكتبة في القاعدة الأمريكيةبالقنيطرة، غيّرت اسمها إلى "مليكة" بعد إعلان إسلامها، ليُنجب منها ابنين هما رشيد وياسمينة.. كان رياضياً ولاعب كرة ممتاز، نزيها وكامل الاستقامة، لم يستغل منصبه أبدا من أجل الظفر بامتياز، بل على العكس كان مضيافا وصدوقا واجتماعياً، لكنه شخص حذر ويقظ للغاية، يورد الضابط أحمد الوافي. سهلت القاعدة الجوية للقنيطرة مأمورية تمتين علاقات أمقران بالعديد من الشخصيات العسكرية والمدنية النافذة، بفضل الإمكانات التي كانت توفرها؛ من قاعات اللعب والاستمتاع، لكنه احتفظ رغم ذلك بصداقته الوثيقة برفاقه القدامى في منطقة الريف، على رأسهم كوموندو اكويرة، إذ تلقّيا معا التكوين نفسه في مراكش، لينتقلا بعدها إلى مدرسة "تور" الفرنسية المخصصة لضباط الصف، ثم مدرسة "توليدو" بإسبانيا، قبل أن يتخرّجا ضابطين من الأكاديمية الأمريكية. تبعا لأحداث الصخيرات، فوّض الحسن الثاني كامل صلاحياته العسكرية لحساب الجنرال أوفقير، الذي بدا مُعجبا بالكلام الذي تفوّه به أمقران، على خلفية الاستنطاق الذي تعرض له، لتخطر على باله فكرة تنفيذ المحاولة الانقلابية الثانية، بسبب تأثره الشديد بعمليات إعدام رفاقه في ثكنة أهرمومو دون الخضوع لسلطة القانون، إلى جانب عدم إيمانه كلّيا برغبة العاهل في إصلاح شؤون البلد. هكذا إذن، طلب الجنرال أوفقير، الذي أصبح وزيرا للدفاع والداخلية، من ليوتنان-كولونيل أمقران حضور مراسيم تعيينه خلفا لمحمد باحنيني، الذي كان يرأس قبلها مؤسسة "أم الوزارات"، قبل أن يقوم بعد أسابيع قليلة من محاولة الانقلاب الأولى بزيارة رسمية إلى القاعدة الجوية بمدينة القنيطرة، تحديدا يوم 11 غشت 1971، حيث استمع لأهم المشاكل التي تعترض عمل القاعدة، واعدا بالاستجابة لها في أقرب فرصة. نتيجة ذلك، توالت زيارات الجنرال أوفقير للقاعدة الجوية بطريقة غير رسمية، كما كان يلتقي بأمقران مرات عديدة في منزله، حسب ما ذكرته مذكرات "عملية البراق إف 5". وقد استمر الحضور المُكثف لأقوى رجل في المملكة آنذاك، إذ عرض كل من ليوتنان-كولونيل أمقران برفقة كوموندو اكويرة، خلال مارس 1972، فيلما إشهاريا قدمته مصالح السفارة الأمريكيةبالرباط، مخصص للدعاية لطراز جديد من الطائرات الحربية هي "F5"، لتثير إعجاب أوفقير الذي أشرف على صفقة استبدال أسطول طائرات "الميغ الروسية" بها. السرطان يتربّص بأمقران كان أمقران يعاني من وعكات صحية مستمرة، أثارت قلق أوفقير بين الفينة والأخرى، إذ نقل إلى فرنسا في يونيو من 1971، ما جعل الكوموندو اكويرة يتكلف بجميع المهام في غضون غيابه، لكنه بقي على تواصل دائم معه عبر الهاتف. "طوال مرض ليوتنان-كولونيل لم يأتي الجنرال أوفقير لزياتنا أبدا في القاعدة الجوية"، يقول الضابط الوافي، المدير السابق للعتاد التقني بالقاعدة وضابط الأمن بها. ولم يسلم الوافي أيضا، بحكم المنصب الذي شغله، من بعض الزيارات المفاجئة لأوفقير، إذ يتحدث عن إحدى الزيارات التي قام بها الجنرال لمكتبه في القاعدة، حيث طلب منه ذات يوم تقديم عرض وجيز عن الطيران العسكري المغربي، منذ تأسيسه إلى حدود تلك اللحظة التي كان يتحدث فيها معه، وذلك بحضور عامل القنيطرة آنذاك، حسني بنسليمان، وبعض الشخصيات العسكرية الرفيعة. لكن فجأة سقطت صورة الملك الحسن الثاني، فبدا الجميع متوترا، إلا الجنرال بقي جامدا كأن شيئا لم يحدث، طالبا منه مواصلة العرض. وبالعودة إلى تفاصيل مرض أمقران، فقد عولج في نهاية دجنبر من 1971 بالمستشفى العسكري بالرباط، لكن تفاقم حالته الصحية استدعى من أوفقير نقله بشكل مستعجل إلى فرنسا على متن طائرة القصر "Mystère 20"، قبل أن يعود الكولونيل للقاعدة الجوية في فبراير من 1972، ليشرف على زيارة رسمية ثانية قام بها الجنرال أوفقير في مارس من السنة ذاتها، أسفرت عن تحسين أجور العاملين بها. في بداية أبريل، تعرض أمقران لوعكة صحية جديدة استدعت نقله إلى المستشفى المدني ابن سينا، حيث زاره الضابط الوافي في غرفته، التي وجه فيها بعض الضباط، ليخبره ليوتنان-كولونيل بعد دردشة صغيرة بأن الجنرال أوفقير اطمأن على صحته قبل عشية ذلك اليوم، لكنه طلب منه الاعتناء بأسرته الصغيرة في حالة وفاته، قبل أن يجيبه الجنرال بلهجة طغى عليها الحنين: "اعلم بني إذا ما مت، فسوف نموت معا"، لكن ساءت حالته الصحية مجددا، إذ نقل إلى فرنسا مرة أخرى، فإذا بالخبر الصادم يتسرّب إليه: "أنت مصاب بالسرطان"، ما جعله يوافق على تنفيذ الانقلاب لأنه لن يخسر شيئا. عملية "البراق" بعد فترة وجيزة من عودته إلى المغرب، تقرر تعيين أمقران مساعد قائد القوات الجوية، حسن اليوسي، في حين أسندت مهمة تدبير شؤون القاعدة الجوية بالقنيطرة إلى اكويرة، لتبدأ بعدها تمفصلات الإعداد لمحاولة الانقلاب التي أطلق عليها تسمية "البراق"؛ فكانت البداية من 26 يوليوز من 1972، حيث كان يرتقب سفر الملك إلى فرنسا، ما دفع أمقران إلى تسليح أربع طائرات بالقنابل والصواريخ والرشاشات، لكن في آخر لحظة قرر الملك أن يسلك طريقا آخر، يبتدئ من الرباط إلى طنجة على متن القطار، ثم استعمال الباخرة صوب إسبانيا، وأخيرا الطائرة في اتجاه فرنسا. تقرر إذن تنفيذ العملية عشية 16 غشت، إذ انطلقت من القاعدة الجوية بالقنطيرة ست طائرات حربية بدون إشعار، ثلاث مسلحة يرأسها كوموندو اكويرة، إلى جانب كل من الطيّار عبد القادر زياد الذي كان رفيق اكويرة في القاعدة الجوية بمكناس، ثم الطيّار حميد بوخالف الذي عرف بأفكاره الثورية؛ وهو أيضا صديق حميم للكوموندو اكويرة، إلى جانب ثلاث طائرات غير مسلحة تشكلت من ليوتنان دحو والسرجان شاف بن بوبكر، ثم ليوتنان الدكالي الذي كان يرافق القبطان صالح حشاد في الطائرة نفسها. بمجرد دخول الطائرة الملكية "البوينغ" أجواء تطوان اعترضتها طائرات الضباط، إذ حاول اكويرة أن يطلق عليها الرصاص، لكن عطبا تقنيا حال دون ذلك، ليتكلف الملازمان بوخالف وزياد بالمهمة، إلا أن الطائرة استطاعت التحليق رغم ذلك، ليحاول كوموندو اكويرة تنفيذ عملية انتحارية قاصدا "البوينغ"؛ لكن الملازمين أقنعاه بالعدول عن العملية، بدعوى أنهما يتوفران على المزيد من الرصاص، لكنه ارتطم قليلا بالطائرة، ليفقد سقف مقاتلته، ما أجبره على النزول بالمظلة في ضواحي سوق الأربعاء، ليتم تسليمه بعد ساعات إلى الملك. بعد مطاردة دامت نصف ساعة، نزلت الطائرة الملكية إلى مطار سلا-الرباط، لكن الملازمين عادا إلى القاعدة للتزود بالذخيرة الحية، فقاما بإمطار الموكب الملكي بوابل من الرصاص، بينما لم يكن الحسن الثاني موجودا به. إلى ذلك عادت الطائرتان إلى القاعدة من جديد، ليتم التوجه بعدها صوب القصر الملكي بالرباط، حيث أطلق الطيّاران الرصاص في كل مكان، في محاولة منهما لإلقاء تحية الوداع الأخيرة، لاسيما بعد محاصرة القاعدة الجوية في عشية اليوم. لجأ أمقران بطائرته إلى جبل طارق، الذي لم يمض به سوى ليلة واحدة بعد أن سلمته السلطات البريطانية للمغرب، رافضة طلب اللجوء بسبب تهديد الحسن الثاني بقطع التموين، لتبدأ بعدها سلسلة المحاكمات التي حكمت على أمقران واكويرة بالإعدام بعد اعترافهما بما نسب إليهما.