هما رحلتان أو قوسان انغلقا علينا ذات صيف و لم ينفتحا إلا بعد مرور ثمانية عشر عاما. قوسان عانينا بينهما أفظع ما يمكن للمرء أن يتصوره. فترة عشنا أثناءها ظروفا تتحدى كل تصور و معاناة تفوق كل خيال. الرحلة الأولى قادتنا إلى معتقل تازمامارت الرهيب في ليلة صيفية قائظة هي ليلة سابع غشت 1973, و نحن شباب في كامل عنفواننا و قوتنا.تم اقتيادنا خلالها من السجن المركزي بالقنيطرة, الذي كنا ضيوفه بعد أن تمت محاكمتنا و صدرت ضدنا عقوبات سجنية متفاوتة (أما الذين حكموا بالإعدام فقد نفذ في حقهم يوم 13 يناير 1973 في حقل الرماية العسكري بمهدية و لم يعودوا بيننا) بسبب تورط بعضنا في إحدى المحاولتين الانقلابيتين ضد النظام الملكي للحسن الثاني. أما الرحلة الثانية فقد تمت في 15 سبتمبر 1991 , وهي التي أعادتنا إلى دنيا البشر قادمين ,كما الأشباح, من معتقل تازمامارت و نحن أشلاء بشرية تاركين خلفنا سنوات شبابنا و جثامين ثلاثين من رفاقنا الشهداء الذين سقطوا تباعا في ظروف لا أفظع منها و لا أقسى. في الحلقات التالية سأشاطر القارئ الكريم جزءا من تفاصيل حياتنا و معاناتنا طيلة هذه الثمانية عشر عاما في معتقل مظلم و ظالم جدير بمعتقلات القرون الغابرة. كما سأتحدث عن الظروف التي قادتنا ? بعضنا بإرادته و البعض الآخر بتضافر ظروف و مقادير لا يد له فيها ? إلى هذا المصير, أي عن المحاولتين الانقلابيتين ل 10 يوليوز 1971 و 16 غشت 1972. في صبيحة 16 غشت تناولت طعام الفطور مع زوجتي بمنزلنا بالقنيطرة ثم توجهت إلى مقر هيأة الأركان الجوية بالرباط لحضور الاجتماع المقرر على الساعة الثامنة . لم يغب عن هذا الاجتماع العام سوى خلفي النقيب أفيلال, الذي أخذ عطلته و الكومندان كويرة, الذي بقي ?حسب ما قاله أمقران ? لمتابعة عملية خفر الطائرة الملكية... ترأس هذا الاجتماع العقيد حسن اليوسي, قائد القوات الملكية الجوية.لم يكن هذا الاجتماع يختلف عن اجتماعاتنا العادية التي تنعقد مرة كل ثلاثة شهور, إذ كان موضوعه هو سير العمل بالقواعد الجوية الخمس للمملكة (سلا,القنيطرة,مكناس, مراكش, و الدارالبيضاء) و تضمن جدول الأعمال مشكل نقص قطع غيار الطائرات, و كذا موضوع التنقيلات الجارية آنذاك. و قد بدأ الاجتماع بهذه النقطة الأخيرة, حيث أكد العقيد اليوسي على أن يلتحق جميع الضباط المنقلين, و أنا ضمنهم, بمواقعهم الجديدة في أسرع وقت على استعداد لتنفيذ أوامر رؤسائهم الجدد.و قد أصدر العقيد تعليماته هاته بطريقة جافة ساهمت في توتير الأجواء التي ظلت ملبدة طيلة الاجتماع. و أثناء الاجتماع لاحظنا تحركات الليوتنان كولونيل أمقران غير المعتادة في مثل هذه الاجتماعات, إذ كان يدعى عدة مرات لاستقبال مكالمة هاتفية في القاعة المجاورة.و هكذا و لأربع مرات متتالية اقتحم علينا العقيد بوبجة من هيأة أركان القوات البرية قاعة الاجتماع ليطلب من أمقران الانتقال لمهاتفة الجنرال أوفقير. و قد كانت هذه الاتصالات,كما علمنا فيما بعد, لوضع الترتيبات الأخيرة للعملية التي ستجري زوال نفس اليوم... و في ختام الاجتماع, أبلغنا العقيد اليوسي,الذي غادرنا مرة واحدة أثناء الاجتماع للتحدث مع الجنرال الذي طلبه,أن الطائرة الملكية منتظرة الوصول في زوال اليوم, قادمة من برشلونة و أن القاعدة الجوية للقنيطرة كلفت بتنظيم خفر جوي للبوينغ الملكية تقوم به طائرات «إف 5», و هو ما سيقوم بتنظيمه الليوتنان كولونيل أمقران,الذي لم يعد حاضرا بيننا. تمت تلاوة محضر الاجتماع من طرف المقرر ثم غادرنا القاعة. عند خروجنا من الاجتماع,عرض علي النقيب الحمزاوي, قائد أسطول الطائرات العمودية, أن أتناول معه وجبة الغذاء, في القاعدة الجوية لسلا التي يقيم بها. و بما أني لم أره منذ مدة طويلة و لم أكن مرتبطا بأي التزام فقد قبلت دعوته. و أخذ كل واحد منا سيارته حيث تبعته إلى سلا. و عند مدخل القاعدة ترجل من سيارته و جاءني طالبا مني التوجه إلى نادي الضباط في انتظار أن يمر ببيته و يخبر زوجته. في الوقت الذي كنت متوجها للنادي, لمحت زوجة أحد الضباط من معارفي, فتوقفت لتحيتها. تحدثنا قليلا عن أسرتينا, و من الغريب أني فور مغادرتها وعودتي لسيارتي ,انتابني شعور غريب و لامفهوم جعلني أتراجع عن دعوة النقيب الحمزاوي لي للغذاء و أقرر العودة إلى القاعدة الجوية للقنيطرة. عدت أدراجي و غادرت القاعدة الجوية سلا. و إلى حدود اليوم, فإني حين أتذكر تلك اللحظات, لا أجد أي تفسير لسلوكي هذا, و لا أستطيع أن أقول سوى أن قوة خارجة عن إرادتي هي التي تحكمت في و شرعت في توجيهي دون رغبة مني, قوة لا أستطيع مقاومتها. و دون أن أعرف لماذا,شعرت بضرورة العودة حالا إلى قاعدة القنيطرة. و هذا مافعلته دون أن أطرح على نفسي أي سؤال بل دون أن أعتذر من النقيب الحمزاوي و لو بترك رسالة في النادي كي لا ينتظرني. و فور وصولي إلى قاعدة القنيطرة , توجهت توا إلى نادي الضباط لملاقاة زملائي و تناول وجبة الغذاء. لكن نظرا للوقت المتأخر الذي وصلت فيه فقد وجدتهم قد أنهوا غذاءهم و يتأهبون لأخذ قهوة ما بعد الغذاء. انضممت إلى المائدة التي كان يوجد بهاالطبيب الفرنسي الملحق بالقاعدة و الليوتنان الحمزاوي و الليوتنان القرشي و مدير النادي الذين أبدوا جميعا استغرابهم لعدم تواجدي بمكناس. و ما أن أخذت مقعدي إلى جانبهم حتى انهالت علي أسئلتهم بفضول حول انطباعاتي عن القاعدة الجوية لمكناس. و بما أني لم أقل عنها إلا خيرا و دعوتهم لزيارتي بها ,قال لي الليوتنان الحمزاوي ضاحكا: -إذن سيدي النقيب,أنا أيضا سأطلب نقلي إلى مكناس و سألتحق بك هناك... استقصيت بعد ذلك عن باقي الزملاء الضباط, فأخبروني أنهم جميعا تناولوا وجبة الغذاء أبكر من المعتاد كي يتمكنوا من تحضير خفر الطائرة الملكية و أنهم سيكونون الآن بمنطقة العمليات لإنهاء آخر الترتيبات. و بعد الغذاء أخذت قهوتي معهم في قاعة الاستقبال بنادي الضباط ,بينما كان آخرون يعدون للعب الورق. غادرتهم متوجها إلى منطقة العمليات لملاقاة الأدجودان شاف المهدي, الذي كان ينوي شراء ثلاجتي التي لم كنت راغبا في التخلي عنها و عدم نقلها معي إلى مكناس. و فعلا التقيته و اتفقنا على الثمن و على اليوم الذي سيأتي فيه لأخذ الثلاجة. كنت عائدا إلى المنطقة السكنية بالقاعدة للاستراحة ببيتي حين التقيت الليوتنان كولونيل أمقران و الكومندان كويرة على متن سيارة تابعة للقاعدة , و ما أن رأيانا حتى توقفا بالسيارة التي ترجل منها كويرة و جاء يحييني بحرارة مستغربا تواجدي بالقنيطرة: - ماذا حدث يا الوافي, هل صعب عليك فراقنا؟ و بطرحه هذا السؤال شعرت بنظراته تفتش نظراتي كما لو أنه يبحث عن السبب العميق لتواجدي, فأخبرتهما بما حصل, ثم درت على الجانب الآخر للسيارة لتحية الليوتنان كولونيل أمقران الذي مكث في مقعده بالسيارة بينما عاد كويرة إلى مقعد القيادة. قال لي أمقران حينها : «من حسن الصدف أنك بيننا, فسنقيم هذا المساء حفل توديع للماجور ويستفال» ضابط الاتصال الأمريكي بالقاعدة, و رغم أني قلت له أنه ينبغي أن أعود لمكناس في اليوم نفسه إلا أنه ألح على أن أحضر فقبلت دعوته و أنا آمل أن أودع رفاقي قبل رحيلي إلى مكناس. و ما أن قبلت حتى دعاني أمقران ? إن لم يكن لدي شاغل- أن أرافقهما إلى برج المراقبة حيث سيشرف على عملية خفر الطائرة الملكية. فقبلت و في نيتي أن أطرح عليه بضع أسئلة حول القاعدة الجوية لمكناس. حين وصلنا إلى برج المراقبة, كان هناك مراقبان جويان هما الأدجودان شاف لامين (توفي في تازمامارت) و السرجان شاف الدغوغي (أحد قدماء تازمامارت) كما كان هناك السرجان أبونسي (توفي في تازمامارت) و النقيب العربي الذي كلفه أمقران بإجراء الحسابات التقديرية لخط طيران الإف 5 التي ستستقبل الطائرة الملكية. جلس الكومندان كويرة في مقعد الراديو و دخل في اتصال ببرج مراقبة مطار برشلونة للتعرف على مجريات الأمور بالنسبة للبوينغ الملكي, فأخبروه أن الطائرة تستعد للإقلاع. حياني النقيب العربي بحرارة, مخبرا إياي أنه علم في اليوم نفسه نبأ انتقاله لقاعدة مكناس أيضا و بالتالي سنواصل عملنا معا في القاعدة الجديدة, و قد فرحت بذلك مثله تماما.. ما أن أتم الكومندان كويرة مكالمته مع برشلونة حتى نزل مسرعا, دون أن يقول لنا شيئا. أخذ الليوتنان كولونيل أمقران قبعة بسماعتين و ميكروفون و وضعهما على رأسه بينما أخذت أنا منظارا مكبرا لتأمل المدرج و النواحي المحيطة به, فلاحظت غياب طائرات إف 5 الأربع التي أوصيت النقيب أفيلال بأن تبقى مسلحة و رابضة على جانب المدرج. أبديت استغرابي لأمقران: - سيدي العقيد, أين ذهبت الطائرات الأربع المسلحة ؟ قفز أمقران لدى سؤالي و دفعني متناولا المنظار موجها نظره في اتجاه المكان الذي كانت تربض فيه الطائرات. لاحظت وجهه و قد شحب ثم توتر. وضع المكبرتين صارخا: -لامين, اتصل حالا بكويرة و شعرت أنه أصبح متوترا, إذ ما أن مددت يدي لأخذ المنظار مرة أخرى حتى أبعده عني بعصبية تعني أنه لا يرغب في أن أواصل مراقبة المدرج. هذه الحركة غير المعتادة منه أيقظت في داخلي مشاعر غامضة. و أحسست بأن أمرا ما يتم نسجه في الخفاء فطفقت أراقب حركات و سكنات رئيسي. وصل الكومندان كويرة أخيرا مقطوع الأنفاس مرتديا بذلة الطيران, فسأله أمقران بالانجليزية : -أين هي الطائرات الأربع؟ -لا أدري... -من أمر بسحبها؟ -لست على علم بأي شيء خلع الليوتنان كولونيل قبعة الاتصال و جذب الكومندان كويرة من ذراعه و سحبه إلى خارج القاعة و سمعتهما يتحدثان بقوة باللغة الاسبانية دون أن أتمكن من فهم ما يقولان. و لدى عودته إلى القاعة, كان الليوتنان كولونيل أمقران بادي الغضب حين قال لي: -ها هو يمنحني هدية جميلة, إنها صفعة قوية بالنسبة لي. لم أشأ أن أسأله حينها عن أي شيء, فقد كان غضبه رادعا لي عن طرح أي سؤال...لكنه أكد لدي أن أمرا غير عادي يجري الإعداد له. و رغم عدم توفري على المنظار المكبر إلا أني لاحظت بالعين المجردة أن شاحنة تابعة لورش الأسلحة لنقل الذخيرة من المخزن إلى المدرج تقف بين الطائرات و هو الأمر الذي تمنعه التدابير الأمنية. كما لاحظت هرجا و مرجا حول الطائرات ففهمت أنه يتم تسليح طائرات الإف 5 على عجل في هذه اللحظة بالذات لم يعد لدي أي شك ممكن : فالإعداد على قدم وساق لعملية عسكرية لا علاقة لها بخفر عادي للطائرة الملكية, فالعادة أن تقوم بذلك طائرات غير مسلحة تماما مثل الدراجات النارية المرافقة للموكب الملكي. تساءلت حينها عن المهمة الغامضة لهذه الطائرات. ترى هل هناك تهديد جزائري أو ليبي للطائرة الملكية؟ مر كل شيء بسرعة سلبتني قدرتي على التفكير و التمحيص. استعاد الليوتنان كولونيل أمقران قبعة الاتصال واضعا إياها على رأسه, لكنه لم يستعد هدوءه. و قد فوجئ المراقبان الجويان أيضا بتصرفات رئيسنا العصبية و طفقا يرمقانه باستغراب. و ران جو من التوتر داخل برج المراقبة. التقى ناظري بعيني النقيب العربي الذي بدا هو أيضا ممتعضا من سلوك الليوتنان كولونيل. ثم فجأة تسربت إلى ذهني فكرة صاعقة, ماذا لو كان كل هذا مقدمة لعمل انقلابي؟ محاولة جديدة بموافقة و مشاركة الليوتنان كولونيل؟ و بدأ الهلع يتسرب جديا إلى نفسي أنا الذي لم أعد أنتمي لقاعدة القنيطرة و مع ذلك أتواجد بها . رغبت في الانسحاب بأسرع وقت من هذه المصيدة التي بدأت تنغلق حولي. اقتربت من الليوتنان كولونيل و أمسكته من ذراعه معتذرا بكون النقيب بنسعيد سيأتي لاصطحابي و علي أن أعتذر له عن مرافقته إلى مكناس...وفورا و دون أن يجيبني أخذ سماعة التلفون و اتصل بضابط الحراسة الليوتنان شمسي (أول ضحايا تازمامارت) قائلا: -شمسي, إذا جاء النقيب بنسعيد فقل له أن الوافي قد ذهب إلى مكناس بوسائله الخاصة و لا فائدة من انتظاره. و نفس الشئ بالنسبة للعقيد ليوسي, إذا حضر امنعه من الدخول, و منذ الآن «سيلانس راديو» لا تجب على أي اتصال من أي كان, مفهوم؟ آنذاك أحسست فجأة برشاش ماء بارد يطوقني من أعلى رأسي إلى أخمص قدمي. لقد فات الأوان. تيقنت الآن أني وسط المصيدة و أصبحت بقوة الأشياء متفرجا عاجزا على حدث هائل يجري أمام ناظري. انسحبت شاحنة التسليح و بدت طائرات «إف 5 أ» و «إف 5ب» جاهزة للإقلاع. و بعد أن ألقى نظرة على الساعة الحائطية أمر الليوتنان كولونيل أمقران بتحركها و هو الأمر الذي وجهه الأدجودان شاف لامين إلى ربابنة الطائرات فتحركت فورا الواحدة تلو الأخرى. ثلاث»إف5أ» مسلحة يقودها الكومندان كويرة و الليوتنان زياد و الليوتنان بوخاليف, و إثنتان من نفس الطراز غير مسلحتين يقودهما الليوتنان دحو و السرجان شاف بن بوبكر و أخيرا طائرة «إف 5 ب» ذات مقعدين على متنها كل من النقيب حشاد و الليوتنان الدكالي. كانت هذه التشكيلة تنفذ عملية إسمها «براق» أقلعت الطائرات الست و منذ تلك اللحظة لم يعد الليوتنان كولونيل يعيرنا أي اهتمام , فقد كان متوترا مركزا على الاتصالات الجارية دون غيرها... اختفت التشكيلة عن أعيننا في الوقت الذي رن فيه الهاتف.كان الخط المباشر الرابط بين برج مراقبة قاعدة سلا و برج مراقبتنا, و هو خط وضعه حديثا الليوتنان كولونيل . و بما أن الهاتف كان بالقرب مني فقد أخذت السماعة مجيبا: -النقيب الوافي في الاستماع, من معي؟ -هذا الجنرال.. -احتراماتي سيدي الجنرال -أعطني أمقران -لا تقطعوا سيدي الجنرال , ها هو معكم و مددت السماعة إلى الليوتنان كولونيل الذي سمعته يقول له: -نعم , لقد أقلعت فورا....سيصلون الهدف قريبا...ابقوا على اتصال...مفهوم...نعم سيدي الجنرال و بعد أن وضع السماعة, لم يعلق أمقران بل استعاد قبعة الاتصال و بعد لحظات التفت أمقران إلى النقيب العربي قائلا: -قل لسائقي أن يأتيني بالعلبة الصغيرة الموجودة بالسيارة. هو يعرف بالأمر و حاول أن تأتيني بمذياع ترانزيستور, فأنا بحاجة إليه. بعد فترة جاء السائق و وضع الشئ الملفوف في جريدة فوق أحد المقاعد عند المدخل ثم انسحب دون كلمة. عاد النقيب العربي بدوره و سلم الترانزيستور إلى أمقران الذي شغله على الفور فانسابت منه موسيقى لم تفلح في تبديد التوتر السائد. و لم أفهم جدوى إحضار المذياع إلا فيما بعد حينما أبلغني الليوتنان كولونيل أمقران, و نحن في السجن المركزي, أنه كان ينتظر بيانا عن «القوات الثورية» تم تسجيله بشكل قبلي من المنتظر إذاعته من الرباط ليعلن نجاح العملية. مسدس في الصحيفة بعد فترة بدأنا نسمع اتصالات الربابنة يعلنون أنهم لم يروا بعد الطائرة الملكية و فجأة سمعنا: - تاليهو, تاليهو... كان صوت الليوتنان دحو الذي اكتشف البوينغ الملكي في سماء تطوان ثم سمعنا صوت قائد البوينغ الكومندان القباج يسأل: - مقاتلات «إف 5» عرفوا بأنفسكم و لما لم يحصل على أي جواب قال مجددا: - - ابتعدوا, ابتعدوا إنكم تطيرون قريبا جدا من طائرتنا... إن جلالة الملك لم يطلب أي خفر ...أكرر, ابتعدوا ابتعدوا ثم بعد هنيهة: - ماذا يفعلون, إنهم يستعدون لإطلاق النار ...إنهم يطلقون النار علينا أمام هذا الحدث أصيب المراقبان الجويان و النقيب العربي و أنا نفسي بالهلع, و توجهت أنظارنا جميعا نحو الليوتنان كولونيل أمقران الذي كان متوترا يفرك كفيه بعضهما ببعض - لقد أصبنا... و سمعنا صوتا في الخلفية يقول: - قل لهم أن يوقفوا النار, قل لهم أن الملك أصيب و أنت أيضا أجاب القباج: - لا, لا أكاذيب, إنهم يسمعوننا... و في برج المراقبة, كنا نحبس أنفاسنا و نحن نتابع صوت قائد الطائرة الملكية الذي كان ينقل لنا التطورات ثانية بثانية. - أصيب محرك ثان, أوقف المحرك و شغل نظام إطفاء النار...لم يتبق لنا سوى محرك واحد...آمل ألا تكون لهم ذخيرة... و في اللحظة الموالية: - إننا نستعد للنزول الاضطراري...»مايدي, مايدي» إننا نفقد العلو التفت الأدجودان شاف لامين إلى الليوتنان كولونيل أمقران قائلا: - سيدي العقيد,ينبغي إعلان تدابير الانقاذ الاستعجالية لإنقاذ الطائرة الملكية. ينبغي إبلاغ رجال المطافئ فورا و الاتصال بقاعدة سلا.. صرخ أمقران الغاضب في وجهه: - أصمت, ليس هذا شغلك و أمام إلحاح المراقبين من أجل التحرك, شرع يصرخ مثل مجنون: - أسكتوا.لا أريد سماع شيء. أصمتوا, أنا قائدكم هل تسمعون؟ ليس لكم ما تقولون لي. ركن المراقبان إلى الصمت بينما نظر إلى النقيب العربي و في نظرته قرأت نفس ما أشعر به: «لقد خدعنا...خدعنا على طول الخط» ثم كسر صوت الليوتنان زياد الصمت السائد حين سمعناه يقول: - فشل الاقتراب من البوينغ.طائرة الكومندان (كويرة) خارج السيطرة, نجاح الخروج بالمظلة...منطقه سوق الأربعاء.. حينها نط الليوتنان كولونيل أمقران على زر الراديو قاطعا القناة الخارجية فلم نعد نسمع شيئا بينما ظل هو محافظا على الاتصال. لم يعد لنا شك بأن الطائرة الملكية قد سقطت. و بدت الدقائق ثقيلة بطيئة المرور. و فجأة صاح الأدجودان شاف لامين و هو يشير بأصبعه إلى نقطة في السماء: -أنظروا نظرنا في اتجاه أصبعه و رأينا الطائرة الملكية تحلق على ارتفاع منخفض, و وراءها خيط كثيف من الدخان الأسود. كانت قريبة منا لدرجة أننا اعتقدنا أنها ستقوم بهبوط اضطراري في قاعدتنا. و حيث أننا لم نعد نسمع الكومندان القباج فلم نكن نعرف نواياه. كان أمقران وحده يتابع ما يجري من خلال الراديو بيد أننا لم نر أي رد فعل على وجهه. و مثل طائر عملاق جريح مرت البوينغ الملكية أمامنا و رأيناها تواصل تحليقها في اتجاه سلا ثم اختفت عن أنظارنا. حينها اتصل الليوتنان كولونيل أمقران بمصلحة العمليات و أمر السرجان شاف موهاج بالإقلاع للقيام بمهمة استكشافية فوق مطار الرباطسلا, طالبا منه التحليق فوق المدرجات و إعطائه معلومات عن الطائرة الملكية. في هذا الوقت عاد طيارو عملية «براق» إلى القاعدة و طلبوا الإذن بالهبوط. و واحدة وراء الأخرى نزلت الطائرات لا تنقص سوى طائرة كويرة. بدا أمقران و قد تجاوزته الأحداث و طفق يرتجل ردود الفعل دون تخطيط, ثم أخذ العلبة التي جاءه بها سائقه قبل قليل, فأزال ورق الصحيفة و رأينا مسدسا بغمده.أخرج السلاح و احتفظ به في يده. كنت في حالة توتر قصوى, مع فكرة واحدة تسود ذهني هي الترصد للحظة التي أتمكن فيها من التسلل بعيدا عن هذا المكان دون أن أفقد حياتي لأني لم أعد أشك في أن رئيسنا لن يتردد في إطلاق النار على أي واحد منا إذا ما عصى أوامره. سمعنا الليوتنان كولونيل أمقران يصدر أوامره إلى كل من بوخالف و زياد لإعادة تسليح طائرتيهما و القيام بمهمة قصف ثانية. و فجأة رأيناه ينزع قبعة الاتصال بغضب عن رأسه و يرميها على الطاولة. كان لا يزال يحمل مسدسه مما دفعني إلى الاعتقاد بأنه قد يقدم على الانتحار, لكنه التفت إلينا و قال بصوت قوي: - مهما حصل الآن, لا تفعلوا أي شيء, مفهوم؟ و أنت أيضا يا الوافي لا تفعل شيئا.نحن معنيون جميعا. كل شئ سيتغير الآن...لقد أخفقنا في إصابة الهدف لكن لا تقلقوا, فالجنرال أوفقير سينهي العمل في مطار الرباطسلا.اليوم يوم كبير لنا جميعا و للبلاد كافة. كل ما قمنا به قمنا به عن قناعة و وعي, تحيا الجمهورية. التفت إلى النقيب العربي و قال له: - العربي, لا تأتمر الآن إلا بأوامر الجنرال أوفقير أو أوامر الجنرال الصفريوي, هل تسمع؟ ثم توجه نحوي أنا و قال: - أما أنت يا الوافي, فلا تحاول التسلل إنك محروس و مراقب... و قبل أن يغادرنا, قال ثلاث مرات «تحيا الجمهورية» مما تركنا فاغري أفواهنا ننظر باستغراب لبعضنا البعض لا ندري ما العمل. اعتقالي في مكناس نزلت فورا و بسرعة من برج المراقبة. و عند وصولي أرضية المطار لم أجد الليوتنان كولونيل و سمعت هدير طائرة هيليكوبتير ثم رأيتها تتجه جنوبا, و علمت من أحد الحراس أن أمقران هو من يقود الهيليكوبتير. حينها قررت مغادرة القاعدة في أسرع وقت. رأيت أن شريط حراسة قد طوق مختلف عمارات القاعدة و لم أعرف من أمر بذلك. أسرعت نحو سيارتي و حين ركبت وجدت بالمقعد الأيمن الأمامي أحد حراس الاتصال و فوق ركبتيه جهاز اتصال. -من سمح لك بفتح سيارتي يا هذا؟ -إنه الليوتنان الطويل و أمرني بانتظارك حينها طلبت منه فتح الجهاز الذي أمامه للاتصال ببرج المراقبة أجابني النقيب العربي قائلا أن الجنرال أوفقير اتصل و طلب أسماء الضباط المتواجدين ببرج المراقبة سألته بقلق: هل أعطيته إسمي؟ أجابني بالإيجاب مضيفا: على كل حال فأنت من أجبته قبل قليل و هذا أمر لن ينساه ... قطعت الاتصال و طلبت من الحارس أن يذهب هو و جهازه.خرجت من سيارتي و أغلقتها بالمفتاح آملا في الحصول على أكبر قدر من المعلومات الممكنة كي أعطيها فيما بعد لهيأة الأركان. في تلك اللحظة وصل الأدجودان شاف الجيلالي, رئيس المدرج, لتحيتي فسألته عما إذا كانت طائرات الاستكشاف التي أقلعت مسلحة أم لا؟ فأجابني بأن الطائرات كانت فعلا مسلحة و أن طائرة زياد قد عادت بذخيرتها بينما طائرة الليوتنان زياد قد عادت فارغة. و رأيت زياد و بوخالف اللذين نزلا من طائرتيهما و هما يتجهان نحوي.كانا يختصمان و سمعت الليوتنان بوخالف يقول غاضبا لليوتنان زياد: -كان عليك أن تخبرني. لماذا لم تفعل؟ليس من حقك أن تتركني غافلا؟ أنظر الآن في أي وضع خطير وضعتني. أمسك رأسه بيديه و بدا على شفير الإجهاش بالبكاء. سألني الليوتنان زياد عن مكان أمقران فقلت له أني علمت أنه طار بالهيليكوبتير - آه اللئيم,لقد هرب بكل تأكيد. إذن فسيرى من هو زياد. سأقوم بالأرض المحروقة...ثم أدار ظهره لي و اتجه لينضم إلى بوخالف. و بدوره جاء الليوتنان الطويل سائلا: - سيدي النقيب,هل تعرف ما يجري؟ أجبته بأني نزلت لتوي من برج المراقبة و أن أمقران قد أخبرنا بوقوع انقلاب عسكري يقوده الجنرال أوفقير, و أصفت أنه قال أن الجيش كله معني بالانقلاب. فأكد لي أن لا علم له لا هو و لا رجاله بهذا الأمر. ركبت سيارتي و خرجت من منطقة العمليات.و لدى خروجي صادفت أحد الحراس الذي عمل تحت إمرتي فقلت له أن يسلمني مسدسه الرشاش «بيريتا» فنفذ الأمر حالا و ما أن لمست السلاح حتى استعدت طمأنينتي. سلحت الرشاش و وضعته إلى جانبي على مقعد السيارة. بدت المنطقة السكنية هادئة , فدخلت منزلي و في الوقت الذي كنت أنوي فيه الاختلاء بزوجتي و إبلاغها بما وقع رن جرس الهاتف.كانت المكالمة من أخيها أحد حراس الأمير مولاي عبد الله. لقد علم بالأمر و تلفن ليعرف ما إذا كنت متورطا فيه. نفيت له علمي أو تورطي فيه و أن كل شيء قد جرى دون علم مسبق مني, فحذرني مبلغا إياي بانتظار أن يتم اعتقالي في الساعات القريبة, ثم أغلق الهاتف. شعرت و كأني تلقيت ضربة قاصمة على رأسي. لقد أكد تخوفاتي. فلأذهب إذن إلى مكناس. لحقت بزوجتي في المطبخ. و من خلال نظرتها اليائسة, عرفت أنها علمت أيضا . حاولت جاهدا أن أقنعها بأن لا يد لي فيما جرى.حاولت أن تثنيني عن الذهاب إلى مكناس. كان ابتعادي عن أهلي في تلك الظروف يمزقني.قبلت إبناي بسرعة و ودعت حماتي و ضممت إلي زوجتي محاولا إقناعها للمرة الأخيرة و طمأنتها... لدى خروجي من القاعدة كانت الحراسة مشددة, قلت لهم أني أريد الالتحاق بالقاعدة الجوية لمكناس, فسمحوا لي بالمرور. و أنا في الطريق إلى مكناس كانت الأفكار تتزاحم في رأسي و ذكريات المحاولة الانقلابية للصخيرات و الأحكام التي تلتها من طرف المحكمة العسكرية. و فكرت في لحظة من اللحظات في اجتياز الحدود و اللجوء للجزائر لكني اعتبرت أن هذا التصرف سيعد تأكيدا لتورطي في المحاولة الانقلابية الأخيرة و فكرت فيما يمكن أن يعانيه أفراد أسرتي من بعدي. عند وصولي على الثامنة و نصف مساء إلى قاعدة مكناس, توجهت مباشرة إلى مكتب الكومندان وهبي, فوجدته صحبة النقيب بنسعيد. حدثتهما عن أحداث النهار و شعرت بأنهما تعاطفا معي فحاولا طمأنتي و طلبا مني تحرير تقرير عما جرى. و بقيت لبضع ساعات قبل أن ينزل أمر من قيادة الأركان العامة بوضعي رهن الاعتقال الاحتياطي, فنقلوني آنذاك, تحت الحراسة, إلى غرفة من غرف القاعدة. و في انتظار وجبة العشاء شرعت في كتابة تقريري. و على الساعة العاشرة إلا ربع دخل علي دركيان و طلبا مني الاستعداد لكي أصطحبهما إلى الرباط.أعطيتهما التقرير الذي حررته ثم وضعا الأصفاد في يدي و العصابة على عيني بعد أن اعتذرا عن ذلك. هكذا تحول مصيري من مسار واعد و وردي إلى مسار مختلف تماما. عند وصولنا إلى الرباط تم اقتيادي إلى سجن الدرك الملكي.كان هناك طيارون آخرون تم اعتقالهم أيضا.أعادوا تقييد يدي و تعصيب عيني و أدخلت زنزانة مشتركة في انتظار الاستنطاق. كان التوتر سائدا داخل الزنزانة لكننا لم نتعرض لأي تعذيب أو سوء معاملة خلال الاستنطاقات التي بدأت في الغد و التي سجلت في محاضر. في اليوم الموالي,أي 17 غشت 1972 ,و بموافقة من رئيسه جاءني أحد رجال الدرك بجريدة يومية علمت من خلالها أن الليوتنان كولونيل أمقران و رفاقه قد لجأوا إلى جبل طارق و أنه سيجري ترحيلهم إلى المغرب قريبا جدا. في نهاية الزوال,قدم دركي عضو في لجنة التحقيق , و هو واحد من معارفي بالدارالبيضاء, خصيصا ليزف لي نبأ سعيدا مفاده أن أمقران قد برأني تماما, و أنه ستتم تبرئتي لا محالة بعد انتهاء التحقيقات و مثولي أمام المحكمة. خلال الليل و حوالي الساعة الثالثة فجرا,تمكنت,بفضل تعاطف الدركي المكلف بالحراسة, من أن أتلفن إلى زوجتي من مكتب قائد اللواء.حاولت جاهدا طمأنتها ثم أعطيتها بعض التعليمات لمواجهة الوضع المالي خلال الأسابيع القادمة. في الغد 18 غشت تم إرسالنا إلى مركز المظليين حيث أقام الدركيون مقرا للتحقيق التفصيلي. كنا,ما بين ضباط و ضباط صف, حوالي 220 معتقلا. في زنزانة المركز كان معي ضباط الصف الذين رافقوا أمقران على متن الطائرة العمودية إلى جبل طارق. و قد رووا لي ما جرى بعد أن أمرهم أمقران بالإقلاع نحو مطار الرباط حيث حلقوا فوقه, و لما تأكدوا عيانا من هبوط الطائرة الملكية, أمرهم بالتوجه شمالا. وصلوا إلى جبل طارق في ظروف مناخية مضطربة فأخذ الليوتنان كولونيل أمقران مقاليد القيادة بنفسه و تمكن من الهبوط حيث استقبلوا من طرف ضابط بريطاني.طلب أمقران اللجوء السياسي بينما عبرنا نحن عن رغبتنا في العودة للمغرب. و بعد أن تم إيداعنا ,تحت الحراسة ?يقول صاحبي ? في أحد فنادق المدينة في تلك الليلة ,قاموا بتقييدنا وتعصيب أعيننا و إركابنا في طائرة خاصة نقلتنا إلى المغرب. و بعد ذلك تلت مرحلة الاستنطاقات المكثفة و انتظار المحاكمة التي جرت في 17 أكتوبر 1972 .و في 7 نوفمبر صدرت الأحكام. كان عدد المتهمين الماثلين أمام المحكمة العسكرية 220 ضابطا و ضابط صف. فحكم على أمقران و الطيارين السبعة الذين قصفوا الطائرة الملكية و المطار و القصر بالإعدام و حكم بنفس العقوبة على كل من النقيب العربي الذي كان سينتقل إلى مكناس, و على الليوتنان ليزيد مسؤول الأمن الذي فر مع أمقران إلى جبل طارق. و قد تم تنفيذ أحكام الإعدام هاته في 13 يناير 1973 عشية عيد الأضحى و يوم الوقوف بعرفة مما أثار موجة من الاستنكار في البلاد حينها. كما تم الحكم بعشرين سنة سجنا على ثلاثة ضباط آخرين , وبأحكام تراوحت بين عشر و ثلاث سنوات على 32 من المتهمين , و برئت ساحة 117 ضابط صف معظمهم من ميكانيكيي الطائرات الذين تحتاج إليهم قيادة الأركان لصيانة طائرات ال»إف 5» الجديدة. أما بالنسبة لي فقد طالب المدعي العام بسجني إلى الأبد لكن المحكمة قضت بمعاقبتي بعشر سنوات سجنا. شعرت بانهيار معنوي كبير خاصة أن الحكم ترافق مع خبر فاجع هو وفاة والدي . بعد صدور الأحكام تم إيداعنا السجن المركزي بالقنيطرة, حيث وضعونا في زنازين المحكوم عليهم بالإعدام, لا شك لتكسير معنوياتنا. و قد كان الليوتنان فضول ? الذي لن أراه إلا بعد عشرين عاما تمت ترقيته خلالها إلى رتبة عقيد ? حاضرا بشكل دائم للقيام بمهمة تكسير المعنويات, و كان يقوم بها بشكل لافت استحق عليه الشكر من طرف رؤسائه.