أربعة جنرالات شغلوا مناصب حكومية في المغرب، هم محمد أوفقير ومحمد أمزيان وإدريس بنعمر ومحمد المذبوح. اثنان توليا وزارة الدفاع في مراحل متفاوتة ارتبطت بأحداث مؤثرة، هما أوفقير وأمزيان، إلا أن المذبوح كان يطمح إلى أكبر من المناصب الوزارية، ونتيجة تورطه في المحاولة الانقلابية الفاشلة في الصخيرات، سيعهد الملك الحسن الثاني إلى الجنرال أوفقير بإدارة وزارة الدفاع للمرة الأولى والأخيرة. من المفارقات أن الرجل، الذي غاب عن الأنظار وسط الغموض الذي كان يلف الأحداث داخل قصر الصخيرات، أي الجنرال أوفقير سيكون ورقة الجوكر التي أخرجها الملك من تحت قبعته، ليصبح بعد عام وبضعة أسابيع عن تلك الواقعة بمثابة شيطان لقي مصرعه في نفس المكان. لعلها الصدفة ذات البعد التراجيدي هي ما جعل حتف جنرالين يكون في نفس المكان. وغير بعيد عنه إلا ببضعة كيلومترات، لقي جنرالات وضباط نفس المصير، عبر عملية إعدام أذيعت على أمواج الإذاعة، وكانت فيها الأصوات ترتفع: عاش الملك… عاش الملك. لدى دعوة الوزراء إلى القصر الملكي لأداء اليمين، كان يطلب منهم ارتداء بذلة قاتمة وطرابيش حمراء، وكان الملك محمد الخامس يرتدي الجلباب التقليدي، فيما احتفظ وزراء آخرون، أمثال محمد الفاسي والمختار السوسي والحاج محمد باحنيني، بالجلابيب والبرانس. وبذلك يكون الجنرال محمد المذبوح أول عسكري يتقلد منصبا وزاريا في غير إدارة الدفاع، أي البريد والتلغراف والتليفون، كما كان يطلق على وزارة الخدمات البريدية واللاسلكية. وقد جاء تعيين المذبوح في الوزارة التي شغلها قبله اليهودي الدكتور بن زاكين، المتحدر من أصول مغربية، ثم الوزير محمد عواد، الذي سيصبح مستشارا للحسن الثاني في ظرفية دقيقة، ذلك أنه العسكري الوحيد الذي شغل منصبا مدنيا في حكومة عبد الله إبراهيم، التي انتقلت فيها وزارة الدفاع إلى محمد عواد. وقد عرف عن المذبوح، آنذاك، أنه يرتبط بعلاقات مع كل الأطراف، وإن كان أقرب إلى محيط القصر قبل أن تخامره نوايا الانقلاب ضده. كان وجود المذبوح في تلك الحكومة مثار تساؤلات، إلا أن مبررات حول الأهمية الاستراتيجية لقطاع البريد في تلك الفترة جعلت كافة الشركاء يقبلون بوجوده، خصوصا أن الصراعات الحزبية والسياسية لم تكن قد آلت إلى اصطفاف شبه نهائي . بيد أنه قبل الإطاحة بتلك الحكومة، التي كان يروق للملك الحسن الثاني أن يصفها بأول تجربة تناوب لم تكتمل، سيتم الإعلان عن إحباط محاولة لاغتيال ولي العهد الأمير مولاي الحسن في فبراير 1960، ثلاثة أشهر قبل إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، في ضوء اعتقال منتمين إلى الاتحاد الوطني بتهمة التورط في تلك المحاولة. سيكون للجنرال المذبوح دور أساسي في الإعلان عن كشف تلك المحاولة، أو على الأقل فإن ولي العهد كان مقتنعا، آنذاك، في ضوء المعلومات التي توفرت لديه من طرف الجنرال المذبوح، أنه كان مستهدفا. وقد أوعز في تلك المرحلة إلى الدكتور عبد الكريم الخطيب، الذي كانت له علاقات مع شخصيات في المشرق العربي، تتبع خيوط تلك المحاولة، التي كشف عن بعض تفاصيلها رجل من الشرق الأوسط مقابل مبالغ مالية. لا يعرف بالتحديد مدى مصداقية السيناريوهات التي ترددت حول الموضوع، إلا أن المعلومات التي نقلت إلى المراجع الرسمية كانت تضم خرائط وتحركات استهدفت القصر الملكي في داخله، وكان ذلك أشد ما أغضب الأمير مولاي الحسن، فيما سيلعب الجنرال المذبوح سيلعب دور الأرنب في سباق الإطاحة بحكومة عبد الله إبراهيم، حين جاء ينتقد الظروف التي يتم فيها العمل داخل الحكومة، واضعا استقالته رهن إشارة الملك الراحل محمد الخامس. كانت حرب الاستقالات في تلك الفترة تحتدم وتخفت على إيقاع الصراعات الحزبية، ويبدو أن الأسلوب الذي أقدم عليه عبد الرحيم بوعبيد في دفع حكومة أحمد بلافريج إلى الاستقالة، هو نفسه الذي أصبح متبعا، مع فارق في تحديد أسباب الاستقالات وخلفياتها، سيما أن الحكومات الأولى المتعاقبة بعد الاستقلال لم تكن أعمارها تطول، فقد عمرت أول حكومة لمبارك البكاي أقل من عامين، من ديسمبر 1955 إلى أكتوبر 1956، ولم تكمل الحكومة الثانية نفس المسافة الزمنية من أكتوبر 1956 إلى أبريل 1958. والحال أن حكومة أحمد بلا فريج دامت أقل من سبعة أشهر، وتجاوزت حكومة رئيس الوزراء عبد الله إبراهيم عامين ونصف العام بالكاد، من ديسمبر 1958 إلى ماي 1960، ثم تبعتها حكومة الملك محمد الخامس التي استمرت أقل من عام، من ماي 1960 إلى ماي 1961. كان ذاك يعكس مظهرا لعدم الاستقرار السياسي والحزبي، في وقت كانت تدور فيه أحداث وقلاقل مدنية في أنحاء شتى من البلاد، وكان الصراع من أجل الاستئثار بالسلطة يكاد ينحصر بين امتدادات الحركة الوطنية والتيارات الموالية للسلطة، التي كانت تدفع في اتجاه آخر، هو نفسه الذي سيتبلور لاحقا عبر دستور 1962، الذي ركز على حظر نظام الحزب الوحيد وأقر نظاما للتعددية، لكنه على صعيد الواقع لم يكن تعدديا يعكس جوهر الخارطة السياسة، بقدر ما كان يراد لإقامة حواجز سميكة أمام أحزاب الحركة الوطنية، إلى أن بلغ الأمر مداه عبر إقرار نظام حالة الاستثناء في ربيع 1965. سيتدرج الجنرال المذبوح في مناصب المسؤولية، لكن على الواجهة العسكرية، ليصبح كبير الضباط المرافقين للملك ورئيس الحرس الملكي، دون أن يغفل طموحاته السياسية التي كانت تدفعه للمغامرة بكل شيء. وفي رواية للملك الحسن الثاني أن المذبوح كان يسعى إلى الدفاع عن أقارب وأشخاص تربطه معهم معاملات مالية وتجارية، وأن ما دفعه للتخطيط لانقلاب الصخيرات الفاشل هو إدراكه أن ثمة تحقيقات كانت قد بدأت تدور في الخفاء حول مصادر أموال أولئك الأشخاص وطبيعة حيازتها عبر تلقي عمولات من جهات أجنبية. هذه الرواية تفسر، في جانب منها، دلالات اعتقال وزراء ورجال أعمال متنفذين، ضمن ما عرف ب«محاكمة الوزراء»، الذين تورطوا في صفقة غامضة لاقتناء طائرات من صنع أمريكي، ذلك أنه بعد مرور حوالي ثلاثة أشهر على إحباط المحاولة الانقلابية الفاشلة في الصخيرات، أعلن عن اعتقال أولئك الوزراء في مطلع نوفمبر 1971، بيد أن محاكمتهم لم تبدأ إلا في سبتمبر 1972، بعد سقوط الجنرال محمد أوفقير، على إثر انفضاح دوره في المحاولة الانقلابية للسادس عشر من غشت من العام ذاته. ظل لغز سفر الجنرال المذبوح إلى الولاياتالمتحدة في الأشهر الأولى لعام 1971 قائما، فقد أحدثت تلك الرحلة تحولا كبيرا في مسار الرجل، من جهة لأنه كان عسكريا لا يستطيع الخوض في أي ملفات سياسية دون موافقة الملك، ومن جهة ثانية، لأن انتقاداته لمحيطين به في مربع السلطة زادت أكثر بعد العودة من تلك الرحلة، مع أن فضيحة تورط وزراء وبعض رجال الأعمال في قضية طائرات شركة «بانام» الأمريكية لم تنفجر إلا بعد مقتل الجنرال المذبوح على أيدي شركائه في المحاولة الانقلابية في الصخيرات، وأشد ما أزعج الملك بعد إفشال نفس الحادث، الذي أسفر عن مزيد من القتلى في فناء القصر – من بينهم سفراء أجانب وضيوف وشخصيات مغربية، كما هو حال الوزير الأول الحاج أحمد باحنيني، والطبيب الخاص للملك الدكتور بنيعيش، ومدير المركز السينمائي المغربي إدريس غنام، إضافة إلى إصابة الزعيم السياسي محمد بلحسين الوزاني بجراح بليغة – أنه سيتناهى إلى علمه أن الضباط والجنود، الذين تورطوا في تلك المحاولة، أكلوا من مائدته، فقد طلب منه الجنرال المذبوح التزود بساندويتشات وجهت إلى أولئك المتورطين، فيما اعتقد الحسن الثاني أنها موجهة لضيوف في لحظات استراحة. المذبوح نفسه، باعتباره أحد الضباط المرافقين للحسن الثاني، هو من كان قد نبهه إلى تغيير مسار زيارة كان يقوم بها إلى منطقة الأطلس المتوسط في ماي 1971. وتحدث ضباط ممن تورطوا في حادث الصخيرات أن مدير المدرسة العسكرية في هرمومو، الكولونيل محمد اعبابو، طلب منهم المشاركة في مناورة عسكرية هناك، كانت ستجرى بالذخيرة الحية، لكن توجيههم إلى هناك أرجئ في اللحظة الأخيرة، مما يعني أن الجنرال كان قد اختار توقيت تنفيذ العملية كي تتزامن مع احتفالات الحسن الثاني بذكرى عيد ميلاده الثاني والأربعين. في الرابع من غشت 1971، سيختار الملك الحسن الثاني جنرالا آخر لتولي وزارة البريد، لم يكن سوى الجنرال إدريس بن عمر العلمي، الذي عرف بخوضه غمار معارك حرب الرمال في خريف 1968. كان قرار التعيين في حد ذاته مؤشرا على أن المؤسسة العسكرية ليست بالصورة التي انطبعت في الأذهان، إثر المحاولة الانقلابية في الصخيرات، والظاهر أن الحسن الثاني اختار البريد، عبر إيحاءاته الرمزية، حيث كان يشغله جنرال آخر أردي في قصر الصخيرات. أبعد من الطابع الرمزي لذلك التعيين أن الخصاص الحاصل في ميدان الاتصال ألقى بظلاله على تلك الأحداث، وبات يطرح المزيد من الأسئلة، إذ كيف يمكن لقوافل عسكرية أن تتحرك من ثكنة هرمومو شمال مدينة فاس، وتقطع مئات الكيلومترات، دون أن يتم الإخبار بذلك. ولعل أبرز الخلاصات تمثلت في توسيع صلاحيات العمال، خاصة أن عامل مدينة طنجة، الضابط حسني بن سليمان، كان وراء مبادرة الإعلان عن بقاء الملك الحسن الثاني على قيد الحياة، حيث أمر إذاعة طنجة ببث ذلك الخبر والأناشيد الوطنية، في انتظار فرض السيطرة على المتمردين. ويبدو أن تعيين الجنرال بن عمر في قطاع البريد كان جزءا من إجراءات احترازية همت السيطرة على قطاع المواصلات السلكية واللاسلكية، غير أنه بالرغم من وجود جنرالين في حكومة واحدة، إدريس بنعمر في البريد، ومحمد أوفقير في الدفاع، فإن هذا الأخير استطاع أن ينفذ الشطر الثاني من مخططه، الذي كان قد بدأ في التفكير به مباشرة بعد اندحار آخر فلول المتورطين في حادث الصخيرات. سيكون من مضاعفات تلك الوقائع أن خطا أحمر وضع حول وزارة الدفاع، التي تحولت إلى إدارة يشغلها مدنيون. وكما أن اسم أوفقير كان يجلب المتاعب على حامليه في تلك المرحلة، فإن اسم المذبوح بدوره لم يعد يتردد إلا في حالات نادرة، وثمة من يذهب إلى أن بعض الأشخاص غيروا من هوياتهم للابتعاد عما علق بتلك الأسماء من مؤاخذات. ربما لم يحظ جنرال بمثل العطف والصداقة التي جمعته مع الملك الحسن الثاني كما كان وضع الجنرال المذبوح. وقد عبر الحسن الثاني عن ذلك يوما حين قال إنه لم يعد يثق حتى في وسادته. وفي حكايات متداولة، فإن أكثر المخاطر تأتي من أقرب المقربين، لكنه غدر التاريخ يفرض قوانينه وشروطه في غفلة عن العيون. المذبوح: قصة جنرال أنقذته الكوليرا من الإعدام في انقلاب الصخيرات أحمد المرزوقي «يحرض» ذاكرة ضباط الانقلابات باالمملكة شجع أحمد المرزوقي، المعتقل السابق في سجن تازمامارت الرهيب، الكثيرين على استعادة مرحلة حرجة من تاريخ المغرب المعاصر، ممن تجاوبوا مع روايته حول وقائع انقلاب الصخيرات ضد الملك الراحل الحسن الثاني عام 1971، في قناة «الجزيرة» القطرية. الكولونيل عبد الله المنصوري واحد من هؤلاء الذين لا تزال ذاكرتهم الطرية تحتفظ بشريط الأحداث. وبخلاف المرزوقي، الذي كان وقتها مدربا في مدرسة ضباط الصف بأهرمومو ووجد نفسه مجرورا إلى حدث أكبر منه، كما يروي هو نفسه، كان المنصوري قريبا جدا من بيت الجمر. فهو الذي أشرف على امتحانات التخرج لمئات الضباط، وعمل رئيسا للأركان في المنطقة العسكرية بفاس، التي كانت أهم المناطق العسكرية الست بالنظر إلى قربها من الحدود الجزائرية، حيث كانت تضم عددا من الأقاليم من بينها وجدة وتازة، أكبر مخزن للذخيرة العسكرية، وكان يرأسها الجنرال بوكرين، الذي أعدم ساعات قليلة بعد فشل انقلاب الصخيرات في مكناس، بعدما كان متوجها بالطائرة نحو زملائه في الصخيرات وأرغم الجنرال أوفقير ربانها على العودة إلى مكناس وانتظار الأوامر العسكرية. يقول المنصوري، الذي جالسته «المساء» طويلا لتتحدث معه عن تلك المرحلة، إن الإعداد للانقلاب بدأ شهورا قليلة بمقر القيادة العسكرية العامة بفاس، حيث كان يلتقي الجنرالات الثلاثة، بوكرين ومذبوح ومصطفى، دون إثارة الشكوك، إذ كانوا كثيرا ما يزورون المدينة بسبب الزيارات المتكررة للحسن الثاني لها. كان الجنرال بوكرين يأمر المنصوري، كلما بدأت تلك الاجتماعات المغلقة، بمنع أي شخص من الدخول إلى مكتبه، ويشعل مصباحا كهربائيا أمام باب المكتب أحمر اللون، كعلامة على أهمية الاجتماع، حتى لا يزعجهم أحد. في تلك الفترة، تم تعيين الجنرال مصطفى من قبل الجنرال مذبوح، مدير الديوان العسكري للحسن الثاني، مسؤولا عن المدارس العسكرية التي يتم فيها تكوين الضباط الجدد، وكانت تلك المدارس تابعة قانونيا للمكتب الثالث الذي كان يرأسه الكوماندان أجواد، ولم يرض الجنرال مصطفى بأن يكون تحت قيادة كوماندان، لذلك تقرر فصل المدارس العسكرية عن المكتب الثالث. ويقول الكولونيل المنصوري إن تلك الخطة كانت مدبرة سلفا حتى لا يتسرب أي شيء عن التدابير الجديدة التي اتخذتها حلقة الجنرالات الثلاثة لإنجاح الانقلاب؟ لأن مدبري الحادث، الذي كان سيدخل المغرب في المجهول، قرروا تكثيف التداريب العسكرية لفائدة الضباط استعدادا للانقلاب. وقبل ستة أشهر، أعطى الجنرال مذبوح أوامره لجميع المناطق العسكرية من أجل إعداد دراسة مسحية شاملة عن كل منطقة، من النواحي العسكرية والسياسية والاجتماعية، بدعوى تقديمها إلى الحسن الثاني بمناسبة عيد ميلاده، الذي تزامن مع الانقلاب. وكان المنصوري هو من أشرف على إعداد الدراسة التي شملت منطقة فاس. وكان الهدف في الحقيقة هو أن يعرف مدبرو الانقلاب المعطيات الدقيقة في جميع المناطق العسكرية حتى إذا ما نجح الانقلاب توفرت لديهم الخريطة الحقيقية للمغرب من جميع النواحي وسهل عليهم ضبط الأمور. ويقول المنصوري إن امتحانات تلك السنة كانت مكثفة جدا ومبالغا فيها، وهو ما ضمنه تقريره الذي رفعه إلى الجنرال مصطفى، الذي استدعاه بعد قراءته وتحدث معه في الموضوع. ويتذكر المنصوري أنه، سنة قبل الانقلاب، أعطيت الأوامر لكي يعاد تدريب الضباط الممتازين في المدرسة العسكرية بالقنيطرة، وكان من بين المدنيين الذين كانوا يعطون دروسا في الأمور المدنية والسياسية عبد الواحد الراضي، وزير العدل الحالي، ومحمد الحبابي، من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. غير أن الصدف وحدها هي التي أنقذت الكولونيل المنصوري من الموت حكما بالإعدام، كما حصل مع زملائه. فقبل يوم الانقلاب توجه، في مهمة عسكرية، إلى الناظور، تاركا وراءه خليفته الكوماندان بن ابراهيم، الملقب ب«عمي». وفي اليوم التالي، اتصل الجنرال بوكرين بمقر القيادة العسكرية بفاس وطلب حضوره العاجل إلى الصخيرات، حيث كان مصيره سيختلف عما هو عليه اليوم، إلا أن الناظور كانت تعيش، في تلك الفترة، وباء الكوليرا، فمنعه الدرك الملكي من مغادرة المدينة بأوامر من الملك بسبب الطاعون. عاد المنصوري إلى الناظور، وفي صبيحة اليوم التالي، توجه إلى مقر العمالة وحصل من عامل الإقليم على رخصة مرور للتوجه إلى فاس، ومن ثمة الالتحاق بالجنرال بوكرين في الصخيرات، لكن ما إن وصل إلى فاس حتى اتصل به عاملها بنشمسي، وأخبره بما حصل في الصخيرات، وفي مساء نفس اليوم، علم المنصوري بخبر إعدام الجنرال بوكرين ومساعده الكوماندان بن ابراهيم، الذي كان المنصوري سيكون في مكانه لو لم تنقذه العناية الحبابي: الجنرال المذبوح كسر عصا الغولف أمام الحسن الثاني احتجاجا على الوزراء المرتشين أوفقير كان يقرأ كتبي ودافع عن استمراري في التدريس حين أراد بعض المسؤولين العسكريين إبعادي سليمان الريسوني حقائق تنشر لأول مرة على لسان محمد الحبابي، «الشيوعي» الذي أسس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية رفقة المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد، دون أن يتخلى عن صداقته لمستشاري الحسن الثاني وجنرالاته الأقوياء. فوق كرسي اعتراف «المساء»، يتحدث أستاذ الاقتصاد عن علاقته بالجنرالين القادري والدليمي وبإدريس البصري، وكيف جمع بين علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد لتأسيس الكتلة الوطنية، ثم اتصل بالقصر الملكي لتشكيل حكومة الكتلة في 1971؛ ويتطرق الحبابي إلى علاقة الاتحاديين بالانقلاب على الحسن الثاني سنة 1972. ويميط اللثام عن أسرار غير معروفة في قضية المهدي بنبركة، وكيف خطط رفقة اليازغي لاختطاف «قتلة» المهدي، وكيف سجنه الحسن الثاني رفقة بوعبيد واليازغي بعد رفضهم الاستفتاء حول الصحراء سنة 1981. - بعد فشل المفاوضات مع الحسن الثاني للدخول إلى الحكومة في 1972، وصلتم في الحزب إلى الباب المسدود مع جناح عبد الله ابراهيم والمحجوب بن الصديق.. أصدر عبد الله ابراهيم بلاغا يؤكد فيه خروج الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من الكتلة الوطنية، وأغلق في وجهنا مقرات الحزب، وبدأ «يخلوض» رفقة المحجوب بن الصديق. أنا أتحدث هنا عن أكتوبر 1972 الذي كان آخر عهد لنا بتلك المجموعة بعد أن عين الحسن الثاني عصمان وزيرا أول. لكن يجب التذكير بأننا كنا قد اجتمعنا، نحن مجموعة الرباط بقيادة عبد الرحيم بوعبيد، في 30 يوليوز 1972، وهو الاجتماع الذي أطلقنا عليه «انتفاضة يوليوز». وبعد أن وقفنا على صعوبة العمل مع مجموعة المحجوب بن الصديق وعبد الله ابراهيم، خلصنا إلى أن «الاتحاد» يجب أن يتميز بوضوح إيديولوجي، أي أن يعلن بوضوح أنه حزب اشتراكي، كما خلصنا إلى أن ذلك الوضوح الإيديولوجي يحتاج إلى أداة سياسية بديلة. من هنا، بدأ التفكير ثم التحضير لعقد مؤتمر استثنائي سوف يصطدم بأحداث 3 مارس 1973، المعروفة بأحداث مولاي بوعزة، والتي حمل النظام المسؤولية عنها لحزبنا، حيث سيتم اعتقال العديد من المناضلين، وفي طليعتهم الشهيد عمر بنجلون ومحمد اليازغي. لذلك، سوف لن نتمكن من عقد المؤتمر الاستثنائي إلا في يناير 1975. - قبل أحداث مولاي بوعزة، جرت محاولة الانقلاب على الحسن الثاني بقيادة الجنرال أوفقير، في غشت 1972. هل، فعلا، شاركتم فيها؟ بعد محاولة انقلاب صيف 1971 في قصر الصخيرات، بدأ أوفقير يعطف علينا. وأذكر أنني أصدرت كتابا بعنوان «l'horizon quatre vingt de notre jeunesse» في 1971، وبلغنا أن أوفقير اقتنى الكتاب، ونادى على بعض مقربيه الذين بدؤوا يفسرون له محتوياته. من ناحية أخرى، كان قد طُلب مني خلال الموسم الدراسي لسنة 1970 أن أعطي دروسا في القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية بالقنيطرة. وقد أخبرني لاحقا المستشار الملكي ادريس السلاوي بأن تلك كانت رغبة أوفقير. وفي يناير 1970، بدأت في مهمة التدريس، وسيكون طلبتي هم الذين شاركوا في انقلاب 1971، ومنهم: الجنرال بوكرين والكولونيل اعبابو والكولونيل الشلواطي، وقد تأثروا كثيرا بدروسي، خصوصا الكولونيل المنصوري الذي كان رئيس ديوان الجنرال بوكرين والذي أخبرتني زوجته التي كانت أستاذة في كلية الحقوق بأنه كان دائما، عندما كان يريد أن يدعم فكرة أمام الجنرال بوكرين، يقول له إن الحبابي هو من قالها لنا، فكان يقبلها. - ما هي المواد التي كنت تدرسها؟ كنت أدرس الاقتصاد المغربي والاقتصاد العالمي. وقد فوجئت بجهل طلبتي العسكريين باقتصاد المغرب، كما وجدتهم متعطشين إلى المعرفة، وأذكر مرة أنه طالبا التمس مني أن أقدم إليه معلومات عن الاقتصاد في شمال المغرب، وفي مساء ذلك اليوم التقيت كعادتي بعبد الرحيم بوعبيد وأخبرته بالأمر، فقال لي سلِّمه المعلومات عن طريق الإدارة وليس يدا بيد. بعد ذلك، أصبح محمد آيت قدور، الذي كان مديرا لميناء القنيطرة، يستدعيني، من حين إلى آخر، لتناول وجبة الغداء في بيته إلى جانب كبار العسكريين، ومنهم الكولونيل الشلواطي. ولا أنسى هنا أن أذكر أن عبد الرحيم بوعبيد كان يطلب مني ألا ألبي دعوة آيت قدور. وبعد انقلاب 1971، دافع الجنرال أوفقير عن استمراري في التدريس حين أراد بعض المسؤولين العسكريين إبعادي، وهذا أخبرني به المستشار الملكي ادريس السلاوي. - لم تشعر، وأنت تمارس مهامك كأستاذ داخل القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية بالقنيطرة، بأي تحضير لانقلاب 1971؟ قبيل الانقلاب، توفرت لدي ثلاثة مؤشرات على أن شيئا خطيرا يتم التحضير له في المغرب. أولا، قبيل يوليوز 1971، تاريخ الانقلاب، وبالضبط في يونيو، أخبرني صديقي ادريس السلاوي بأن وفدا عسكريا يترأسه الكولونيل الشلواطي، الذي كان قد أصبح قائد لواء «Chef de brigade speciale»، جاء إلى الديوان الملكي، وأن الشلواطي خاطبه بعنجهية قائلا: أريد مقابلة الملك. وفي حديثه إلي، علق السلاوي على ذلك قائلا: الحبابي.. أنا لم أعد أثق، هناك أشياء خطيرة يتم التحضير لها. ثانيا، كان قد أخبرني صديقي رجل الأعمال عبد الحق التازي، الذي كان صديقا حميما للجنرال محمد المذبوح، بأن الحسن الثاني كان يعطي المذبوح في كل مناسبة أغلفة مالية مهمة. ولاحقا، عرفت أن المذبوح لم يكن يفتح تلك الأظرفة بل كان يضعها في خزنة حديدية، وقد تم العثور عليها مغلقة بعد مقتله، وهو ما يعني أن المذبوح لم يكن راضيا بتلك الإكراميات ولا بطريقة حكم الحسن الثاني. ثالثا، كان أخي حسن الحبابي، الطبيب بالدار البيضاء، متزوجا بفريدة العلمي، التي توفيت في حادثة سير، وكانت أمها من عائلة المارشال أمزيان، الذي كانت له علاقة بالمذبوح. وقد أبلغتني فريدة العلمي بأن المذبوح كان مستاء من نظام الحكم في المغرب، وأنه حكى داخل العائلة بأنه زار الولاياتالمتحدةالأمريكية وتم إطلاعه على تغلغل الرشوة في أوساط الحكومة. - من هي الجهة التي أخبرته بذلك في أمريكا؟ لست أدري، ولكنه اطلع على أن ثلاثة وزراء -هم وزير المالية مامون الطاهري، ووزير الأشغال العمومية والنقل يحيى الشفشاوني، ووزير التجارة والصناعة محمد الجعايدي- كانوا يتفاوضون مع جهات أمريكية لبيع أرض خارج القانون بالدار البيضاء. وعندما جاء المذبوح من أمريكا، ذهب إلى الغولف فوجد الحسن الثاني يتحدث إلى هؤلاء الوزراء، وبالضبط إلى مامون الطاهري، وزير الأشغال العمومية والنقل، وكان المذبوح يحمل عصا غولف فكسرها بتشنج. وهذه الأحداث الثلاثة تبين أن عناصر الجيش التي قامت بانقلاب 1971 لم تكن راضية على الفساد والرشوة التي وصل إليها المغرب حينها.