أربعة جنرالات شغلوا مناصب حكومية في المغرب، هم محمد أوفقير ومحمد أمزيان وإدريس بنعمر ومحمد المذبوح. اثنان توليا وزارة الدفاع في مراحل متفاوتة ارتبطت بأحداث مؤثرة، هما أوفقير وأمزيان، إلا أن المذبوح كان يطمح إلى أكبر من المناصب الوزارية، ونتيجة تورطه في المحاولة الانقلابية الفاشلة في الصخيرات، سيعهد الملك الحسن الثاني إلى الجنرال أوفقير بإدارة وزارة الدفاع للمرة الأولى والأخيرة. من المفارقات أن الرجل، الذي غاب عن الأنظار وسط الغموض الذي كان يلف الأحداث داخل قصر الصخيرات، أي الجنرال أوفقير سيكون ورقة الجوكر التي أخرجها الملك من تحت قبعته، ليصبح بعد عام وبضعة أسابيع عن تلك الواقعة بمثابة شيطان لقي مصرعه في نفس المكان. لعلها الصدفة ذات البعد التراجيدي هي ما جعل حتف جنرالين يكون في نفس المكان. وغير بعيد عنه إلا ببضعة كيلومترات، لقي جنرالات وضباط نفس المصير، عبر عملية إعدام أذيعت على أمواج الإذاعة، وكانت فيها الأصوات ترتفع: عاش الملك... عاش الملك. لدى دعوة الوزراء إلى القصر الملكي لأداء اليمين، كان يطلب منهم ارتداء بذلة قاتمة وطرابيش حمراء، وكان الملك محمد الخامس يرتدي الجلباب التقليدي، فيما احتفظ وزراء آخرون، أمثال محمد الفاسي والمختار السوسي والحاج محمد باحنيني، بالجلابيب والبرانس. وبذلك يكون الجنرال محمد المذبوح أول عسكري يتقلد منصبا وزاريا في غير إدارة الدفاع، أي البريد والتلغراف والتليفون، كما كان يطلق على وزارة الخدمات البريدية واللاسلكية. وقد جاء تعيين المذبوح في الوزارة التي شغلها قبله اليهودي الدكتور بن زاكين، المتحدر من أصول مغربية، ثم الوزير محمد عواد، الذي سيصبح مستشارا للحسن الثاني في ظرفية دقيقة، ذلك أنه العسكري الوحيد الذي شغل منصبا مدنيا في حكومة عبد الله إبراهيم، التي انتقلت فيها وزارة الدفاع إلى محمد عواد. وقد عرف عن المذبوح، آنذاك، أنه يرتبط بعلاقات مع كل الأطراف، وإن كان أقرب إلى محيط القصر قبل أن تخامره نوايا الانقلاب ضده. كان وجود المذبوح في تلك الحكومة مثار تساؤلات، إلا أن مبررات حول الأهمية الاستراتيجية لقطاع البريد في تلك الفترة جعلت كافة الشركاء يقبلون بوجوده، خصوصا أن الصراعات الحزبية والسياسية لم تكن قد آلت إلى اصطفاف شبه نهائي . بيد أنه قبل الإطاحة بتلك الحكومة، التي كان يروق للملك الحسن الثاني أن يصفها بأول تجربة تناوب لم تكتمل، سيتم الإعلان عن إحباط محاولة لاغتيال ولي العهد الأمير مولاي الحسن في فبراير 1960، ثلاثة أشهر قبل إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، في ضوء اعتقال منتمين إلى الاتحاد الوطني بتهمة التورط في تلك المحاولة. سيكون للجنرال المذبوح دور أساسي في الإعلان عن كشف تلك المحاولة، أو على الأقل فإن ولي العهد كان مقتنعا، آنذاك، في ضوء المعلومات التي توفرت لديه من طرف الجنرال المذبوح، أنه كان مستهدفا. وقد أوعز في تلك المرحلة إلى الدكتور عبد الكريم الخطيب، الذي كانت له علاقات مع شخصيات في المشرق العربي، تتبع خيوط تلك المحاولة، التي كشف عن بعض تفاصيلها رجل من الشرق الأوسط مقابل مبالغ مالية. لا يعرف بالتحديد مدى مصداقية السيناريوهات التي ترددت حول الموضوع، إلا أن المعلومات التي نقلت إلى المراجع الرسمية كانت تضم خرائط وتحركات استهدفت القصر الملكي في داخله، وكان ذلك أشد ما أغضب الأمير مولاي الحسن، فيما سيلعب الجنرال المذبوح سيلعب دور الأرنب في سباق الإطاحة بحكومة عبد الله إبراهيم، حين جاء ينتقد الظروف التي يتم فيها العمل داخل الحكومة، واضعا استقالته رهن إشارة الملك الراحل محمد الخامس. كانت حرب الاستقالات في تلك الفترة تحتدم وتخفت على إيقاع الصراعات الحزبية، ويبدو أن الأسلوب الذي أقدم عليه عبد الرحيم بوعبيد في دفع حكومة أحمد بلافريج إلى الاستقالة، هو نفسه الذي أصبح متبعا، مع فارق في تحديد أسباب الاستقالات وخلفياتها، سيما أن الحكومات الأولى المتعاقبة بعد الاستقلال لم تكن أعمارها تطول، فقد عمرت أول حكومة لمبارك البكاي أقل من عامين، من ديسمبر 1955 إلى أكتوبر 1956، ولم تكمل الحكومة الثانية نفس المسافة الزمنية من أكتوبر 1956 إلى أبريل 1958. والحال أن حكومة أحمد بلا فريج دامت أقل من سبعة أشهر، وتجاوزت حكومة رئيس الوزراء عبد الله إبراهيم عامين ونصف العام بالكاد، من ديسمبر 1958 إلى ماي 1960، ثم تبعتها حكومة الملك محمد الخامس التي استمرت أقل من عام، من ماي 1960 إلى ماي 1961. كان ذاك يعكس مظهرا لعدم الاستقرار السياسي والحزبي، في وقت كانت تدور فيه أحداث وقلاقل مدنية في أنحاء شتى من البلاد، وكان الصراع من أجل الاستئثار بالسلطة يكاد ينحصر بين امتدادات الحركة الوطنية والتيارات الموالية للسلطة، التي كانت تدفع في اتجاه آخر، هو نفسه الذي سيتبلور لاحقا عبر دستور 1962، الذي ركز على حظر نظام الحزب الوحيد وأقر نظاما للتعددية، لكنه على صعيد الواقع لم يكن تعدديا يعكس جوهر الخارطة السياسة، بقدر ما كان يراد لإقامة حواجز سميكة أمام أحزاب الحركة الوطنية، إلى أن بلغ الأمر مداه عبر إقرار نظام حالة الاستثناء في ربيع 1965. سيتدرج الجنرال المذبوح في مناصب المسؤولية، لكن على الواجهة العسكرية، ليصبح كبير الضباط المرافقين للملك ورئيس الحرس الملكي، دون أن يغفل طموحاته السياسية التي كانت تدفعه للمغامرة بكل شيء. وفي رواية للملك الحسن الثاني أن المذبوح كان يسعى إلى الدفاع عن أقارب وأشخاص تربطه معهم معاملات مالية وتجارية، وأن ما دفعه للتخطيط لانقلاب الصخيرات الفاشل هو إدراكه أن ثمة تحقيقات كانت قد بدأت تدور في الخفاء حول مصادر أموال أولئك الأشخاص وطبيعة حيازتها عبر تلقي عمولات من جهات أجنبية. هذه الرواية تفسر، في جانب منها، دلالات اعتقال وزراء ورجال أعمال متنفذين، ضمن ما عرف ب«محاكمة الوزراء»، الذين تورطوا في صفقة غامضة لاقتناء طائرات من صنع أمريكي، ذلك أنه بعد مرور حوالي ثلاثة أشهر على إحباط المحاولة الانقلابية الفاشلة في الصخيرات، أعلن عن اعتقال أولئك الوزراء في مطلع نوفمبر 1971، بيد أن محاكمتهم لم تبدأ إلا في سبتمبر 1972، بعد سقوط الجنرال محمد أوفقير، على إثر انفضاح دوره في المحاولة الانقلابية للسادس عشر من غشت من العام ذاته. ظل لغز سفر الجنرال المذبوح إلى الولاياتالمتحدة في الأشهر الأولى لعام 1971 قائما، فقد أحدثت تلك الرحلة تحولا كبيرا في مسار الرجل، من جهة لأنه كان عسكريا لا يستطيع الخوض في أي ملفات سياسية دون موافقة الملك، ومن جهة ثانية، لأن انتقاداته لمحيطين به في مربع السلطة زادت أكثر بعد العودة من تلك الرحلة، مع أن فضيحة تورط وزراء وبعض رجال الأعمال في قضية طائرات شركة «بانام» الأمريكية لم تنفجر إلا بعد مقتل الجنرال المذبوح على أيدي شركائه في المحاولة الانقلابية في الصخيرات، وأشد ما أزعج الملك بعد إفشال نفس الحادث، الذي أسفر عن مزيد من القتلى في فناء القصر - من بينهم سفراء أجانب وضيوف وشخصيات مغربية، كما هو حال الوزير الأول الحاج أحمد باحنيني، والطبيب الخاص للملك الدكتور بنيعيش، ومدير المركز السينمائي المغربي إدريس غنام، إضافة إلى إصابة الزعيم السياسي محمد بلحسين الوزاني بجراح بليغة - أنه سيتناهى إلى علمه أن الضباط والجنود، الذين تورطوا في تلك المحاولة، أكلوا من مائدته، فقد طلب منه الجنرال المذبوح التزود بساندويتشات وجهت إلى أولئك المتورطين، فيما اعتقد الحسن الثاني أنها موجهة لضيوف في لحظات استراحة. المذبوح نفسه، باعتباره أحد الضباط المرافقين للحسن الثاني، هو من كان قد نبهه إلى تغيير مسار زيارة كان يقوم بها إلى منطقة الأطلس المتوسط في ماي 1971. وتحدث ضباط ممن تورطوا في حادث الصخيرات أن مدير المدرسة العسكرية في هرمومو، الكولونيل محمد اعبابو، طلب منهم المشاركة في مناورة عسكرية هناك، كانت ستجرى بالذخيرة الحية، لكن توجيههم إلى هناك أرجئ في اللحظة الأخيرة، مما يعني أن الجنرال كان قد اختار توقيت تنفيذ العملية كي تتزامن مع احتفالات الحسن الثاني بذكرى عيد ميلاده الثاني والأربعين. في الرابع من غشت 1971، سيختار الملك الحسن الثاني جنرالا آخر لتولي وزارة البريد، لم يكن سوى الجنرال إدريس بن عمر العلمي، الذي عرف بخوضه غمار معارك حرب الرمال في خريف 1968. كان قرار التعيين في حد ذاته مؤشرا على أن المؤسسة العسكرية ليست بالصورة التي انطبعت في الأذهان، إثر المحاولة الانقلابية في الصخيرات، والظاهر أن الحسن الثاني اختار البريد، عبر إيحاءاته الرمزية، حيث كان يشغله جنرال آخر أردي في قصر الصخيرات. أبعد من الطابع الرمزي لذلك التعيين أن الخصاص الحاصل في ميدان الاتصال ألقى بظلاله على تلك الأحداث، وبات يطرح المزيد من الأسئلة، إذ كيف يمكن لقوافل عسكرية أن تتحرك من ثكنة هرمومو شمال مدينة فاس، وتقطع مئات الكيلومترات، دون أن يتم الإخبار بذلك. ولعل أبرز الخلاصات تمثلت في توسيع صلاحيات العمال، خاصة أن عامل مدينة طنجة، الضابط حسني بن سليمان، كان وراء مبادرة الإعلان عن بقاء الملك الحسن الثاني على قيد الحياة، حيث أمر إذاعة طنجة ببث ذلك الخبر والأناشيد الوطنية، في انتظار فرض السيطرة على المتمردين. ويبدو أن تعيين الجنرال بن عمر في قطاع البريد كان جزءا من إجراءات احترازية همت السيطرة على قطاع المواصلات السلكية واللاسلكية، غير أنه بالرغم من وجود جنرالين في حكومة واحدة، إدريس بنعمر في البريد، ومحمد أوفقير في الدفاع، فإن هذا الأخير استطاع أن ينفذ الشطر الثاني من مخططه، الذي كان قد بدأ في التفكير به مباشرة بعد اندحار آخر فلول المتورطين في حادث الصخيرات. سيكون من مضاعفات تلك الوقائع أن خطا أحمر وضع حول وزارة الدفاع، التي تحولت إلى إدارة يشغلها مدنيون. وكما أن اسم أوفقير كان يجلب المتاعب على حامليه في تلك المرحلة، فإن اسم المذبوح بدوره لم يعد يتردد إلا في حالات نادرة، وثمة من يذهب إلى أن بعض الأشخاص غيروا من هوياتهم للابتعاد عما علق بتلك الأسماء من مؤاخذات. ربما لم يحظ جنرال بمثل العطف والصداقة التي جمعته مع الملك الحسن الثاني كما كان وضع الجنرال المذبوح. وقد عبر الحسن الثاني عن ذلك يوما حين قال إنه لم يعد يثق حتى في وسادته. وفي حكايات متداولة، فإن أكثر المخاطر تأتي من أقرب المقربين، لكنه غدر التاريخ يفرض قوانينه وشروطه في غفلة عن العيون. المساء