كان الحسن الثاني يثق ثقة كبيرة في مجموعة من جنرالاته، الذين كانوا على رأس العديد من الأجهزة العسكرية والأمنية، بل كان يسمح لقلة منهم بزيارته في مخدع نومه دليلا على الثقة الكبيرة التي كان يضعها فيهم، وجمعته بأغلبهم علاقات أسرية حيث كان أبناؤهم وزوجاتهم يدخلون القصر الملكي بشكل اعتيادي، لكن ما لم يكن يدور بخلد الحسن الثاني هو أن يتحول بعض هؤلاء الجنرالات إلى أشد أعدائه، بل يتجاوزون ذلك إلى محاولة تصفيته جسديا. في هذه السلسلة نحاول أن نرصد مسار أهم هؤلاء الجنرالات وعلاقتهم بالأحداث التي غيرت وجه المغرب السياسي في العقود القليلة الماضية. من ورطة لأخرى، سيبحث الجنرال محمد المذبوح، عن وسيلة تقيه ضربات الشمس الحارقة. لا بأس إذن أن يصارح الملك الحسن الثاني بأن بيته من زجاج، وأن في إمكان أي جهة أمنية أن تدخله من دون استئذان، إن لم يكن عبر توالي الزيارات، فمن خلال التنصت على الهاتف الذي تستعمله نجلته في اتصالاتها الداخلية والخارجية. كان الحسن الثاني يرى في العقيد أحمد الدليمي الرجل المناسب للقيام بأي مهمة أمنية تدفعه إلى الواجهة، فهو لم يكن على وئام مع الجنرال محمد أوفقير وزير الداخلية، وقد جاء تعيينه في منصب المدير العام الوطني خارج رغبة أوفقير، غير أنه لا بأس من أن تبدأ مرحلة الفراق بين الرجلين الشريكين في قضية المعارض المهدي بن بركة. فكل منهما ظل يتهم الآخر، وفيما استطاع الدليمي أن ينتزع براءته من محكمة الجنايات الفرنسية في ظروف يكتنفها المزيد من الفوضى، بقي الجنرال أوفقير يئن تحت الحكم الذي صدر ضده بالسجن المؤبد. سيقول الجنرال أوفقير لأحد مساعديه يوما إن ما يحزنه في ذلك الحكم ليس إدانته فقط، ولكن منعه من زيارة باريس التي كان له فيها أصدقاء ومعارف وحدث مرة أنه احتسى المزيد من كؤوس «الشامبانيا» ورفع كأسه قائلا: في صحة الأيام الجميلة، يوم كانت باريس مربط الخيل، لم يشأ رفيقه في الجلسة أن يعكر عليه الأجواء، لذلك فقد نهض من مكانه وأطل من نافذة كانت تتوسط الصالون الفخم في فيلا عند مخرج الرباط في اتجاه الدارالبيضاء. أدار كأسه على رنين الثلج الذي كان بصدد الذوبان، ثم التفت إلى أوفقير قائلا: - سيدي الجنرال، هذه «باريسنا» وليس أفضل من أن نضيء فيها الشموع في ذكرى عيد ميلادك القادم. غير أن ذلك الاحتفال لم يحدث. لكن فيلا الرباط التي كتب أحد على بابها: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. لم تعد تفتح أبوابها للزوار، فقد زحفت حولها بنايات بعد أن كانت وحيدة وسط مساحة خضراء، وإن كانت شجرة نخيل تتراءى عن بعد، تشير إلى أنه كانت هناك حياة ما مليئة بالأسرار تتخلل ذلك المكان الغامض الذي كان يتردد عليه الجنرال محمد الشرقاوي والجنرال محمد أوفقير، ورجل غامض اسمه الغالي الماحي لقي حتفه يوما في حادثة سير على الطريق بين القنيطرةوالرباط. سيفهم المذبوح من خلال إشارات قوية صدرت عن الحسن الثاني أن لا مكان لرجالات الجيش في الاهتمام بقضايا السياسة، إلا في ما ندر من الحالات التي كانت تجسدها وضعية الجنرال أوفقير دون سواه في تلك الفترة.ومع أن الأخير عسكري مثل المذبوح، فإن تمرسه في وزارة الداخلية وقبلها في الإدارة العامة للأمن الوطني أفسح أمامه المجال للانشغال بالسياسة وفق مفهوم محدد ومطاط، إنه محدد في الانتقاص من دور أحزاب الحركة الوطنية التي كانت خرجت من معركة الاستقلال ذات نفوذ قوي، ومطاط في تمكينه أن يصنع مدرسته لنفسه جعلت الداخلية تصبح على عهده وما بعده أم الوزارات التي تتدخل في كل شيء، وتتمدد طولا وعرضا في كل اتجاه. يتذكر المستشار أحمد رضا غديرة في كتابات غير منشورة، أنه حين كان وزيرا للداخلية قبل الجنرال أوفقير، كان يريد لذلك التمدد أن يكون بأدوات سياسية، ما دفعه إلى تأسيس «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية»، بل إنه ظل يحذر بطريقته من سيطرة أصحاب القبعات على المشهد السياسي، وقد كشف يوما لأحد مقربيه أن الجنرال أوفقير بدوره كان يتوق لتأسيس حزب سياسي. ويستدل على ذلك بأنه جمع مرة بعض الأعيان في بيته، وأقام لهم وليمة، وطلب إليهم أن يتحدثوا في أمور سياسية ظل ينصت إليها بإمعان، لكنه أخطأ الطريق مرة حين أعلنت وزارة الداخلية أن أول فائز في الانتخابات في قرية صغيرة، لم يكن غير أحد أقارب الجنرال الذي سيعود جثمانه محمولا في سيارة عسكرية ليدفن هناك، بعيدا عن أجواء المآثم في بلدته «عين الشعير». كما أن أوفقير لم تسعفه طموحاته الهوجاء في أن يصبح رجل سياسة، فإن الجنرال المذبوح بدوره كان يرغب في أن يضع تحت سيطرته كل الأجهزة الأمنية، ولعل تجربته على رأس وزارة البريد خلال أعوام ما بين 1958 و1960، قبل أن يصبح للبلاد أجهزتها الأمنية، بما في ذلك تلك التي كانت تطلق يدها من دون رقيب، جعلته أكثر حذرا وهو يفتح بيته أمام العيون المبثوثة في كل اتجاه، وإن كان غاب عن العقيد الدليمي أن هناك خلفيات ومناطق ظل حجبتها تلك العملية، فقد كان ينظر في اتجاه آخر. وحين أسند إليه الملك الراحل الحسن الثاني مهمة رصد الموقف، كان يفعل ذلك بأقل اهتمام ممكن، وإلا لكان دفع الجنرال أوفقير للدخول على الخط. كان الملك يوزع المهمات على قدر أهميتها، ويبدو أنه فاته هذه المرة أن المهمة أكبر من قضية عائلية. كما فاته إدراك أن بعض اللقاءات التي كانت تجمع عسكريين برواتب مختلفة في الرباط أو مكناس أو فاس، لم تكن من أجل قضاء سهرات وتزجية الوقت. فقد كان المذبوح بما عرف عنه من تكتم يبحث عن شركاء محتملين تجمعهم نفس النظرة حيال مستقبل النظام، ليجد أخيرا في العقيد محمد اعبابو الرجل الملائم القابل لفعل أي شيء، هنا والآن. ثلاثة عسكريين، جنرالان وعقيد سيلتقون ويتصارعون على حافة قضايا متداخلة، غير أن الرقعة التي كانت تضيق لتسع أوفقير والدليمي في مكان واحد، سيمتد نفوذها ليطال الجنرالين المذبوح وأوفقير، وكما في لعبة الروليت الروسية، فإن الشاطر من يضغط على الزناد ولا تصيب الرصاصة رأسه، وفيما كان المذبوح يدير آخر فصول العملية الانقلابية في الصخيرات، كان الرجل الذي اختاره لتنفيذها حذرا إلى درجة الارتياب في نفسه، لذلك لم يتمالك أن يصدر أمرا بتصفية المذبوح حين لاح له أن مقايضة ما تجرى دون علمه. والحال أن العقيد الدليمي وقد اقترب منه الموت المحقق بعد زوال ذلك اليوم، سيظل بدوره يقتنص اللحظة للإيقاع برئيسه السابق محمد أوفقير، فيما سيأتي زمن آخر يسقط فيه الدليمي بعد أن بسط نفوذه على الجيش والمخابرات صريع حادثة سير، قال بيان رسمي إن شاحنة صدمت سيارته عند مدخل النخيل في مراكش. هي الطبيعة تكتب التاريخ بمداد آخر، ومثل شجرة النخيل الواقعة أمام فيلا المدخل الجنوبي للعاصمة الرباط، ستكون أشجار نخيل في قصر الصخيرات شاهدة بدورها على زيغ الرصاص الذي أطاح بالجنرال المذبوح، ثم لاحقا بالجنرال أوفقير بعد مرور عام وبضعة أسابيع على موت المذبوح. ما بين حشرجة الموت ونبض شرايين الحياة، سيصارع الرجال الثلاثة من مواقع مختلفة، وفي كل مرة يغفل فيها الواحد منهم يزداد نفوذ الآخرين. سيدرك أوفقير أن موقعه في وزارة الداخلية لا يكفل تحقيق كل الطموحات، وهكذا، وبعد أن اطمأن الجنرال إلى سيادة القناعة بأن المذبوح كان وحده الرأس المدبر. أصبح أوفقير معنيا في غضون ذلك بحض الملك على قلب الصفحة من دون التمعن في قراءتها، فالصدمة كبيرة، ومنطق الملك في تجريب النسيان سيجد صداه في الانصراف إلى ترتيب البيت الداخلي. في مطلع غشت من الصيف ذاته صدر ظهير شريف بتعيين حكومة جديدة عهد فيها بمنصب الوزير الأول إلى محمد كريم العمراني، فيما تولى الحاج محمد باحنيني وزارة العدل والأمانة العامة للحكومة، وأسندت وزارة الدفاع للجنرال محمد أوفقير الذي عين في الوقت نفسه «ماجورا عاما» للقوات المسلحة الملكية، قبل أن يلغي ذلك المنصب نهائيا في الحكومات المتعاقبة. كان الأمر أشبه بحبة أسبرين لمعالجة الجراح النازفة، وجاء استقطاب بعض الأشخاص الذين كانوا محسوبين على المعارضة أو الاتحاد المغربي للشغل وسيلة لتطعيم الجهاز التنفيذي بدماء «ذات شعبية» غير أنه في الوقت الذي سيكون فيه الحسن الثاني بصدد تجريب وصفة المشاورات مع المعارضة، سيكون أوفقير سبقه لذلك بطرق ملتوية، ليس أقلها السعي لتحسين سجله في البطش بالمعارضين.