شخصيات خريجة المؤسسة العسكرية تمرّدت على الحسن الثاني في عزّ سنوات الرصاص، حمّالة أوجه بعقليتها التي كانت مثار جدل دائم، لا تنكسر ولا تلين حتى الرمق الأخير، انتصاراً أو انكساراً، لا فرق، المهم حتى الرمق الأخير. تولّى أقربون كما أبعدُون تزيين وصولهم إلى السلطة، أتت باسم الحل وخلطت الأوراق لدى الكل؛ لكنها شخص في شخصيات كثيرة، لم يَسعها القبول بالواقع لأنها لا تَرْعَوي عن المُنازلة ولا ترتوي من الدماء في المعركة، إلا أنها أدت في النهاية ثمن طموحها الزائد، ورغم ذلك استمرت تردداتها إلى حدود اليوم. نُبحر بالقراء الكِرام في هذه الفُسْحَة الرمضانية ضمن سلسلة بورتريهات حول شخصيات عسكرية انقلابية كادت أن تغيّر مجرى التاريخ. -3- رجل الغموض والتكهنات والتوقعات. منذ أن دخل المشهد المغربي، وهو رجل الملفات السرية والدموية المغرقة بالقسوة والعنف. شخصية مثيرة للجدل، لديه هوس بحب السيطرة والتحكم وتوزيع الأوامر، تتميز شخصيته بالفوقية والقسوة وحب التسلط. كان يعتبر من أقوى الشخصيات العسكرية المحيطة بالحسن الثاني، والحائزة على ثقته واليد الضاربة له ضد التمردات الداخلية. نبض ثورة "آل الفقير" كان أكثر فظاظة وقسوة، لكنه أجاد فن الإرضاء والمسايرة، طبيعته حذرة، لكن تنتابه نوبات غضب بين الفينة والأخرى، منغلق على نفسه، متقلب المزاج، سريع البديهة، غامض للغاية ومفرط الحياء. كان يخون زوجته مرارا، ما دفعها إلى طلب الطلاق، ليعود ويتزوجها مرة أخرى، أحب السهرات الليلية وهوى الأغاني العاطفية، ولم يكن كثير التدقيق في الأطعمة التي يتناولها. إنه الجنرال محمد أوفقير، الرجل الصحراوي الذي يتحدر من قرية "عين شعير" الواقعة في جهة درعة تافيلالت، الذي تحوّل إلى ضابط مخضرم محنّك ومتمرس. اشتهرت عائلته باسم "آل الفقير"، لأنها كانت ملاذا للفقراء في فترة تاريخية معينة، حيث كانت تعطف على الفقراء والمحتاجين في المناطق الصحراوية القاحلة. توفي أبوه، أحمد أوفقير، حينما بلغ السادسة من عمره، الذي كان زعيما للقبيلة وباشا لمنطقة بوذنيب. درس في إعدادية أزرو، ليلتحق بعدها بالمدرسة العسكرية في مكناس وفاءً للتقليد العائلي، حيث تخرج منها برتبة ملازم أول، وهو الذي لم يتجاوز عمره ال21، ثم انخرط بعدها في جيش الاحتياط الفرنسي. جُرح في إيطاليا، ليُنقل مباشرة إلى فرنسا للاستشفاء، قبل أن يُرقى إلى رتبة "كابتن" خلال الحرب الهند-الصينية، كما نال وسام جوقة الشرف في ميادين القتال، إلى جانب نيله لصليب الحرب ووسام النجم الفضي الأمريكي والقلادة الاستعمارية، وكذلك وسام "فرسان مالطا" ووسام الاستحقاق الأمريكي الشريفي المغربي وأوسمة أخرى، فضلا عن تعيينه "جنرال دوفال" قائد للقوات الفرنسية بالمغرب. يرفع دائما درجة حرارة التوقعات والملفات الداخلية في المغرب، يقطع ويوصل علاقاته مع الحلفاء والخصوم بناء على مزاجه المتقلب مثل عقرب ساعة. احتل بلا منازع قمة الضبابية العسكرية، وأصبح ملكا متوجا عليها، وتأرجحت مواقفه بين الاقتراب إلى حد التحالف والابتعاد إلى أقصى درجات العداء، وهو ما يفسر دوافع الانقلاب العسكري المفاجئ؛ إذ لم يدر بخلد الحسن الثاني أن ينقلب عليه ساعده الأيمن أبداً. سر صندوق المغرب الأسود كان الجنرال يتبع نمطا قاسيا في العيش منذ صغره، ما جعله منشغلا بمستقبله المهني على حساب حياته الشخصية، لا سيما بعد زواجه من فاطمة الشنّا سنة 1952، إذ تروي أنه كان يعود إلى المنزل في ساعات متأخرة من الليل طوال حياته. هكذا، إذن، ترك العقيد الجيش الفرنسي سنة 1955، تارك وراءه إرثا مجيدا دام 17 سنة من الخدمة العسكرية. أصبح أوفقير مرافقا عسكريا للسلطان محمد الخامس، حيث أنشأ مكتب المرافقين العسكريين، وشكّل الحرس الملكي من ضباط مغاربة سبق أن خدموا في الجيش الفرنسي؛ ما يفسر العلاقات الوطيدة التي جمعته بالعائلة الملكية، لأنه تمكن من كسب ثقة محمد الخامس، ليُعين بعدها مدير للأمن بعد الاستقلال، وهو الضابط الأنوف الذي أسندت له مهمة توطيد الأمن ومحاربة ما سُمي ب "الشغب". حصل أوفقير على سلطة أكثر نفوذا في عهد الحسن الثاني أكثر من تلك التي حظي بها في عهد محمد الخامس، ليتم ترقيته إلى رتبة جنرال، حيث أعاد هيكلة المخابرات السرية، ليُعين بعدها وزيرا للداخلية. تبعا لذلك، كان التقلب المتكرر لشخصيته علنيا على الأقل جعل من الصعب رسم بورتريه دقيق لشخصيته آنذاك، لأن اكتمال الشخصية واتضاح معالمها النهائية يحتاج إلى انتظار النسخة الجديدة من الرجل. اعتبر في تلك الفترة من أكثر الجنرالات وحشية في المغرب، وهو يُصنف من حيث الوحشية في قائمة الأطر العسكرية الذين تدفعهم ساديتهم إلى ممارسة التعذيب بأيديهم مباشرة؛ بل إنه ابتكر وسائل تعذيب لم تستعمل من قبل في مراكز اعتقال أخرى، وحينما اندلعت التمردات الداخلية دخل اسمه بقوة إلى قائمة الأكثر بطشا ودموية لأي صوت معارض. مرارة فقدان "إخوة السلاح" حليف الأمس يمكن أن يكون ألد خصوم اليوم، والعكس معه صحيح، إذ لطالما كان مدافعا شديدا عن الملكية، وهو ما دفعه إلى تعذيب المعارضين بشكل شرس، لكنه عاد لينتقد النظام القائم آنذاك بكثرة، لا سيما بعد المأساة الشكسبيرية التي وقعت في الصخيرات، حيث فقد "إخوة السلاح" على تعبير زوجته، في كتابها الشهير المعنون ب "حدائق الملك". وتمضي فاطمة أوفقير مسترسلة، في سرد دوافع حالته النفسية المتوترة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة سنة 1971، "لقد درس مع بعضهم (الضباط المعدمون أمامه) في إعدادية أزرو، ومن تخرج معهم في الأكاديمية العسكرية لمكناس، ومن ساهموا معه في الحرب الهند الصينية.. شهد تعذيب رفاقه وإعدامهم". كان الانقلاب، بذلك، نقطة الفصل بينه والحسن الثاني؛ وهي النقطة التي سلّط عليها الصحافي الفرنسي جيل بيرو الضوء، في كتابه "صديقنا الملك"، بالقول إنه "كان ضالا لفترة من الوقت، فعاد واهتدى إلى الحقيقة". وما زالت صرخة الجنرال بوغرين، رفيق طفولته، ترن في أذنيه بعد تنفيذ مجزرة الإعدام، "أنا أعلم أنك شريك لنا في الفكر"، يورد الصحافي بيرو، مشددا على أنه "عذّب كثيرا وقتل كثيرا، لكنه تعب من دوره جزارا في خدمة النظام، حيث بقيت الإعدامات العشرة التي تمت في معسكر مولاي إسماعيل عالقة في ذاكرته غير قابلة للنسيان". ولمعرفة المزيد من تفاصيل حالته النفسية بعد إعدام رفاقه، تقربنا ابنته مليكة أوفقير من شخصيته، في كتابها الشهير "السجينة"، "بعد إعدامهم عاد أوفقير إلى المنزل بوجه شاحب وعينين حمراوين وتقاطيع متشنّجة، بدا متهجما ومنكسرا، لم تعد البسمة تعرف طريقها إلى وجهه، كان لا يزال حزينا على طريقة الموت المفجعة لأصدقائه.. بكى طويلا وحزنا لفقدان أصدقائه، لأنه لم ينجح في إقناع الملك بمحاكمتهم طبقا للقانون". حيثيات انقلاب لم يكتمل بخصوص شخصيته العسكرية الفذة التي لا تقبل الإهانة، تتحدث زوجته فاطمة، التي أنجب معها ستة أبناء، عن حيثيات الانقلاب الفاشل الذي قاده كل من الجنرال المذبوح والكولونيل اعبابو، معتبرة أنه خجل لاضطراره إلى الاختباء خلال ساعات في مغاسل القصر، مرتديا سروال بحر قصير، مؤكدة أنه كان يردد عبارة "إذا وجب أن أموت فلأمت على الأقل في موقف مشرف لا عاريا إلا من سروال". بعد محاولة الانقلاب الأولى، التي هزّت علاقة القصر الملكي بالنظام العسكري لأول مرة، نودي على الجنرال أوفقير ليتولى مهمة وزير الدفاع، ففي كل مرة تنفتح ثغرة في النظام يتم اللجوء إليه. في هذا الصدد، يقول الصحافي الفرنسي بيرو: "كان يؤمن بالنظام، لكنه فقد إيمانه به كليا"، لأن كل شيء كان يتغير من أجل ألا يتغير أي شيء في نهاية المطاف. إلى ذلك، قاد الجنرال أوفقير محاولة الانقلاب الثانية سنة 1972، حيث خطط للهجوم على الطائرة الملكية "بوينغ 727" القادمة من باريس، ليتم مطاردتها في الجو من قبل سرب من طائرات سلاح الجو المغربي F5، تحت قيادة الكولونيل أمقران، بغية إجبارها على الهبوط في القنيطرة، حيث كان ينتظرها الجنرال رفقة أركان الحرب المتمردين، لكن الطيار توجه بأقصى سرعة صوب مطار الرباط-سلا، ما دفعهم إلى إطلاق رصاص الرشاشات على الطائرة، لكن حنكة الطيّار القباج أنقذت الحسن الثاني من خطر موت محقق. فشل المحاولة سيدفع العقيد أمقران إلى إعطاء أوامر طارئة للطيارين بوخالف وزياد، من أجل تنفيذ ضربات جوية استهدفت الموكب الملكي، الذي كان خاليا من الملك الراحل، بعدما علم أن الضباط الانقلابيين سيعاودون الكرّة من جديد، حيث سلك طريقا آخر صوب قصر الصخيرات، مستعينا بسيارة أحد المدنيين التي استوقفها في الطريق. نهاية أوفقير ستكون مأساوية بعد إجهاض الانقلاب، حيث توجه صوب القصر الملكي نحو منتصف الليل، وفق ما ترويه زوجته، ليواجه خصومه ب "كبرياء" و"جرأة"، إذ وجد العقيد الدليمي، الذي تولى وزارة الداخلية في وقت لاحق، ثم عبد الحفيظ العلوي، الحاجب الملكي، ليتم رميه بخمس رصاصات على جسده. وقالت: "لقد أطلقوا عليه الرصاصة الأولى في الكبد، الثانية في الرئتين، الثالثة في البطن، الرابعة في الظهر، الخامسة في العنق، وهي الضربة القاضية". في المقابل، يؤكد الصحافي الفرنسي جيل بيرو أن الجنرال أوفقير قد انتحر بنفسه حينما حضر للقصر الملكي، حيث نقل في كتابه ما أسماه بالعبارة الأخيرة التي تفوه بها الجنرال، وهي "أعرف ما ينتظرني"، ليخرج بعدها المسدس ويطلق على نفسه ثلاث رصاصات.