كانت لحظة جميلة ساعة توصلي بإنجاز كتاب توثيقي (كلمات تقديم ، الجزء الخامس ) أحسنت جمع موضوعاته وتقديمها باقتدار وحسن أداء، الأستاذة حميدة الصايغ الجراري ، فالعمل بهذا الحرص على التوثيق لما حبَّره قلم أستاذنا الفاضل الدكتور عباس الجراري يؤكد ما للتوثيق من قيمة علمية وتاريخية في الحفاظ على نصوص ثمينة تغني الساحة الأدبية في مختلف الفترات التي عُنِيتْ بها . ولا شك في أن كلمات التقديم التي دبَّجها قلم الأستاذ الدكتورعباس الجراري لمؤلفات طلابه ومريديه وأصدقائه لها دلالات وأبعاد عديدة منها تشجيع المؤلفين على البحث والدرس ،التهمم بالدرس الأدبي المغربي خاصة فصيحه ومعربه ،العناية بكتابات المغاربة المنتمين إلى أصقاع مغربية عديدة ، شمالا وجنوبا شرقا وغربا ،ينظر في كل مؤلف نظرة فاحصة مفيدة تزينه ،وإن تعددت الموضوعات وتنوعت الأجناس واختلفت المناسبات ، كل ذلك بما عهد فيه من حسن تقدير لكل من قصده والتجأ إليه طالبا كلمة تقديمية لمؤلفه أو لديوانه ،فكان نعم الأستاذ المربي ونعم الموجه لأجيال من الوافدين طلابا أو غيرهم . إن الجهود التي يبذلها الأستاذ الجراري في هذا الباب لمن مكارمه في رحاب الجامعة المغربية ومن أفضاله على الباحثين ، فهو لا يكتفي بالتقديم العام ولكن يبعث فينا كقراء روح المتابعة وإذكاء روح التنافس كي تنتعش الدراسات الأدبية برؤية جِهْبِذ لا يشق له غبار،يَمُجُّ سواد قلمه في بياض ما يمهِّد للخطو بالعمل الذي يقدمه مدارج الارتقاء به دون كلل أو ملل ، بحذق لافت وذكاء وقاد ، ولغة مشرقة البهاء، ومنهج لا يعلى عليه دقة وإحكاما ، إضافة كما ذكر الباحث محمد اليملاحي "إلى ما للسلطة العلمية " من أدوار في تزكية الكتاب وصاحبه والتشوق إلى قراءته والاستفادة منه ، فكيف إذا كان هذا التقديم بقلم خبير متضلع في بحور علم لا يحسن الغوص فيها غيره بأناة وروية وحسن استيعاب . لقد أدركت الأستاذة حميدة بمؤهلاتها العلمية والخلقية والإنسانية ومتابعاتها اليومية اليقظة لكتابات الأستاذ ومحاضراته وندواته ما "لكلمات تقديم" من قيمة مضافة للعمل المنجز ،فهي بحق تجدد نشاط الباحث وتنعشه وتوجهه نحو الأفضل في كتاباته النثرية أو الشعرية على السواء ، فلجهدها المشكور في "جمع كلمات تقديم" تحفيز للقراء والباحثين على النبش فيما خفي من الأبحاث عنهم للاطلاع عليه والاستفادة منه،ومن خلالها أي كلمات التقديم ننجح في كسب قراء لم تتح لهم الفرصة لمعرفة الكتاب الذي حظي بالتقديم، ولعلي واحدة من هؤلاء، إذ لم يسبق لي أن علمت بأن للدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري ديوانا عنوانه: " نبض الفؤاد " الموجود قيد الطبع ، ففي هذا التقديم تحفيز لي للمتابعة والحرص على قراءة الديوان فور صدوره بإذن الله ، يقول الدكتور عباس الجراري :" ...تكاد القصائد والمقطوعات التي بين أيدينا أن يكون نصف عددها من حيث المضمون تصويرا لمكابدة قلبية مع فتون الهوى والحب ، وتعشّق السحر والجمال وتحمل آثار الأشواق ، ولعل ذلك ما جعله يتخير لديوانه عنوانا دالا هو: نبض الفؤاد " ( كلمات تقديم ، ج5 /125) ، وكذلك الأمر بالنسبة لتقديم كتاب " مكونات تقديم الشعر لدى المغاربة ( نماذج على العهدين المريني والسعدي) للدكتور عبد الله حاتم ،وهو عمل يشغلني موضوعه للاطلاع عليه فور صدوره ، فلكلمة التقديم فوائد دالة على " أهمية الشروح الأدبية والشعرية في التآليف لا تخفى ، ....إنها تعكس مكانة الشراح وما لهم من قدرات على الغوص في أعماق النصوص التي يشرحونها ، تفسيرا وتحليلا وتأويلا ، وفق ما يتأملون من قضايا وما يتخيرون لها من مناهج وآليات ..." كلمات تقديم ج5 / 151 ، كما أن هذا الكتاب التوثيقي أطلعني على جهود الأستاذ عبد الحق المريني في إعداد وتصدير ديوان شعري عنوانه " المحمديات : قصائد في مدح صاحب الجلالة الملك محمد السادس 1999 2015 " ،وصدر ضمن منشورات المطبعة الملكية 2016 ، وكانت كلمة تقديم الأستاذ عباس الجراري الكوّة التي أطللتُ منها على هذا الديوان الذي " وفّق الأستاذ المريني في انتقاء زهرات هذه الباقة المحمدية بما له من خبرة معرفية وذوقية في إعداد مجموعات شعرية سبق نشرها " كلمات تقديم 5 / 170 . إنها أي كلمات تقديم تحلق بنا في عوالم متعددة من الأبحاث والموضوعات التي قد لا يكون لنا بها علم فور صدورها ، لذلك فهي تساعدنا على التعرف إلى هذه الأبحاث بحيوية ونشاط للاستفادة أولا وقبل كل شيء . كتب الأستاذ محمد اليملاحي " لكلمات تقديم في جزئها الخامس" تصديرا عنوانه : "خطاب الهوية والأخلاق "،والأصل فيه عرض ألقي بالنادي الجراري يوم 23 أكتوبر 2015 ، ضمن أنشطة النادي الأسبوعية والمثمرة ، والمخصصة لقراءة ومناقشة إصدارات يتمّ توزيعها على أعضاء النادي هدية تشجيعا لرواده من الباحثين على القراءة والمناقشة وإسهاما في تنشيط الحياة الأدبية وإخراجها من النفق ورغبة في تأسيس عرف دأب عليه راعي النادي الأستاذ عباس الجراري ورئيسه منذ سنوات يهتم بالتعريف بالمؤلفات الأدبية المغربية أو بالدواوين الشعرية التي يتمّ توزيعها إثر إصدارها على رواد النادي ، خاصة ونحن نفتقد إلى مثل هذه الجلسات عبر قنواتنا التلفزية أو عبرإعلامنا في مختلف نوافذه ، وكما يذكر رئيس النادي :" فقلة اهتمام الجهات المعنية فيما يتعلق بالكتاب يجعله حبيسا دار نشره،أو منزل مؤلفه ، أو مكتبات محدودة ، وقد لا يغادر المدينة التي تمّ فيها طبعه ،وهو وضع يزيد فيه إعراض وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة، وكذا الأندية والجمعيات الثقافية إلا في النادر عن عرض الكتب وتقديم قراءات تعرف بها ،وتشيع الفائدة منها ،وتفسح لها مجال النقد " ( كلمات تقديم ج3 / 46 ) . كان هذا التصدير منفذا للحديث عن دور مقدمات الكتب في تحريك الساكن بالالتفات إليها ، ومنها كتاب الأستاذة حميدة الصايغ الجراري التي نهجت بهذا العمل طريقا جديدا لم يُتعَّوَد عليه اليوم في الإنتاجات المغربية ، وأعتقد أن لها السبق في الميدان حسب علمي ،وكانت عناصر هذا التصدير تتمثل في منظورين : الأول : " تقديمات تصل بالكتب التي قدمت لها ،... كتأطير المقدمة أي التقديم ضمن حقبة خاصة وبيان قيمتها المعرفية والمنهجية والمآخذ المسجلة عليها ... وبذلك تظل كل مقدمة مشدودة بالمتن الذي قدمت له ولا تجاوزه إلى غيره " ص 11 ، الثاني :" تقديم يفصل تلك المقدمات عن متونها ويعيد وصلها ببعضها البعض ، لتصبح نصا مستقلا عن تلك المتون تحكمه رؤية جديدة " ص 12 . ومن ثم يظهر أن " نشر التقديمات في كتب مستقلة يضعها في سياق جديد... ويعطيها حياة جديدة " ص 12 ، وكما أشرت سابقا فإن المعنيّ بهذا التقديم هو القارئ كي يقبل على قراءة الكتاب خاصة إذا كان صاحب التقديم ذا مكانة علمية رفيعة وصاحب دراية وكفاءة ،لذا يقوم التقديم بالنسبة لهذه الكلمات بوظيفته العلمية المتميزة خاصة إذا كان صاحبه هوالأستاذ الجراري . وفي فقرات لاحقة يقدم الباحث صاحب التصدير معلومات وافية تطبيقية باعتبارها شهادات على ما سبقت الإشارة إليه ، ويحلق بنا الباحث في فضاء بناء التقديم ، بدءا بإضاءات عامة حول الموضوع وانتهاء بالتعريف بالكتاب وبيان قيمته والدعاء لصاحبه ،مع التمثيل لذلك بأقوال الأستاذ المنتقاة من التقديم ،وينبه صاحب التصدير إلى أن " نواة هذه التقديمات في كتابات الأستاذ الجراري هي الهوية المغربية بكافة أبعادها " ص 19 ، ويمثل لذلك بتحقيق النصوص المغربية وبدور اللغة العربية في تحقيق الهوية المغربية . أما البعد الأخلاقي في هذه التقديمات فمن مظاهره " التسامح في تعامله مع الكتاب والتأدب في ضمن قواعد التواصل الاجتماعي " ، كما أنها أي التقديمات تتميز "بوضوح الرؤية وتربية الفائدة بمعنى نمائها كما عند السكاكي " ، والخلاصة أن الأستاذ اليملاحي فصّل القول في ما قد لا ينتبه إليه أيّ متصفح أوقارئ ل " كلمات تقديم " باعتبارها " متنا منسجما بالرغم من طابعها الجزئي المتنوع ... ويعود ذلك إلى وحدة الرؤية التي تتحكم في إنتاج التقديم معنى ومبنى " ص 27 . بهذه القراءة المستوعبة الواضحة ، المفسرة للأسباب التي دعت الأستاذة حميدة إلى جمع وتقديم " كلمات تقديم " الأستاذ عباس الجراري للعديد من المؤلفات والكتب سواء كانت أطاريح جامعية كتقديم كتاب "هذه مذكراتي " للعلامة عبد الله الجراري وأنجزه الأستاذ الدكتور مصطفى الجوهري، أو غيرها كتقديم متون مختلفة كما ونوعا كتقديم كتاب " تكريم الشاعر علي الصقلي " أو تقديم ديوان شعري "كديوان السلطان مولاي مولاي عبد الحفيظ "، أو ديوان الشاعرة سميرة فرجي " رسائل النار والماء" إلى غير ذلك ، تكون أي الأستاذة حميدة قد فتحت بابا جديدا للدراسة والبحث على الطلاب والباحثين ولوجه باطمئنان ، وأنارت درب البحث لمن يقف متعثرا أو متسائلا عما سيختاره موضوعا لرسالته الجامعية أو غيرها . ولا شك أيضا في أن الأستاذة حميدة الصايغ الجراري وهي تعمل على جمع هذه التقديمات وتقديمها للقراء بإعدادها مشكورة للطبع ، تتغيى تفتيح الأعين إلى ما لهذه التقديمات من قيمة علمية وأدبية ومنهجية في موضوعات مختلفة ، ومن أهمية تدعو إلى سبر أغوارها وتحليل مضامينها لتكون نواة لأبحاث جامعية كما سبقت الإشارة إلى ذلك وتؤسس لفضاء دراسات متنوعة لها أساليبها ومقوماتها في الدراسات الأدبية المغربية القديمة والحديثة، وفي كل ذلك إغناء للمكتبة المغربية في أكثر من مجال . ويظهر أن الاتجاه في هذا النوع من الكتابة (كلمات تقديم بأجزائها الخمسة ) يتغيّى الحفاظ على إنتاج توزّع في بطون مؤلفات عديدة قد لا يطّلع عليه أي على الإنتاج عموم القراء إن بقي حبيس تلكم المؤلفات التي تصدَّرها أو كُتب لتقديمها ،كما أنه يطلعنا كقراء على تعدد منافذ صاحبه المعرفية وقدراته على الغوص في موضوعات متنوعة بلغة قريبة المأخذ والتناول، وأسلوب جزل رائق يغري بالمتابعة في كل وقت ،وتقريب المادة أو موضوع الكتاب للعامة والخاصة على السواء . وأخيرا، لقد بذلت الأخت الفاضلة حميدة جهودا متميزة ومثمرة في الإعداد والجمع لهذه المقدمات الجرارية مؤكدة أن الهدف من ذلك ، لفت انتباه الطلاب والباحثين في الجامعات المغربية والراغبين في إنجاز رسائلهم الجامعية إلى التعامل مع هذا النوع من الكتابة كموضوع للبحث والدراسة مستقبلا،والإفادة من قيمتها أي كلمات تقديم وأبعادها الأدبية والتاريخية والأسلوبية ،بل ألحَّتِ الأستاذة على وجوب " العناية بهذا الصنف من الكتابة الأدبية ودراسته وتحليل نصوصه ، تقول :" التقديمات شكل أدبي ونوع من الإبداع لا يقلُّ عن البحث أو المقال أو الرسالة أو الخاطرة أو غيرها من شتى ألوان الإنتاج الفكري، وخاصة التقديمات التي يكتبها الأستاذ لما تتميز به من درس وتمحيص يجعلها أحيانا في مصاف البحث والدراسة " (كلمات تقديم ج1/ 10 ) " ، إنه تأمل يقظ في وجوب التعامل مع هذا النوع من الكتابة والدعوة إلى النظر في ألوانه وأنواعه وموضوعاته بعناية وتبصر وحسن تدبر . فتهنئة صادقة للأستاذة حميدة الصايغ الجراري على هذا الإنجاز الصادر ضمن منشورات النادي الجراري رقم 70 ، بإخراج فني بديع عن دارأبي رقراق للطباعة والنشر بالرباط ، 2016 .