في سياق الأنشطة الثقافية ذات الطابع التكريمي، والتي دأب على تنظيمها المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية، وكرسي الأدب المغربي، الذي يوجد مقره بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، المركب الجامعي أكدال، بمدينة فاس، وتحت إشراف مؤسس المركز الدكتور عبد الله بنصر العلوي، تم تنظيم حفل تكريم أحد أعلام الأدبية المغربية، وهو المحقق الدكتور أحمد العراقي، وذلك بتعاون مع جامعة سيدي محمد بن عبد الله، ومختبر التواصل الثقافي وجمالية النص بكلية الآداب ظهر المهراز، فاس، والمؤسسة العلمية الكتانية، والنادي الجرّاري، حيث احتضن مدرج كلية الطب بمدينة فاس فعاليات هذا الحفل التكريمي صباح يوم السبت 21 أبريل 2018، بحضور عدة شخصيات علمية وثقافية، من بينهم المشاركين في تأليف كتاب جماعي حول المسار العلمي للمكرّم الدكتور أحمد العراقي، وهو كتاب يرصد جوانب من العطاء الأكاديمي والنقدي للدكتور أحمد العراقي وإسهامه في الحياة الثقافية داخل المغرب وخارجه، الشيء الذي يدل على أن تكريم هذا العالم الجليل، لم يقتصر على كلمات الثناء والتعبير عن المحبة والشكر والامتنان لشخصه الكريم، والاعتراف بما بذله من جهد علمي أزيد من أربعة عقود، قضاها في الجامعة المغربية أستاذا ومشرفا على تكوين طلاب الجامعة، وإنما جاء التكريم في صورة عمية تليق بالمحتفى به؛ حيث أسهم بعض الباحثين من الأساتذة وطلاب المحتفى به، في إعداد دراسات نقدية حول منجزه الأكاديمي، وتسليط الضوء على جوانب من إبداعه البحثي فكراً ومنهجاً، إضافة إلى إهدائه بعض الدراسات، والأشعار والقصائد، فضلا عن كلمات وشهادات في حقه، وأدرع الوفاء وبطاقات الشكر ولوحات تشكيلية وإبداعية، تنم عن عمق التقدير الذي يكنّه الجميع لهذا الرجل العَلم. وقد تميز حفل التكريم بحضور معالي مستشار صاحب الجلالة، عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري، إلى جانب نائب عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الدكتور محمد أوراغ، والسيد رئيس المجلس البلدي لفاس السابق، الشاعر الدكتور أحمد مفدي، والسيد رئيس شعبة اللغة العربية بكلية الآداب بفاس، الدكتور عبد الرزاق صالحي، إلى جانب شخصيات أخرى ثقافية وعلمية وفنية، وقد عرف الحفل تقديم جلسة الوفاء ترأسها الدكتور محمد العلمي، لتسيير المداخلات وتنسيق الكلمات، التي ألقيت بهذه المناسبة، والتي تم اختتامها بكلمةٍ مؤثّرة وبليغة للمحتفى به الدكتور أحمد العراقي وهو الذي خبَر لغة القدماء في جمالها وبهائها، ففاضت كلماته ذوقا وشوقا، عبّر فيها عن محبته وعميق شكره للحضور وللفاعلين في مجال التحقيق والتوثيق على جميل اهتمامهم وتقديرهم، كما وجه عبارات الامتنان والعرفان للجامعة المغربية وللمركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية، في شخص مؤسسه الدكتور عبد الله بنصر العلوي، ورئيسه الحالي الدكتور عبد الوهاب الفيلالي، وكاتبه العام الدكتور خالد سقاط، وأيضا المسؤول عن التواصل الدكتور أحمد زكي كنون، إلى جانب عدد من الرموز الثقافية كالدكتور عباس الجراري والشاعر الدكتور محمد السرغيني الذي شارك بشهادة في حق المحتفى به، واعتذر عن الحضور لظروفه الصحية، وغيرهم من الأعلام المشاركين في هذا التكريم، الذي يعتبر الثالث من نوعه الذي أقامه المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية، حيث سبق له تكريم العلامة الدكتور عباس الجراري، ثم تكريم الدكتور عبد الله بنصر العلوي، فضلا عن تنظيم ندوات علمية ضمن فعاليات كرسي الأدب المغربي، والتي رصدت جهود الرواد في دراسة هذا الأدب، وكانت تلك الندوات بمثابة تكريم لهؤلاء الرموز الثقافية المغربية، ليأتي اليوم هذا الحفل التكريمي، والذي كان من ثمراته إصدار كتاب جماعي، أسهم في تأليفه جماعة من الباحثين والأساتذة، وحمل عنوان: التوثيق والسيرورة الأكاديمية: كتاب تكريمي احتفاء بالأستاذ الدكتور أحمد العراقي، وقد صدر بتنسيق الدكتور عبد الله بنصر العلوي، وطبع بمساهمة كريمة من معالي الدكتور مانع سعيد العتيبة، المستشار الخاص لصاحب السمو رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، وقد ضم بين دفتيه، أزيد من 570 صفحة من الحجم الكبير، اشتملت بعد التقديم على تسع شهادات، وأربع قصائد، وتسعة عشر دراسة في منجز الدكتور أحمد العراقي، وثماني دراسات مهداة للمحتفى به، ليشكل هذا الكتاب التكريمي مرجعا للباحثين والطلاب حول جوانب من الأدبية المغربية، وخاصة في مجال التحقيق والتوثيق الذي كرّس له المكرّم الدكتور أحمد العراقي جزءا كبيرا من حياته ووقته واهتمامه، فكان بحق رائدا في هذا المجال وأحد أعلام المغرب المعاصر. وقد ذكر الدكتور عباس الجراري في كلمته عن المكرّم بعض خصال الرجل قائلا: "وإنه ليكفيني في هذه الكلمة الوجيزة التي أكتب في حقه، احتفاء به وبأعماله، أن أشير إلى أنه بهذا الإنتاج غاص في جوانب كثيرة غامضة من فكرنا وأدبنا، تناول من خلالها قضايا عديدة كانت في أمس الحاجة إلى من ينفض الغبار عنها ويُعرّف بها، ويفحصها بالمنهج الملائم لها في التحليل والنقد، وكيف وهو قد ركّز في هذه الجوانب من بحوثه الأكاديمية على التحقيق الرصين لنصوص شعرية ونثرية، وعلى الترجمة الوافية لغير قليل من الأعلام، وعلى البحث الدقيق في آثارهم والاهتمام حتى بما يتصل منها بالتاريخ والأنساب"، وفي كلمة للدكتور أحمد زكي كنون منشورة ضمن الكتاب التكريمي، رصد أهم المحطات العلمية في مسار المحتفى به، فالمتتبع لمسار هذا البحاثة يلاحظ شغفه القوي بالمخطوط المغربي الغالب عليه الشعر، واهتمامه بالتأريخ لعائلات مغربية اشتهرت بعلمها أو بزهدها، وكمثال نستحضر كتابه: "وفيات الصقلي"، تقديم وتحقيق سنة 2001، و"مطلع الإشراق في نسب الشرفاء الواردين من العراق"، لعبد السلام القادري، تقديم وتحقيق سنة 2006، و"الدر النفيس فيمن بفاس من بني محمد بن نفيس"، للوليد العراقي، تقديم وتحقيق سنة 2008، وأيضا كتب في التأريخ لبعض الزوايا، مثل كتابه: "في رحاب الزاوية العبدلاوية بفاس"، سنة 2009، و"سيدي علي بوغالب في الوجدان الأدبي"، سنة 2011، وغير ذلك من الأعمال التي لها صلة بالفكر والتاريخ والدين.. غايته فتح آفاق أمام الدارسين وصيانة التراث المغربي، وإخراجه للوجود في حلة عصرية تيسر فهمه وتداوله والاستفادة منه. ولعل المحطة العلمية الأبرز في مسار شخصية المحتفى به، هي إعداده لأطروحتين جامعيتين تحت إشراف عالمين كبيرين، لهما اليد الطولى في إغناء البحث العلمي الأكاديمي بالجامعات المغربية؛ الأطروحة الأولى وهي دبلوم الدراسات العليا أشرف عليها الدكتور عباس الجراري، وعنوانها "النوافح الغالية في الأمداح السليمانية"، لحمدون بن الحاج السلمي المتوفي عام 1232 ه، وقد طبعتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية سنة 2000م، أما الأطروحة الثانية وهي دكتوراه الدولة كانت تحت إشراف الدكتور محمد السرغيني، وعنوانها "الديوان العام لحمدون بن الحاج السلمي.." تقديم وتحقيق، وقد طبعتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس، ضمن سلسلة "ذخائر التراث الأدبي المغربي" سنة 1995. أما الدكتور عبد الله بنصر العلوي فقد ذكر في كلمته بعض خصال المحتفى به، معبّرا عن ضرورة تكريم المبدعين في حياتهم، وأن يكون هذا التكريم لجميع من أدى وساهم بجهوده في إثراء الفكر والأدب والإبداع في مختلف المجالات"، وهي الأفكار التي تقاسمها الجميع واستحسنوا مبادرة المركز، وجدير بالذكر أن توقيت هذا التكريم قد تزامن مع اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف، وبذلك شكّل فرصة سانحة لاستحضار دلالات الوفاء للكِتَاب؛ إنْ قراءةً أو تأليفا وتحقيقا ودراسة، ثم نشرا وتعريفا، وذلك في سياق إحياء نهضة الأمة في العودة للكتاب وتكريم الكتاب والمبدعين وإحياء ثقافة الوفاء والاعتراف وتقدير العلماء. وإنَّ تكريم المحقق الدكتور أحمد العراقي بهذه الصورة العلمية والأدبية والأخلاقية الرفيعة بإصدار كتاب حول منجزه، يتحول من مجرد تكريم شخص مفرد في حد ذاته، إلى تكريمٍ أعمق وأشمل وأعمّ ينطلق من المحتفى به إلى جيله وطلابه ومحبيه، ومن جهوده في توثيق وتحقيق الأدب المغربي، إلى جهود كل الباحثين في هذا الأدب قديما وحديثا، وبما أنه تكريم مؤسَّس على قيم التواصل العلمي والثقافي بين الأجيال وقيم الوفاء والاعتراف و الشكر الامتنان، فإنه لا يخفى ما يحمله ذلك من مرجعيات حضارية وقيم أخلاقية، خاصة وأن جيله قد أسهم في ترسيخ الدرس الأدبي المغربي داخل الجامعة المغربية، كما أسهم في توجيه البحث ضمن هذا الاتجاه بإنشاء وحدات للبحث في الدراسات العليا بالجامعة، وأيضا كان مشاركا في تأسيس عدد من المراكز البحثية والجمعيات العلمية التي اهتمت بالتراث المغربي والدراسات الأندلسية وحوار الحضارات والتواصل الثقافي، إلى جانب ما أصدره من مؤلفات كثيرة تربو على ثلاثين كتاباً بين التحقيق والدراسة والتوثيق، أغلبها طبعها على نفقته الخاصة، فضلا عن مشاركاته في عدد من الكتب الجماعية، في مواضيع مرتبطة بالأدب المغربي وتواصلاته، وأيضا نشره لمقالات في عدد من المجلات والدوريات المتخصصة وطنية وعربية، ولذلك فإن هذه تكريم هذه الشخصية العلمية الفذة، هو تكريم موجه أيضا إلى جملة من القيم العلمية والأخلاقية التي صنعت جيلا من العلماء المغاربة لهم إسهامات واضحة وتأثير جليّ في الحركة الثقافية داخل المغرب وخارجه، وبفضل هذه القيم ظل المغرب منارة للعلم والمعرفة والأدب والإبداع، حاملا مشعل الحضارة. إنَّ تكريم رموز الثقافة المغربية في شخص الدكتور أحمد العراقي، يمثل جزءاً من ثنائية الاعتراف والاغتراف، التي تظل حاضرة في صلب اهتمامات المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية، حيث ضرورة الاعتراف بجهود السابقين، موازاة مع الاغتراف من أعمالهم وتضحياتهم التي أناروا من خلالها دروبا كانت مظلمة، وعبّدوا الطريق في مجالات معرفية كانت صعبة الولوج، ولا شك أن الباحث في الأدب المغربي سيجد الكثير من نقاط التواصل ضمن ما أنجزه الدكتور أحمد العراقي وأتمّه غيره من الباحثين في مؤلفات أو رسائل جامعية أو مقالات، وإن لحظة تكريمه بمدينة فاس العالمة وبحضور العلامة عباس الجراري وغيره من رواد البحث في الأدب المغربي وأعلامه، ستبقى راسخة في الذاكرة الثقافية وخاصة لدى الجيل الحالي من محبي الأدب المغربي، لما يمثله هذا الأدب من رمزية خاصة، لارتباطه بالبعد الوطني أساساً، فلا شك أن البحث في الهوية المغربية وتجليات الإبداع فيها، يعتبر سبيلا لتقوية المواطنة وربط العمل الثقافي بهموم الأمة وانشغالاتها، وتعزيز الوعي بالقضايا الكبرى للمغرب، مثل الوحدة الترابية والدفاع عن مقدسات الأمة ورموزها، وحماية الثوابت الدينية والوطنية للمملكة، فضلا عن تحقيق إشعاع ثقافي وحضاري للمغرب، عبر الانكباب على دراسة جوانب من رصيده العلمي التاريخي، بتحقيق المخطوطات ودراستها ونشرها وتداولها، كل ذلك يسهم بفعالية في توثيق محطات النبوغ المغربي وعلامات النهضة ومشاهد الجمال والجلال في الأرض المغربية المعطاء على مستوى الحضارة، ومن هنا كان لحفل تكريم أحد أعلام الأدب المغربي أبعاداً وطنية ومعاني أخلاقية دالة ومفصحة عن كثير من الخصوصيات التي ميّزت الفعل الثقافي المغربي، وتحديدا فعل الاعتراف والوفاء للسلف وللآباء، وبذلك تُخلق جسور التواصل وتقوى أواصر التآلف والتعارف، وهو فعل أصيل مستمد من ديننا الحنيف، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله. * باحث في الأدب المغربي والتصوف والنقد والجماليات. [email protected]