ينطلق هذا المقال من فرضية أساس, مفادها أن معظم مسلسلات بناء الدولة الوطنية العربية لمرحلة ما بعد الاستعمار, لم تفرز في غالبيتها العظمى, دولا بالمعنى المؤسساتي للكلمة, بل أفرزت شكلا من أشكال الحكم تحولت بموجبه السلطة إلى تسلط, وانبثقت عنه مخلوقات اجتماعية واقتصادية نشاز, وكائنات سياسية مشوهة الخلقة, عديمة الخلق, تأكل فلا تشبع إلا نادرا, وعندما تشبع وتنتفخ بطونها, لا تحمد الله على النعمة الموفورة. صحيح أن فترة ما بعد الاحتلال أفرزت رؤساء وملوك, ثم برلمانات وأحزاب وحكومات, ثم مجتمعات تفعل وتتعايش في فضاء جغرافي محصور. وصحيح أن ذات الفترة مكنت هذا "الوطن" أو ذاك, من اعتماد دستور وإبداع نشيد, ثم خلق إدارة ومدارس وطرق ومستشفيات وغيرها. لكنها لم تستطع تشييد دولة تتجاوز على القبيلة أو على الطائفة أو على العشيرة أو على الانتماء العرقي البدائي. ولم تستطع بناء مجتمعات متناسقة, يوحدها الوطن ويلملم المصير المشترك لحمتها ومفاصلها, ويكون المآل المشترك همها ومصدر التجنيد من بين ظهرانيها. إن مرحلة ما بعد الاستعمار لم تفرز, فيما نتصور, سوى دول هشة في طبيعة بنيتها وبنيانها, لكن متجبرة على من تحكم, ولم تفرز إلا أحزابا وتنظيمات مرتهنة القرار, لكن متجاوبة مع الوظيفة الموكلة إليها, وظيفة تأثيث "الفضاء العام" أمام الخارج أو للشرعنة بالداخل. ولم تفرز إلا مجتمعات أفرادها وجماعاتها أميون, غير منظمين ولا مؤطرين, لا يتمثلون ماضيهم أو حاضرهم, ولا ضمانات لديهم لما سيكون عليه مستقبلهم. إن القصد مما سبق إنما القول المباشر التالي: إن دولة الاحتلال الأجنبي التي استعمرت, أو "حمت", أو استصدرت استقلال هذه "الدولة" العربية أو تلك لعهود طويلة من الزمن, لم تفرز دولا مرتكزة على بنى مؤسساتية يعتد بها, ولا أحزابا وبرلمانات معبرة عن القواعد, بل أفرزت "دولا وطنية" أعادت إنتاج الاحتلال في أبشع صوره, كان من مظاهره ولا يزال, تحويل الدولة إلى محتكر للعنف الخشن, والسلطة إلى أداة تسلط, والعام إلى خاص والمشترك إلى فرداني, والمصلحة الشاملة إلى مصالح فردية وهكذا. بالتالي, فإن "الدولة الوطنية" العربية, في خلقتها كما في طبيعتها وطبعها, لا تختلف كثيرا عن الاحتلال المباشر الذي ثوت خلفه القوى الغربية لعقود طويلة, لا في شكل ذات الاحتلال ولا في منطوقة أو مضمونه: °- ف"الدولة العربية المستقلة" وجدت بالقوة تماما كالاحتلال الأجنبي, فوحدت المناطق والجهات قسرا, وفرضت عليها شروطا في الطاعة مذلة ومهينة, وارتهنت لفائدتها بالترغيب والترهيب, "علياء قومها", حتى بات الكل في خدمة ذات "الدولة" تماما كما كان الحال بزمن الاحتلال. وعلياء القوم هنا ليسوا بالضرورة جماعات أو ملل أو أحزاب, بل هم أيضا أفرادا ونخبا وملاكا وأصحاب ريع, لا تمييز أو تمايز بينهم إلا الاجتهاد في خدمة المحتل, أجنبيا كان أم من "بني الطينة". °- و"الدولة العربية المستقلة" بقدر ما تغولت على الشعب, أفرادا وجماعات, فقد تغولت, تماما كما كان الحال زمن الاحتلال, على المجتمع برمته. فاستباحت بنيانه, وأهانت أعلاهم قدرا ضمنه, واستقطبت "أخيرهم" على خلفية من مبادئ الطاعة والولاء والانصياع. إن تغول الدولة على المجتمع هنا, لم يترتب عنه فقط استباحة المجتمع شكلا ومضمونا, بل وتحويله إلى قطيع من البشر, يهتف لرأس الدولة وحاشيته, تماما كما كان ذلك في سياق هتافهم للحاكم المقيم العام الأجنبي. °- و"الدولة العربية" المحتلة اعتمدت نفس سلوك المحتل, عندما انفجرت الثورات وتصاعدت الاحتجاجات, فلجأت ولا تزال تلجأ للعنف المباشر لإخمادها, أو تفريق المحتجين من حولها بالقوة المبالغ فيها, بعدما تكون قد نعتتهم بالغوغاء والمجرمين والمخربين والخارجين عن القانون وما سوى ذلك. إن درجة الخشونة التي تتغيأ القتل أو الإعاقة, هي نفسها التي لا يمكن للمرء إلا أن يلحظها في سلوك المحتل بالسابق من أزمان, كما اليوم بالعراق وأفغانستان مثلا, وتماما كما هو حال "الدولة العربية" بنهاية عشرية هذا القرن, حيث الخشونة كانت الأصل بانتفاضة الجماهير بتونس ومصر, ولا تزال هي الفيصل في انتفاضة البحرين واليمن وسوريا. وعلى أساس كل ما سبق, فإننا نتصور: °- أن "الدولة العربية المستقلة", لم تخفق فقط في بناء دولة رحيمة بشعوبها, بل أفلحت في تحويلها إلى أداة في التسلط, طال مداها الأفراد والجماعات, الأحزاب والنقابات, النخب والجماهير سواء بسواء. °- وأن "الدولة العربية المستقلة" لم يكن غرضها بناء دولة ثم مجتمع ثم ثقافة واقتصاد, بل بناء منظومة في الاستقرار, يكون لرأس الدولة ثم لعائلته وحاشيته, الأمر والنهي في السلطة والثروة والجاه, في حين للشعب ما قد يجود به ذات الحاكم وحاشيته من منن وعطف وعطاء. °- وأن "الدولة العربية المستقلة", لم تكتف باحتلالها المباشر لشعوبها, ثروة وحقا في التعبير, بل ولم تخجل في استدعاء المحتل السابق للذود عنها, والدفاع عن حرمتها, والاصطفاف معها لمحاربة شعوب لا مطلب لها معقد, اللهم إلا حقها في الكرامة, وبعض من خيرات وثروات بلدانها.