بعد ساعات من وفاة الزعيم، تجتمع قيادة البوليساريو ويعلن استلام رئيس مؤقت دفة الحكم، في انتظار مؤتمر استثنائي يأتي بعد أربعين يوما، وتستمر الحياة في المخيمات في مشهد يعطي انطباعا عن قوة وتماسك إدارة البوليساريو، وقدرتها على اﻻاستمرار طويلا في النزاع. وقد ألفنا أنه كلما ذهب قائد، نبدأ بالتساؤل حول التغيير الذي سيطرأ بعد رحيله على مستوى التوجهات والقيادة في الحركة أو الدولة. وباعتبارنا معنيين ومهتمين بنزاع الصحراء، وبعد أن غيب الموت زعيم جبهة البوليساريو التي تنازع المغرب السيادة حول الصحراء، نتساءل: ما الذي سيطرأ؟ من حيث المبدأ نعلم أن مشروع الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، المعروفة اختصارا بجبهة البوليساريو، مبني على هدف تحرير الأرض لترسيخ مشروع دولة الجمهورية الصحراوية التي تأسست وبلغت الأربعين فوق التراب الجزائري. مما يعني أن الجبهة ستستمر ما دام التحرير لم يحصل، ومشروع الدولة باق في المنفى، تحت رعاية وعين الجزائر. ونعلم أن عبد العزيز، ومن ورائه الجزائر، عمد إلى جعل فكرة الجبهة الممثل الشرعي والوحيد للصحراويين خطا أحمر، لاستمرارها تنظيما واحدا أوحد ﻻ شريك له في الساحة الصحراوية المتنازع عليها. ولتحقيق تلك الغاية، اعتمد الزعيم سياسة اقصائية صارمة تجاه منافسيه ومناهضي تبعية القرار الصحراوي للإدارة الجزائرية الحليفة والداعمة، واستخدم كل أدوات الترهيب والترغيب لإجبار معارضي حكمه على ترك المخيمات أو لاستسلام والخضوع لإرادته. ولإضفاء نوع من المشروعية على حكمه الذي تجاوز أربعة عقود، خاصة بعد الانفتاح الذي شهده العالم عقب انهيار جدار برلين وتهاوي المعسكر الاشتراكي عموما، ابتكر الراحل لعبة ديمقراطية داخل المخيمات تلهي الشارع وتوهمه بالمشاركة في السلطة. وبقدر ما كانت ديمقراطية الانتخابات التي بدأت في المخيمات منتصف التسعينات، رغبة من الزعيم في تزكية بقائه في السلطة مدى الحياة بالتجديد الدوري لوﻻيته، كانت أيضا العظم الذي يغري قيادات الصف الثاني والطامحين في تسلق سلم السلطة لدخول حلبة المنافسة للظفر بصفة قيادي لن تسمن ولن تغني من جوع ما دام الزعيم يحوز كل السلط ويحتكر كل المنافع ويوزعها على من يخدم أجندته وإرادته. وما دام التنظيم حكرا على الجبهة، والمنافسة الانتخابية تستدعي وتستلزم قواعد انتخابية، لم يبق من هامش لدى المتنافسين غير القبيلة وفروعها، وهو ما سيحقق للزعيم غاية تفرقة المنافسين والمتنافسين بتفرق الدم الذي ينحدرون منه. فنجح في تقزيم كل القيادات بارتمائهم في أحضان القبيلة صغيرة الحجم ليبقى الكبير الذي تنتخبه كل القبائل. وبذلك عمق الانقسام داخل شارع المخيمات إلى درجة زرع العداوة والأحقاد بين جميع قبائله، مما يسر له الاستفراد بالسلطة، على حساب قيادات قبلية ضعيفة وغير متجانسة. ولم يكن رحيل زعيم البوليساريو مفاجئا، فقد غيبه المرض قبل أن تغيبه الوفاة. وتهيأت الحركة لرحيله منذ مؤتمرها الأخير نهاية السنة الفارطة، ومهد الزعيم بنفسه الطريق لخلافته بالتعيينات التي أعقبت المؤتمر، من خلال إبعاد بعض القيادات وتقريب بعضها اﻵخر من دائرة التحكم لتمرير خلافة سلسة تضمن استمرارية النهج الذي يريده داعمو عبد العزيز الراحل. أبعد أقوى رجل في رقيبات الشرق وزير الدفاع القوي محمد لمين البوهالي عن الجيش وعيّن في وزارة هامشية بالكاد لها مقر وموظفون يعدون على أصابع اليد. وترك البشير مصطفى السيد أقوى رجل في رقيبات الساحل في كراج رئاسة الجمهورية في مهمة صورية (مستشار) ﻻ يدير فوق شخصه حتى ﻻ يكون له تأثير في التغيير الوشيك. بينما أبقي على رئيس الحكومة عبد القادر الطالب عمر ورئيس البرلمان خطري آدوه لتسيير المرحلة اﻻانتقالية بصفتهما غير مؤهلين قبليا للمنافسة على الرئاسة، وداعمين لاستمرار توجهات وسياسات الزعيم الراحل التي أبقتهما في الصف الأول رغم وجود أندادهما من القبائل غير الرقيبات. وأسندت إدارة المنظمة إلى إبراهيم غالي ابن مدينة السمارة القيادي الوحيد النازح من الإقليم المتنازع عليه القادم من سفارة الجبهة في الجزائر. وقد يتوهم البعض أن الجزائر غائبة عن كل هذه التحضيرات، لكنها الحاضر الكبير في كل صغيرة وكبيرة. فقد أضحى من المؤكد أن غالي ولد سيد المصطفى، أول أمين عام للجبهة ووزير دفاعها حتى وقف إطلاق النار، والذي عاد إلى الواجهة من سفارة الجبهة في الجزائر إلى رئيس إدارة الحركة بعد المؤتمر الأخير، قد عاد لتسلم دفة الحكم بعد الزعيم. وقد يقول البعض كيف تقبل الجزائر بزعيم للبوليساريو من غير صحراويي الجزائر. والجواب هو أنها تعرف ضعف الخلفية القبلية للسيد غالي داخل الرقيبات باعتباره ينتمي لواحد من أصغر عروش قبيلة الرقيبات (أوﻻد طالب)، وهي نقطة ضعف تبقيه دائما تحت السيطرة بحكم حاجته لداعم أمام قوة منافسيه قبليا وسياسيا، وقد تم اﻻبقاء على ابن عمه ابن مدينة تيندوف "كريكاو" رئيسا للمخابرات ومنسقا حصريا مع السلطات الجزائرية لتسهيل مرور الرسائل بين المرادية والرابوني. وبدعمها استخلاف إبراهيم غالي، ابن مدينة السمارة، على خلافة أحد صحراويي الجزائر، تقطع الإدارة الجزائرية مع شائبة عدم الانتماء لمنطقة النزاع التي شابت الزعيم الراحل وغيره من القيادات المحسوبة على الجزائر، وتؤيد مزاعمها أن البوليساريو حركة من أبناء الساقية الحمراء ﻻ دخل للجزائر في صراعها مع المغرب. وبالمحصلة لن يتغير شيء على مستوى البوليساريو، وسيتمر الدور الجزائري بالقوة نفسها والنفس ذاته في إدارة الصراع مع المغرب. وسيبقى الصحراويون رهائن لفكرة تحرير لن يكون، وقيادات توجهها الجزائر كيفما كان خدمة لأجندتها ﻻ لسواد عيون أبناء إقليم الساقية الحمراء ووادي الذهب، الذين سيبقون ضحايا ما دامت جبهة البوليساريو فوق التراب الجزائري ممثلهم الوحيد. وسيستمر المغرب في تلقي اللكمات من القريب والبعيد، ينتظر انهيارا غير منظور للبوليساريو رغم المآسي التي يعيشها سكان المخيمات، ما لم تحصل مصالحة حقيقية بين الإدارة المغربية وسكان الأقاليم الصحراوية مبنية على قاعدة المواطنة ﻻ الوﻻء. *قيادي سابق في جبهة البوليساريو