من بين آلاف الجينات التي نتوفر عليها، هناك جينات من نوع خاص مسؤولة عن عمل الخلية وتكاثرها. إنها جينات "النظام" التي، لولا السرطان، ما كنا لنكتشفها ونعرف وظيفتها وكيفية اشتغالها. وإذا صادف وأصابت الطَّفْرَة الجينية- وهي عبارة عن تحول في تركيبة الجينات بسبب نوع معقد من التفاعلات الكيميائية أو الإشعاعية أو كذلك بسبب بعض الأنواع من الفيروسات إذا صادف وأصابت الطَّفرة إحدى هذه الجينات، في هذه اللحظة بالذات نكون قد بدأنا حكايتنا مع السرطان... الخلايا الخبيثة تبدأ الخلايا السرطانية بالتكاثر بشكل مستقل وعشوائي وتكتسب مع مرور الوقت قدرات خاصة تسمح لها بالبقاء والاستمرار. في البداية تفقد هذه الخلايا خاصية فريدة من نوعها. إنها خاصية الموت المبرمج [apoptose] الذي يأمر الخلية بالانتحار إذا لم تتمكن من إصلاح الاختلالات التي ألمت بها حتى تحافظ على استقرار وسلامة النظام العام. ففي جسم الإنسان ليس هناك أنانية ولا شيء يعلو على المصلحة العامة، وكأن هناك إدراكا بأن مصلحة الجزء لا يمكن تحقيقها بمعزل عن مصلحة المجموع. هذا ما تصبو إليه البشرية وتسعى جاهدة إلى تحقيقه. كما تكتسب هذه الخلايا، بطريقة ما، قدرة على التكاثر والانقسام والبقاء إلى ما لا نهاية. لقد تمردت على "النظام" وفقدت معايير الانضباط والعيش المشترك، وأصبحت تعيش بأنانية قاتلة وفي حرية مطلقة وتنهج أسلوب الفوضى والعشوائية وغياب الهدف. من جهة أخرى فهي تمتلك من المكر والخبث ما يجعلها غير مرئية بالنسبة لجهاز المناعة المقاوم لكل عنصر غريب يطمع في الاستقرار داخل جسم الإنسان. كل هذه الخصائص مجتمعة ستسمح بنشوء حياة جديدة تعمل في استقلالية تامة وتتعلم تدريجيا، وبخبث منقطع النظير، كيف تنمو وتستمر مستغلة إمكانات الجسم الذي يؤويها. من ناحية أخرى، تعمل هذه الخلايا كمصانع توفر كل ما تحتاجه من أدوات ومواد هي بأمس الحاجة إليها لاجتياز الحواجز واختراق الأنسجة وجلب أوعية دموية جديدة [neoangiogenesis] متفرعة من تلك الموجودة طبيعيا حتى تتزود بالغذاء والطاقة الضرورية. في هذه المرحلة يكون الورم [tumor] قد تشكل وبدأ يسبب بعض الأضرار الجانبية. وهذا يعني أحيانا شعورا بالألم أو اضطرابا في إحدى الوظائف الطبيعية. تستمر الخلايا الخبيثة في التكاثر، فلا شيء يحد من رغبتها في التوسع والاجتياح. وفي لحظة من تكاثرها ونموها تنفصل بعضٌ من هذه الخلايا عن الكتلة الأولية وتشق طريقها عبر الأوعية الدموية أو اللمفاوية لاكتشاف واحتلال أعضاء وأنسجة جديدة [metastasis]. وتذكرنا هذه الظاهرة بما ارتكبه نوع من الجنس البشري حين خُيِّل إليه أنه أكثر دهاءً ومكرا فقام بإرسال جنوده وبعثاته لاكتشاف واحتلال أراض جديدة وأخذ يمتص خيراتها ليتمكن هو من التطور والنمو. تتشكل بالتالي أورام ثانوية تحتل غالبا الأعضاء وثيقة الصلة بالدورة الدموية كالكبد والرئتين والعظام، وأحيانا بعض الأعضاء الحساسة جدا مثل الدماغ. وينتج عن هذا الانتشار السريع والمتزايد للخلايا السرطانية تأثيرات على مستوى الوظائف الرئيسية مما يضعف الجسم ويفقده قواه بشكل تدريجي إلى أن يتوقف كليا عن العمل ويفارق الحياة. الغريب في الأمر هو أن هذه الخلايا الخبيثة التي تمكنت من إيجاد إكسير الخلود ستموت في النهاية بسبب خبثها وطمعها اللامحدود. مرحلة التشخيص تختلف ظروف التشخيص من حالة إلى أخرى. فقد تكون بسبب الشعور بالألم أو بسبب استشعار وجود كتلة أو بسبب خلل في وظيفة عضو من الأعضاء. لكن أحيانا يتم اكتشاف السرطان عن طريق الصدفة أثناء إحدى الزيارات الطبية أو من خلال الفحص المبكر الذي يسبق ظهور علامات المرض السريرية. هذا النوع من الفحوصات يخص أنواعا بعينها من أمراض السرطان، كسرطان الثدي وعنق الرحم وكذلك سرطان القلون أو البروستاتا، ولا يشمل كل أنواع السرطان. وفي هذه الحالات يسمح الفحص المبكر باكتشاف الورم الخبيث في المراحل الأولى من تكونه مما يجعل العلاج أكثر فاعلية. في الغالب يتم اللجوء إلى الفحص بالأشعة [radiology] لتحديد حجم ومكان الورم وكذلك مدى توسعه واختراقه للأنسجة المجاورة. لكن يبقى التشخيص مجرد فرضية في انتظار إجراء التشريح الدقيق [pathologicalanatomy]على عينة من الورم [biopsy] يتم الحصول عليها بطرق مختلفة حسب نوعية الورم وموضعه. وفي النهاية يتم التعرف على نوع السرطان ودرجة حدته أو خبثه وكذلك بعض المؤشرات التي تساعدنا في اختيار صنف العلاج والدواء المناسب. وقد يتم اللجوء من جديد إلى الفحص بالأشعة أو باستعمال تقنيات حديثة كالطب النووي [nuclearmedicine] لمعرفة مدى انتشار السرطان في باقي مناطق الجسم. ويأتي اليوم الموعود الذي انتظره الجميع على مضد. فرغم المؤشرات والعلامات الدالة على المرض، يبقى الأمل موجودا لسماع خبر سار عكس كل التوقعات. في هذه الأوقات التي كنت أمسك فيها بين يدي نتيجة الفحوصات المخبرية وأتطلع إلى المريض ومن يرافقه وقد ارتسمت على وجوههم ملامح الأمل الحذر والخوف من المجهول في صورة معبرة يصعب وصفها ورسمها والتعبير عنها في بضع كلمات، في هذه الآونة كان يصعب إيجاد اللغة والنبرة المناسبتين. فمهما كان التعبير جميلا والحديث مرتبا تبقى النتيجة واحدة: نحن من يحمل أسوأ خبر يمكن للإنسان سماعه في حياته. لست أدري ما هي الصورة بالضبط التي يكونها المريض عنا في هذه اللحظة ولكني أحيانا أعتقد أنه كمن رأى أمامه ملك الموت. أحيانا أيضا وددت لو أعتذر وأطلب العفو وكأني أنا من تسببت له بالسرطان وليس فقط من يحمل له خبر الإصابة به. تتكرر هذه المواقف وتتنوع الحالات ولكن تبقى المشاعر هي نفسها من الجانبين. من جهتي تعلمت الصبر والتحمل ومشاطرة المريض حزنه وصدمته وإن كان في ذلك بالغ الأثر على نفسيتي وحياتي الخاصة. فليس باستطاعتي التجرد من الشعور بالعطف والمواساة، ولست مجرد آلة ناطقة. رحلة العلاج بعد أن تهدأ العاصفة وتستقر المشاعر وتُؤخذ القرارات المصيرية، تبدأ رحلة العلاج الشاقة والطويلة بكل ما تحمله بين طياتها من أمل وألم وتحدٍّ ومعاناة. هذه مرحلة تتجسد فيها مفاهيم عميقة كالإيمان والعبادة والعزيمة والإرادة، ويظهر جليا معنى التشجيع والمرافقة ومعنى المحبة ومعنى الصداقة. في الحالات التي يتم فيها تشخيص السرطان في مرحلته الأولية، حيث يكون العلاج الجذري ممكنا، يتم الاعتماد بالدرجة الأولى على الجراحة. والجراحة قد تكون محافظة ولا تتعدى استئصال الورم وجزء يسير من النسيج المحيط به كلما أمكن ذلك، لكن أحيانا قد يكون ضروريا استئصال عضو بكامله أو بتر أحد الأطراف تفاديا لعودة المرض وتفشيه. ويخضع هذا النوع من الجراحة الذي يسمى بالجراحة على السرطان [surgicaloncology] لشروط وتقنيات معينة ومعرفة دقيقة بعلم السرطان وعلاقة الجراحة بأنواع العلاج الأخرى المتوفرة. فالجراحة على السرطان ليست فقط عملية جراحية، بل إلمام بكل ما يتطلبه علاج السرطان من تشخيص دقيق للمرحلة ومعرفة مدى جدوى الجراحة من عدمها والتوقيت المناسب لإجرائها والعلاجات الأخرى التي تصاحبها مثل العلاج الكيماوي [chemotherapy] والعلاج الإشعاعي [radiotherapy]، علما أنه في بعض الأحيان يتم اللجوء إلى العلاج الإشعاعي بدل الجراحة لأنه يضمن النتيجة نفسها مع درجة أقل من الأضرار الجانبية كما هو الحال بالنسبة لسرطان البروستاتا وبعض حالات سرطان عنق الرحم. وفي الحالات المتأخرة حيث يتبين وجود أورام ثانوية في مناطق مختلفة من الجسم إلى جانب الكتلة الأولية، في هذه الحالات يمثل العلاج الكيماوي الشق الأساسي من العلاج. وطبعا يمكن اللجوء أحيانا إلى العلاج بالأشعة والجراحة للرفع من نسبة التجاوب مع العلاج أو على الأقل لتحسين ظروف الحياة. وبالإضافة إلى العلاج الكيماوي هناك أنواع حديثة من طرق العلاج كالعلاجات الموجهة [targetedtherapies] وهي عبارة عن أدوية موجهة ضد الخلايا السرطانية بالتحديد لأنها تستهدف تحولا جينيا لا يوجد في باقي خلايا الجسم والعلاج المناعي [immunotherapy] الذي يحتل اهتماما متزايدا في الآونة الأخيرة ويبدو أنه سيثمر نتائج مبهرة في قادم الأيام. لكن مع كل هذا التقدم الطبي والمعرفي تبقى هذه الحالات مستعصية على العلاج الجذري إلا في حالات نادرة، ويتم التعامل معها كأمراض مزمنة تخضع لقانون المد والجزر. ومهما كان العلاج جذريا ومهما أظهرت الفحوص والتحاليل أن السرطان تم استئصاله، يبقى شبح عودة المرض مخيما على الجميع. وهنا تبرز الحاجة إلى شعور جديد ينعش رغبتنا في الحياة ويعطينا الدافع لمواصلة المشوار، إنه الشعور بالأمل. فكم من مريض بالسرطان تغيرت نظرته للحياة بسبب تجربته مع المرض، فكانت له الدافع لمساعدة آخرين يخوضون الصراع نفسه، وأحيانا كانت له الحافز للخلق والإبداع. والأمل كذلك معقود على المجتمع بكل مكوناته لتغيير هذه النظرة الدونية التي ينظر بها إلى المريض بالسرطان وكأنه لم يعد إنسانا طبيعيا. فاعتقادنا بأنه مرض قاتل يجعلنا نعامل المريض كمن يجلس في غرفة المغادرة قبل انطلاق الرحلة الأخيرة. من جهة أخرى هناك مصطلحات وتعبيرات متقادمة وجب تغييرها وحذفها من قاموسنا اللغوي. فمن يقول: "فيه المْرض الخايب" ومن يقول: "مسكين ... جاه داك المرض"، كل هذه العبارات تزيد من معاناة المريض وتجعله يفضل العزلة والانطواء ليبقى وحيدا في مواجهة هذا الداء. يصعب الحديث في بضعة سطور عن كيفية تشخيص مرض السرطان وعلاجه وكذا التطرق لكل وسائل العلاج المتوفرة وتلك التي لا يزال البحث فيها جاريا. لكن ما يمكن التأكيد عليه، هو وجوب مشورة موسعة بين مجموعة من الأطباء ذوي اختصاصات متكاملة تصب كلها في علاج أمراض السرطان وبالتالي فهم يتحدثون لغة موحدة. هذه المشورة يجب أن تصبح منهجية وإجبارية كما هو الحال في بعض الدول المتقدمة. ولا يصح لأي طبيب مهما بلغ علمه وكفاءته أن يتخذ القرار في معزل عن الآخرين ... ففي النهاية سيلجأ إليهم ولو بعد حين !! * أخصَّائي الجراحة على السرطان