عرف المشهد السياسي بالمغرب، بعد مباشرة حكومة بنكيران لصلاحياتها الدستورية، توترا حادا ليس بسبب نشر لوائح المستفيدين من مأذونيات استغلال بعض خطوط النقل البري، بل بسبب وضع نظام جديد لدفاتر التحملات في قطاع السمعي البصري. وكان من تداعيات ذلك تعيين الملك لرئيس جديد للمجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري في شخص أمينة الوهابي المريني، خلفا لأحمد الغزلي، الذي شغل هذا المنصب منذ إحداث الهاكا، وجمال الدين الناجي عوض نوفل الرغاي على رأس المديرية العامة للاتصال السمعي البصري؛ وذلك في سياق الجدل المثار حول دفاتر تحملات القنوات الوطنية، وتجميد العمل بها إلى حين إجراء التعديلات عليها، مع تمديد العمل بالنسخ القديمة منها. ولعل هذه التداعيات تعكس إلى حد بعيد حساسية هذا المجال في مختلف الرهانات التي يعرفها النظام السياسي، واهتمام السلطة بالتحكم في ميكانيزمات تدبيره. وأولت المؤسسة الملكية لوسائل الإعلام السمعي البصري أهمية كبرى في إطار هيمنتها على الحقل السياسي بالمغرب؛ وظهر ذلك واضحا من خلال أن أول خطاب أذاعه الملك الراحل محمد الخامس بعد عودته من المنفى، لإعلان "نهاية عهد الحجر والحماية وبزوغ فجر الاستقلال..."، كان عبر أمواج الإذاعة، مما كرس منذ البداية تفرد المؤسسة الملكية باستعمال هذه الآلية في مخاطبة الشعب، بعدما كانت صورة الملك محمد بن يوسف في القمر قد كرست شرعيتها السياسية. وبالتالي، لم يكن من المستغرب أن يعمد الملك الراحل الحسن الثاني، بمجرد توليه العرش، إلى التوجه عن طريق الإذاعة بخطاب إلى الشعب لنعي والده، والتأكيد على خلافته له. وإدراكا من الملك لأهمية هذه الأداة الإعلامية كوسيلة فعالة في الحكم، فقد سارع، منذ ظهور البث التلفزي بالمغرب في 9 يناير 1962 إلى إدماج كل من الإذاعة والتلفزة في جهاز وحيد تم ربطه بوزارة الأنباء التي كان يحرص على تعيين وزرائها من المقربين له. وكان من أهم خطط انقلابيي الصخيرات، بعد اقتحام القصر الملكي بالصخيرات، الاستيلاء على مقر دار الإذاعة والتلفزة، وإذاعة بيان عسكري (باستيلاء الجيش على السلطة)؛ مما حدا بالملك الراحل الحسن الثاني إلى إذاعة خطاب عبر إذاعة طنجة لإخبار الرأي العام بأنه مازال حيا متحكما في الوضع السياسي، ليظهر بعد ذلك على شاشة التلفزة وهو يلقي خطابا يشير فيه إلى فشل الانقلاب، لتنقل بعد ذلك شاشة التلفزة صور بعض الانقلابيين وهم يرمون بالرصاص. ومن ثمة حرص هذا الملك على الاستفراد بهذه الأداة الإعلامية ومراقبتها وتتبعها عن قرب بشكل يومي، وكان في بعض الأحيان يأمر بإيقاف برامج معينة، كما حدث بالنسبة لمسرحية الكبش، واعتقال أحد ممثليها، وتوبيخ وزير الأنباء آنذاك، الراحل عبد الهادي بوطالب، بهذا الشأن؛ بل بلغ الأمر بتحكم هذا الملك في وسائل الإعلام السمعي والمرئي إلى تشكيل حكومات تم فيها الربط بين وزارة الإعلام ووزارة الداخلية التي كانت تابعة للراحل إدريس البصري، مما أدى إلى أن مدراء الإذاعة والتلفزة أصبحوا يعينون من عمال وولاة هذه الوزارة. وعلى الرغم مما عرفه المشهد السمعي –البصري من تطورات (كخلق عدة قنوات تلفزية رسمية بلغت إلى حد الآن أكثر من تسع قنوات تلفزية، وخلق عدة إذاعات جهوية وإذاعات خاصة...)، فإن ذلك لم يمنع من استمرار هيمنة المؤسسة الملكية على وسائل الإعلام السمعي-البصري التي مازالت تشكل أداة سياسية لتكريس مركزية الحكم الملكي، وآلية لتدعيم شرعيته السياسية والدينية. تكريس مركزية الحكم الملكي منذ بداية الستينيات من القرن 20، أصبح البث الإذاعي والتلفزي يعبأ بشكل أساسي لنقل مختلف المراسيم المتعلقة بالاستقبالات الملكية والأنشطة التي يمارسها الملك، سواء من خلال تدشيناته للمشاريع، أو ترؤسه للمجالس الوزارية، أو قيامه بتعييناته، سواء لأعضاء التشكيلات الحكومية أو للموظفين السامين، أو تتبع تنقلاته سواء داخل الوطن أو خارجه. ويتم التركيز على الاستقبالات التي تخصص للملك، سواء أثناء زياراته لبعض مناطق المملكة؛ حيث تنقل صور الشخصيات السامية من رجال سلطة ونخب محلية وهي مصطفة لتقبيل يد الملك والانحناء أمامه؛ أو خلال تنقلاته وسفرياته إلى الدول الأجنبية، حيث تنقل مشاهد أعضاء الحكومة والمستشارين وكبار الشخصيات المدنية والعسكرية وهي مصطفة حسب الترتيب البروتوكولي للانحناء أمام الملك وتقبيل يده. كما أنه، بالإضافة إلى المراسيم المتوارثة عن العهد السلطاني التي أدت إلى تركيز السلطة في شخص الملك من خلال تركيزها على تحركاته وأقواله وخطبه ومختلف أنشطته، شكلت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة آليات أخرى لتضخيم هذه الشخصنة؛ فكل النشرات الإخبارية تبدأ بالتحدث عن الأنشطة الملكية وتعطيها الأولوية في فقراته المعدة؛ وكل الزيارات الملكية يتم تغطيتها بجزئياتها وتفاصيلها؛ وكل الخطب الملكية تحاط بطقوس خاصة، تتمثل في نقل بعض المظاهر المخزنية في انتظار قدوم العاهل المغربي والإعلان عن ذلك... لذا درجت القناتان الوطنيتان، وبالأخص القناة الأولى، على اللجوء إلى بعض التقنيات الحديثة، سواء الصوتية أو المكتوبة لإشعار المشاهدين المغاربة سواء بقرب إلقاء الخطاب الملكي أو ترديد عبارات: "صاحب الجلالة يخاطبكم"، "مباشرة من القصر الملكي"، إلى غير ذلك؛ ما يعيد "الترديدات المخزنية" التي تسمع عادة داخل القصر، والتي تلفت الانتباه إلى قدوم الملك. كما تشكل الصور المنقولة للملك عبر شاشة التلفزة أداة أخرى لهذه الشخصنة؛ إذ إن هناك طقوسا مراسيمية لإخراج كل التحركات والزيارات والأنشطة التي يقوم بها الملك في إطار تلفزي مضخم ومثير؛ في حين توظف التلفزة بأدواتها وتقنياتها السمعية والبصرية التي تتطور باستمرار إضفاء هالة من القدسية على شخص الملك، بحيث يصبح كل تحرك من تحركاته (زيارة لإقليم، تدشين لمشروع، إعلان عن قرار…) عبارة عن حدث سياسي يتم تمجيده، وإلى مراسيم تلفزية تكرس شخصنة السلطة وتركز على شخص الملك كوحدة مركزية لكل القرارات والمشاريع؛ مما يكرس ليس فقط حكما ملكيا مشخصنا بل حكما خاصا وفرديا. تكريس الشرعية الدينية للحكم الملكي أكد الدستور، بمختلف التعديلات التي عرفتها هذه الوثيقة، بما فيها التعديل الأخير لفاتح يوليوز 2011، على الصفة الدينية للملك كأمير للمؤمنين، بحيث يتم الحرص على تأكيد هذه الصفة من خلال كل المراسيم التي تم توارثها عن العهد السلطاني . فمن المعروف أنه حتى بعدما جردت سلطات الحماية السلطان من الكثير من صلاحياته وسلطاته؛ فإنها لم تجرؤ على تجريده من سلطته الدينية، التي حافظ عليها بموجب مقتضيات معاهدة الحماية. وبالتالي بقي السلطان يمارس هذه السلطة طيلة فترة الحماية، من خلال قيامه بكل الشعائر الدينية التي كانت تقتضيها مكانته كأمير للمؤمنين، كحضور صلاة الجمعة؛ وترؤسه للاحتفالات الدينية، كعيد الفطر وعيد الأضحى وعيد المولد النبوي؛ والتي كانت تؤدي طبقا للمراسيم السلطانية التي استمرت متواصلة حتى بعد الاستقلال. ولتكريس السلطة الدينية للملك كأمير المؤمنين واحتكاره كل الصلاحيات التي تعكس ذلك، تم الحفاظ على هذه المراسيم بطقوسها المخزنية نفسها، والعمل على تكريسها من خلال الحرص على نقلها على أمواج الإذاعة وقنوات التلفزة المغربية. وعادة ما كان يتابع المشاهدون نقل وقائع خروج الملك الراحل الحسن الثاني لأداء صلاة الجمعة بمسجد أهل فاس، أو في بعض مساجد المملكة أثناء زياراته لأحد الأقاليم المغربية ؛كما كانوا يتابعون مراسيم تأديته لصلوات عيدي الفطر والأضحى وإحياءه لليلة عيد المولد النبوي. الأمر نفسه تم تكريسه منذ تولي الملك محمد السادس الحكم، خاصة في ظرفية دولية وإقليمية ووطنية تتسم بغلبة الخطاب الديني، وانتشار الحركات السياسية الدينية بمختلف تلويناتها السلفية والجهادية وغيرها. إذ عادة ما يتم الحرص على نقل خروج الملك كأمير المؤمنين لصلوات الجمعة أو صلوات العيد، إلى جانب التركيز على إحيائه للدروس الرمضانية، أو ترؤسه لإحياء ليالي المولد النبوي، وفق الطقوس والمراسيم التلفزية والإذاعية نفسها التي كانت متبعة في عهده سلفه.