عمِل الملك الراحل الحسن الثاني على تأسيس الدروس الحسنية سنة 1963 في ظل سعيّه لإحياء التقليد السلطاني في الحكم، فكان هذا التأسيس بمثابة استمرار للدروس الدينية السلطانية التي دأب السلاطين المغاربة على تنظيمها من خلال استدعاء كبار العلماء للمحاضرة في علوم الدين، تكريسا للمشروعية الدينية للحكم القائمة على الإمامة وإمارة المسلمين والمؤمنين. فملوك الدولة الموحدية على سبيل الذكر، كانوا يعقدون مجامع علمية يحضرها عدد من أعلام علماء المغرب والوافدين عليه من المشرق وفق ترتيب معلوم، وكان السلطان هو الذي يفتتح المجلس بمسألة علمية يلقيها مباشرة أو بواسطة أحد حاشيته، ثم يعود في نهاية الدرس ليتولى بنفسه دعاء الختم. وقد تزامن إحياء الملك الحسن الثاني لهذا التقليد السلطاني بإقامة الدروس الحسنية في شهر رمضان من كل سنة وتسميتها باسمه، مع سياق سياسي متوتر كانت أبرز معالمه: - حداثة تولي الملك الحسن الثاني مقاليد الحكم أي بعد مرور سنتين من ذلك. - بعد سنة من إقرار دستور 1962، كأول دستور في تاريخ البلاد، وما ترتب عنه من المزيد من تأزيم علاقة القصر ببعض القوى والشخصيات الوطنية (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، الشيخ محمد بعربي العلوي). - تنامي المد الشيوع والماركسي في الجامعات والثانويات، وبروز قوة اليسار في الساحة السياسة، مستفيدا من الهيمنة الإيديولوجية للاشتراكية القومية العربية الحاكمة في أغلب دول المنطقة العربية والمدعومة من قبل الاتحاد السوفياتي وقتئذ. تأسست فلسفة تنظيم الدروس الحسنية في النسق السياسي المغربي بالإضافة إلى الرغبة في تكريس الزعامة الدينية للملك، على إشاعة القراءة الرسمية "للإسلام" من خلال استحضاره في بعده العقدي والأخلاقي العام مع تجنب النقاش التشريعي والفقهي التفصيلي المتصل فيما يعرف في الأدبيات الإسلامية التقليدية بالسياسة الشرعية، إلا بقدر الذي يُوظف في ترسيخ قيم الطاعة والمحافظة والامتثال السياسي للسلطة. وهي المعادلة التي تكشف مفارقة وتباين واضحين في منهجية الدروس الحسنية الملقاة أمام الملك، إذ بالقدر الذي تعرف انفتاحا فكريا وفقهيا يروم تطوير الفكر الإسلامي منهجا وأسئلةً ليرقى إلى مستوى الإجابة على تحديات العولمة وعلاقتها بالدين والقيم والإنسان. وتطرح سؤال دور الدين في ترشيد السلوكيات والأخلاق في مجالات الصحة والبيئة والتكنولوجيا وغيرها ...، نجد في تضاد تصوري استمرارية طرح مواضيع مرتبطة بحقل السياسة تتسم بهيمنة القراءة التاريخية السلطانية للحكم والشأن العام، بما تحمله من انتصار لقيم المحافَظة السياسية بدعوى الحفاظ على الاستقرار والطاعة وخوف الفتنة، وهو ما يُحوّل الخطاب الديني المصرّف في هذه الدروس الرمضانية، إلى مجرد أداة فقهية -تبريرية للواقع السياسي، يفضل الاستسلام إلى أزماته وشرعنتها، في حين كان المأمول أن يسهم هذا الخطاب الديني النخبوي في التأصيل والانتصار لقيم الشورى والعدل والكرامة اليتيمِ ذكرها في الفقه السياسي الإسلامي التاريخي. ورغم هذه الملاحظات على مستوى مضامين الدروس الحسنية في شقها المرتبط بالسياسة، إلا أنها تؤدي دورا متميزا على صعيد الإشعاع الخارجي للمغرب، فيما يمكن وسمه ب"الدبلوماسية الدينية" من خلال التواصل مع المؤسسات الدينية والفقهية العربية والإسلامية واستضافة علماء مرموقين من كافة أنحاء العالم، وهذا أدى إلى نجاح تسويق النموذج المغربي في تدبير الحقل الديني القائم على عناوين: احتكار مؤسسة إمارة المؤمنين للتوجيه الديني الرسمي للمغاربة، وإحياء التقليد في العقيدة والفقه والتصوف من خلال التقنين والإكراه والضبط. فالغاية الإشعاعية للدروس الحسنية عبر تاريخها تظهر جليّا في هيمنة للعلماء المشارقة والأجانب على إلقاء الدروس الدينية والفكرية بها بالمقارنة بحضور العلماء المغاربة، مما يعبّر عن رغبة الدولة في جعل سلسلة الدروس الحسنية مناسبة للإشعاع الديني للمغرب وبالأخص في إبراز الزعامة الدينية لعاهل البلاد. كما وظفت الدروس الحسنية ولازالت على المستوى الإيديولوجي باعتبارها مناسبة سانحة في شهر الصيام "المقدس" عند المغاربة لتمرير " أدلوجة الدولة" بلغة المفكر عبد الله العروي في فهم الدين وتمثله، بل صارت من أهم المناسبات الدينية الرسمية في توجيه الحياة السياسية والدينية المغربية من خلال الوظيفة المنبرية التي يؤديها الدرس الافتتاحي لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، والذي غالبا ما يحظى باهتمام النخبة الدينية والسياسية الوطنية، نظرا لأهمية الأجوبة والإشارات التي يقدمها الوزير حول أبرز القضايا الشائكة المطروحة للنقاش العمومي في الساحة السياسية والفكرية. فبالمقارنة مع الدروس الافتتاحية التي كان يلقيها الوزير الراحل عبد الكبير العلوي المدغري، تتميّز الدروس الافتتاحية الملقاة من قبل أحمد التوفيق بطابعها السجالي أكثر مع يطرح في النقاش العمومي من آراء ومبادرات سواء من التيار الإسلامي أو العلماني، كما أن خطاب أحمد التوفيق يجمع في توليفة متناغمة بين اللغة الصوفية المغرقة في عالم الإشارات والتقليد وبين الاستدلال النظري بأعلام الفكر الغربي في الفلسفة والتاريخ والسياسة. هذا ما يجعل المتتبع أمام درس ترافعي كلّه إشارات وتنبيهات في سبيل الانتصار لخصائص" الإسلام الرسمي" وفق قراءته التوفيقية (نسبة للوزير). وقد عرفت الدروس الحسنية في عهد الملك محمد السادس تطورا على مستوى التجديد التنظيمي والانفتاح السياسي، فعلى المستوى التنظيمي شهدت هذه الدروس في سابقة من نوعها منذ تأسيسها إشراكا للمرأة العالمة والمثقفة الدينية، من خلال مساهمة رجاء ناجي المكاوي الأستاذة الجامعية في القانون الخاص بكلية الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط والعضوة بالمجلس العلمي الأعلى حاليا في رمضان لسنة 2003 بدرس حسني حول الأسرة بعنوان "كونية نظام الأسرة في عالم متعدد الخصوصيات" ثم لتليها مشاركة فريدة زمرد الأستاذة بدار الحديث الحسنية في رمضان سنة 2005 بإلقاء درس بعنوان "المرأة في القرآن بين الطبيعة والوظيفة" والقاضية السعدية بلمير، عضوة بالمجلس العلمي الأعلى حاليا، بموضوع "حركة التقريب بين المذاهب: منطلقاتها وآفاقها المستقبلية" في رمضان 2006، ليصبح حضور المرأة في هاته الدروس عرفا ساريا يتساوق مع الانفتاح الرمزي والقانوني والسياسي التي تشهده البلاد في تدبير قضية المرأة على الصعيد النخبوي. على الصعيد السياسي تميزت الدروس الحسنية في أوائل عهد الملك محمد السادس بانفتاحها على بعض رموز الحركة الإسلامية المغربية المقربين تنظيميا وفكريا من حركة التوحيد والإصلاح العمق التنظيمي لحزب العدالة والتنمية، فقد تم استدعاء أحمد الريسوني مع تحمله لمسؤولية رئاسة حركة التوحيد والإصلاح سنة 1999 لإلقاء درس حسني بعنوان "مقاصد البعثة المحمدية" بين يدي الملك محمد السادس، بعد شهور من توليه الحكم، وكان حضور الفقيه المقاصدي أحمد الريسوني بمثابة تتويج ونجاح لوساطة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق عبد الكبير العلوي المدغري في إرساء عملية الإدماج الديني لإسلاميي التوحيد والإصلاح بعد نجاح عملية إدماجهم السياسي بولوجهم للحياة السياسية الرسمية بقيادة عبد الكريم الخطيب. كما أن دعوة أحمد الريسوني هذه، جاءت عربونا عن رضا المؤسسة الملكية عن الحركة ورموزها بعد بيان البيعة للملك محمد السادس الذي أصدرته حركة التوحيد الإصلاح بعد وفاة الملك الحسن الثاني. وفي نفس سياق الانفتاح على الرموز الحركي السابقة شارك فريد الأنصاري في رمضان سنة 2004 بدرس حسني قدمه بصفته رئيسا للمجلس العلمي بمكناس بعنوان: "القرآن الكريم روح الكون ومعراج التعرف إلى الله تعالى"، كما شارك الدكتور محمد الروكي سنة 2005 بدرس حسني بعنوان "جمالية التفقه في المذهب المالكي" . فكان حضور هذه الرموز العلمية من تيار التوحيد والإصلاح إيذانا باستقطاب الدولة للعديد من الأسماء الوازنة في التنظيم المشتغلة في مجال العلوم الشرعية بالجامعة المغربية لتنخرط في المجالس العلمية والمندوبيات الإقليمية لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. ارتباط الدروس الحسنية الرمضانية بالمراسيم الملكية الموروثة عن عهد الملك الحسن الثاني، يجعلها تحيل في سياق واحد: على مبدأ سمو المكانة الدينية للملك باعتباره أميراً للمؤمنين، الذي يحرص على الحضور الشخصي فيها، وختم كلّ دروسها بصلاة "الفاتح" التيجانية، كما تظهر حرص السلطة السياسية على دعم مشروعيتها الدينية بخطاب العلماء وحضورهم إلى جانب الملك في حماية شؤون الملة والدين، مما يجعل من الدروس الحسنية مع بثها المباشر عبر الإذاعة والتلفزة الوطنية، فرصة ثمينة للعلماء لتأكيد حاجة الدولة والمجتمع إليهم باعتبارهم نخبة دينية لها أهميتها الرمزية والواقعية في تدبير شؤون الحكم والدين، بالرغم من كل الإكراهات الذاتية والسياسية والقانونية التي ترزح في خضمها، وتكبح طموحها لأداء أدوارها التربوية والعلمية في حقل الدعوة، و تحدّ مكانتها في اكتساب مركز اعتباري لائق في بنية الدولة. *باحث في العلوم السياسية