تشكل الدروس الحسنية، التي تلقى في حضرة أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، خلال شهر رمضان، "جامعة إسلامية عالمية" متميزة في طريقتها العلمية، متألقة مشرقة في عطاءاتها الفكرية والإسلامية. وتتميز الدروس الحسنية الرمضانية، كما هو الشأن فيها كل سنة، بعدد من المميزات، إذ أنها إضافة إلى حظوتها بالحضور الفعلي لأمير المؤمنين، ما يزيدها نورا وإشراقا، ويكسبها جلالا وبهاء ووقارا، فإنها تتميز بتنوع مواضيعها التي تتناول علوم القرآن والسنة، والتي تشكل عطاء فكريا إسلاميا يتنامى مع مرور السنوات، ومعينا فياضا ورافدا غنيا للمتعطشين للثقافة الإسلامية الرصينة ورواد الفكر الإسلامي المشرق.
وفي هذا الصدد، يقول الأستاذ عمر بنعباد، منسق الهيئة العلمية للإفتاء بالمغرب عضو المجلس العلمي الأعلى، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، إن الدروس الحسنية ثروة علمية غزيرة، إذ تعتبر، بحق، رصيدا علميا غزيرا، ومرجعا فقهيا زاخرا، وذخيرة فكرية ثمينة، وموسوعة إسلامية وثقافية كبيرة، ومصدرا ثرا وافرا للدارسين والباحثين المتخصصين المهتمين، بفضل ما احتوته واشتملت عليه من بحوث ومحاضرات أكاديمية عميقة ومتنوعة في العلوم الشرعية الإسلامية، وغيرها من العلوم والمعارف الحضارية الإنسانية.
إن الدروس الحسنية الرمضانية، يقول الأستاذ بنعباد، امتداد متواصل للدروس الدينية الجليلة التي أسسها جلالة المغفور له الحسن الثاني، أكرم الله مثواه، ويصدق عليها حديث النبي صلى الله عليه وسلم "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء"، ويجعلها تتسم بكونها قبس من مشكاة النبوة، وإشراقة من هديها ونورها الإسلامي الوهاج.
وأضاف أنه بنفس الروح الإيمانية العميقة، والنظرة الواعية المتبصرة، تواصل الدروس الحسنية رسالتها الدينية والثقافية والحضارية الإنسانية، وتحافظ على أصالتها المجيدة وتقاليدها العريقة المرعية، وتزداد تألقا وإشراقا، في عهد أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، بفضل ما يوليه لها من عناية سامية، ويضفيه عليها من رعاية مولوية كريمة، ويستضيف لها من كبار علماء البلاد الإسلامية وغيرها من أنحاء المعمور إلى جانب إخوانهم علماء المملكة.
من جهته، أبرز الأستاذ عبد الله اكديرة، رئيس المجلس العلمي المحلي للرباط، في تصريح مماثل، أنه تجسيدا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الوارد في صحيح مسلم "لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة"، ومن أجل هذه البشارة المباركة لأهل المغرب، وتحقيقا لهذه المكرمة الإسلامية، تعمل إمارة المؤمنين بالمغرب على إقامة هذه الدروس الحديثية منذ عهد بعيد، يلقيها علماء من المغرب وعلماء زوار من جميع أقطار المعمور، دروس علمية تترسم خطى العلماء الأسلاف الأمجاد الذين جمعوا إلى العلم أخلاق السلوك القويم والعمل.
وتبقى مجالس الدروس الحسنية الرمضانية منبرا علميا يتفرد المغرب بإقامته على باقي دول العالم العربي والإسلامي، يحضره صفوة من العلماء الأجلاء من جميع بلدان العالم، وكوكبة من المشايخ والدعاة والقراء وأصحاب الفكر والثقافة من المغرب وخارجه، يتناولون خلاله بالدرس والتحليل آيات بينات من كتاب الله وأحاديث من سنة الرسول، لإبراز مزايا الإسلام ومقاصده وحكمه وأحكامه، وتأدية واجب بيان الدين للناس من معينه الصافي ومنبعه الزاخر، بعيدا عن الأفهام المغرضة والتأويلات الجائرة.
ويوضح ذلك الأستاذ عبد الله اكديرة بقوله إن العلماء يستدعون في شهر رمضان الأبرك ليلقوا دروسا بين يدي أمير المؤمنين تتناول مختلف العلوم من تفسير وحديث وفقه وتصوف، بالإضافة إلى ما يشغل بال العالم اليوم من القضايا، التي إن لم تتم المبادرة إلى حل مشاكلها بالعلم والأخلاق الإسلامية فإنها ستتفاقم وتؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، لذلك فإن هذه الدروس نقطة مضيئة للتواصل والتقارب وترسيخ لغة الجدل والحوار بين مختلف ألوان الطيف الإسلامي، ومحطة لعشرات بل مئات العلماء والفقهاء من مختلف بقاع المعمور يتدارسون خلالها شؤون وشجون الأمة الإسلامية، وفق منهجية علمية مع الحكمة والوسطية في الطرح والمعالجة.
وأضاف أن العلماء من العالم الإسلامي أجمع، بل حتى في بلدان العالم غير الإسلامي ممن هداهم الله إلى الإسلام، يحرصون على أن يشاركوا في الدروس الحسنية الرمضانية، وأن ينالوا شرف الدعوة لإلقاء دروسهم بها : أولا لأنها دروس ذات قيمة علمية عليا تتسم بالرصانة والجدة والبحث العميق الذي لا يقوم به إلا كبار العلماء الذين صرفوا حياتهم في طلب العلم والعمل به وتعليمه وتبليغه، فهي (الدروس) جامعة تعلم وتهذب وترفع وتبارك وتزكي.
وأشار إلى أن أمير المؤمنين يحرص على أن يشارك فيها العلماء من جميع مجالات العلم وميادينه، متيقنا جلالته من أن العلم النافع ليس ما اتفق عليه البعض من أنه تلك العلوم الدينية الصرفة، فكل العلوم هي علوم إذا نفعت وأصلحت وزكت توصل الناس إلى الله وتؤدي إلى نيل رضا الله ومحبته، هي دروس أراد من خلالها أمير المؤمنين تثبيت وترسيخ مكانة العلماء والفقهاء، والحرص على أن يكون دورهم فعالا في تحصين الانحرافات العقدية والدينية.
ولعل ما يدعو إلى الاعتزاز بهذه الدروس والمجالس هو ذلك المشهد الفريد في العالم الإسلامي، حيث يجلس أمير المؤمنين، في جو رباني وأفق علمي رحب كله نفحات وهيبة وجلال وألق وعلمº على البساط في رفعة المتواضعين، محاطا بكبار رجال الدولة والعلم والشرف وسفراء مختلف البلاد الإسلامية، ومحاطا بالعلماء من جميع أنحاء العالم الذين يرتقون على كراسي التدريس، ويصغي إليهم أمير المؤمنين بإمعان وشغف المستزيد من العلم، ويحتفي بهم حفظه الله ويكرمهم التكريم الذي يستحقه الكرام.
إنه محفل علمي ديني ينقل عبر مختلف وسائل الإعلام والاتصال ليشع بمعانيه وإشاراته على العالم، واشجا ببهاء بين الجلال والجمال، بين الروحانية والاغتباط، بين الدعوة إلى البناء والتعلم ونبذ الجهل والإقلال، وقد تعطر هذا المقام العلمي الرفيع، الذي يستهل بتلاوة آي من الذكر الحكيم، بعد الإذن المولوي السامي ببسط وتبيان موضوع الدرس، بمساهمة العلماء، بما فتح الله عليهم من نور العلم وفيض المعرفة، بمعان وعبر واستخلاص للدروس وتقعيد وتبصير لما فيه صالح الناس والبشرية جمعاء حاضرها ومستقبلها.
فإذا انتهى العالم المحاضر من إلقاء درسه الحسني، يختم المجلس أمير المؤمنين بدعاء الختم مصليا على جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم يتقدم للسلام على جلالته العالم المحاضر وضيوف جلالته من العلماء المشاركين، وكلهم متضرعون إلى الله العليم الحكيم باستدامة هذا المحفل الفكري الرمضاني.
وفي ذلك يقول الأستاذ عبد الله اكديرة إنها فعلا صورة ومشهد يشعر كل من حضره أو تابعه إعلاميا بالخشوع، وإذا كان مغربيا فإنه يشعر بالافتخار والاعتزاز بأن هذا البلد، الذي عرف الإسلام منذ ما يقرب من 13 قرنا، حافظ على هويته، وثبت، بالاقتناع والاختيار، جميع ثوابته من المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، عقيدة أهل السنة والجماعة والتصوف السني الذي يطبع أخلاق أهل المغرب بالسماحة والتوسط والاعتدال والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة والمجادلة بالتي هي أحسن.
وتتحول هذه الدروس مناسبة للمشاركين فيها لإلقاء الدروس والمحاضرات في المساجد والجامعات والمؤسسات التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بعدد من مدن المملكة، وللتباحث وتبادل الرؤى مع علماء المملكة المحققين ومع مفكريها وطلبتها.
كما يحضر هذه الدروس ممثلو العديد من الأقليات الإسلامية ورموزها في مختلف القارات، فتكون مناسبة للتعرف على أوضاعهم وأحوالهم وهمومهم واحتياجاتهم والظروف التي يمارسون فيها شعائرهم وإعطائهم الفرصة للتعبير عن متطلباتهم.
وإضافة إلى حرص العلماء المشاركين في هذه الدروس على تبيين وتبصير الناس بمعاني الإسلام السامية ومنهجه القويم الذي يساعد على فهم أمثل للحياة وكيفية التعامل معها والبحث عن حلول قمينة برفعة المجتمع الإسلامي وتقيده بالمشاركة الفعلية والفعالة على هدي من تعاليم الفهم الصحيح والسليم للكتاب والسنة بلا إفراط ولا تفريط، فإنهم يتناولون كذلك مواضيع راهنية تلامس ما استجد من اكتشافات علمية وتقنية ونظريات ثقافية وسياسية واقتصادية، فالدروس الحسنية لم تعد تهتم فقط بما هو فقهي خالص بل تعدتها إلى البحث في عوالم ثقافية وعلمية واقتصادية.
وقد تميزت الدروس الحسنية في عهد أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس بفتح صفحة جديدة غير مسبوقة في العالم الإسلامي، وذلك بأن أذن جلالته بإشراك المرأة المغربية في هذه الدروس الحسنية، فاعتلت المرأة لأول مرة المنبر الحسني في شخص رجاء الناجي المكاوي، الأستاذة بكلية الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط.
ومنذ ذلك الوقت، توالت الخطيبات والعالمات المغربيات على منابر الدروس الحسنية، وهذه الاستضافة للمرأة المغربية اعتبرت منعطفا كبيرا واعترافا جميلا بالنسبة لقدرات المرأة المغربية على الإدلاء بمعارفها في مجال الفقه والعلوم الشرعية.
ويقول الأستاذ بنعباد، بهذا الخصوص، إن هذه الدروس المباركة ازدانت وتميزت في عهد جلالته بمشاركة المرأة العالمة المغربية فيها بدروس قيمة، حيث أذن حفظه الله وفسح المجال لها بالحضور فيها، والإسهام الفكري والمشاركة الفعلية فيها بإلقاء دروس دينية أكاديمية، في المستوى الرفيع بين يدي جلالته في هذا المحفل الديني والمنتدى العلمي المتميز، ما عرف بمكانة المرأة المغربية العالمة في العلوم الشرعية والاجتماعية، وبرهن بذلك عن كونها شقيقة الرجل فيما يمكن أن تناله وتحصله من علوم شرعية وإنسانية مجتمعية، وتصل إليه من حظوة علمية مرموقة بين النساء المسلمات، والعالمات المثقفات في أنحاء المعمور بفضل النظرة التقديرية والاعتبارية التكريمية للمرأة عموما، والمرأة العالمة المثقفة خصوصا من لدن جلالته، راعي العلم والعلماء.
ويعطف عليه الأستاذ اكديرة بالقول إنه تأسيسا على ما عرف في القرآن والسنة والسيرة، وما أثر عن السلف الصالح من تكريم المرأة والعناية بها واحترامها ما يسير على الألسنة، فإن أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نهج هذا النهج الكريم فجعل المرأة تقوم بواجبها العلمي والتعليمي والاجتماعي. فشاركت في الدروس الحسنية بدروس ناجحة أثبتت كفايتها وجدارتها بالثقة التي حظيت بها من أمير المؤمنين.
إن الدروس التي ساهمت بها المرأة في هذه المجالس الدينية السلطانية، يقول رئيس المجلس، قد جعلت المجتمع المغربي نموذجا للأمم التي تسعى إلى تكريم المرأة وتقديرها حق قدرها وإعطائها ما تستحقه، وما هي أهل له من المكانة ومن ضرب المثل العالي في العمل لصالح البلاد والعباد.
إن الاهتمام بمسيرة الدروس الحسنية يندرج تحت عنوان رئيسي هو : الحرص المغربي على هوية المغرب الدينية، وتبصير الناس بالمعاني السامية للإسلام الوسطي ومنهجه القويم الذي يعطي للعقل منزلته دون تطرف أو غلو وفرصة لتمتين الروابط والوشائج بين علماء المسلمين كافة، وندوة إسلامية عالمية تشع منها الفيوضات والبركات والعطاء في شهر الصيام، وتجمع شمل المسلمين، وتقرب فيما بينهم ويعم خيرها على الجميع، لتتحقق لغة التواصل والتحاور التي تتبناها المملكة، قيادة وشعبا، وتحقيق الأنموذج الفعال المناط بالعلماء الذين يرثون جينة المساهمة في رقي وخدمة المجتمع.
ولعل ذلك ما جعل الدروس الحسنية، في عمومها، تحقق مقاصد حكيمة ومرامي بعيدة تتمثل في الحفاظ على أصالة العلوم الشرعية، ومنهجية إلقائها وعرضها، وطريقة تدريسها، التي عرف بها العلماء المغاربة، وفي إشاعة التعريف بحقيقة الإسلام وإشراقاته الباهرة، وشريعته السمحة.