كثيرا ما يتبادر للأذهان ونحن نتناول ثنائية الحقوق والواجبات، السؤال الجوهري الذي اهتم به مبكّرا الفلاسفة وعلماء القانون والأخلاق: من الأسبق والأولى في الإقرار : الواجب أم الحق ؟ ومن ثمة ما موقع الحرية في هذا التناسق ؟ يذهب فلاسفة «القانون الطبيعي» إلى أن العدالة الحقّة تقتضي تقديم الحقوق على الواجبات، باعتبار الحق هو معطى طبيعي (مثل حق الحياة والحق في الحرية)، حيث أنه بمجرد أن يولد المرء، تثبت له هذه الحقوق مباشرة دون أن يطالب بها. إن مدنية واجتماع الإنسان، دفعت به إلى التواضع والتفكير في آليات لترسيخ «العقد الإجتماعي»، ومن ثمة اختلف المفكرون حول تطبيق العدالة برمّتها، إذ يرى البعض منهم أن الحق أولى من الواجب، في حين يذهب الآخرون إلى أن الواجب أسبق. إن العدالة الحقيقية، في اعتبار كثير من الفلاسفة، من بينهم سقراط و جون لوك، هي التي تؤسس لأسبقية الحق على الواجب، على اعتبار أن القانون الطبيعي سابق لنشأة الدولة، وبذلك فإن حق الفرد سابق لواجب الدولة أيضا. مرجعية القانون الوضعي فيما يخص حقوق الانسان، تستمد من فلسفة القانون الطبيعي، إذ أن المادة الثالتة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1789 تنص على أن : «هذف كل جماعة سياسية هو المحافظة على حقوق الانسان الطبيعية». ومن جهة أخرى يعتبر أفلاطون «العدل هو أداء الفرد لواجبه وامتلاكه لما يخصه» فيقدّم بذلك أداء الواجبات على امتلاك الحقوق، في حين تولي الفلسفة الحديثة كما نجد مع كانط الأولوية للواجب على حساب الحق، لأن الأخلاق تقوم على فكرة الواجب لذاته. الأمر نفسه نجده عند علماء الاجتماع، وعلى رأسهم دوركايم الذي يؤكد على الطابع الاجتماعي للأخلاق التي هي نابعة في الأصل من الواجب. إنه لا تجوز المطالبة بالحق دون القيام بالواجب، ذلك أن حق الفرد، هو نتيجة في الحقيقة نتيجة لواجبات الأخرين نحوه، وعليه فالواجب سابق لاقرار الحق. إن العدالة تقوم على التوفيق بين الواجبات والحقوق، وعند هذا المستوى يظهر مدى تطور وإنسانية الأنظمة القانونية المقارنة، حيث يتم تحقيق توازن بين الحق من جهة والحرية، بالتالي ينال الفرد حقوقا في مقابل واجبات والتزامات يلتزم بها. وسعيا من المشرّع لتحقيق التوازن والتناسق في التشريعات التي يؤسس عليها العدلة، يستحضر في إعداد القوانين قواعد الدقة والوضوح، إذ لابد من مراعاتها والتأكد من توفرها على صياغة تجعلها «قاعدة عامة، مجرَّدة وملزمة». هذا فضلا عن احترام منطق العلاقة فيما بين القوانين القائمة والتشريع المقترح، وكذا الانسجام مع أساليب الصياغة الرسمية في الدولة. في الفصل 37 من دستور 2011، ينص المشرع على ثلاثية: الحق، الحرية و الواجب إذ أنه « على جميع المواطنات والمواطنين احترام الدستور والتقيد بالقانون. ويتعين عليهم ممارسة الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور بروح المسؤولية والمواطنة الملتزمة، التي تتلازم فيها ممارسة الحقوق بالنهوض بأداء الواجبات». نظرياً تتوزع مجالات الحرية على مجالات الحياة كافة، إلا أن الحريات الأساسية للإنسان تتركز في ستة أصناف، تتفرع منها أقسام عدة من الحقوق، فالحريات هي مجموع الحقوق والامتيازات التي يجب على الدولة أن تؤمّنها لحماية مواطنيها أو رعاياها، وهي تشير بصورة عامة إلى الحريات الأساسية التي يخوّلها الدستور للمواطن، من حقوق أساسية فردية وجماعية لكن من الذي يسبق في الإقرار، الحرية أم الحق ؟ الواضح أنه ما دامت ثنائية الحق والحرية تجد أصلها في عمق فلسفة القانون الطبيعي، فإن ابن العبد الذي فقد حريته هو بدوره يولد محروما من كل الحقوق الأساسية الأخرى. فلولا الحرية ما عرف الإنسان الحقّ أصلا، وعليه تعتبر الحرية قاعدة وأساس كل الحقوق. وحيث أن الدستور هو أسمى وثيقة قانونية ترجع و تنهل منها باقي أنواع التشريع في الوطن، فإن المشرّع الدستوري المغربي في تصديره لدسور 2011 ينص على أنه «وإدراكا منها لضرورة تقوية الدور الذي تضطلع به على الصعيد الدولي، فإن المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا. كما تؤكد عزمها على مواصلة العمل للمحافظة على السلام والأمن في العالم». بعد هذا الإقرار للمبادئ والحقوق والواجبات، المتضمَّنة في المواثيق الدولية، التي تسمو بالمناسة، على دستور المملكة. ينص المشرع في دستور 2011، في عنوان الباب الثاني على «الحريات و الحقوق الأساسية» في حين أشار إلى هذا الزوج معكوسا (الحقوق و الحريات الأساسية) في الفصول التي يحويها هذا الباب (الفصول 19، 34 و 37) الفصل 19 «احترام الحقوق والحريات المنصوص عليها في الفصل المذكور، مع مراعاة الاختصاصات المسندة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان». الفصل 34 «تقوم السلطات العمومية بوضع وتفعيل سياسات موجهة إلى الأشخاص والفئات من ذوي الاحتياجات الخاصة. ولهذا الغرض، تسهر خصوصا على ما يلي: ء إعادة تأهيل الأشخاص الذين يعانون من إعاقة جسدية، أو حسية حركية، أو عقلية، وإدماجهم في الحياة الاجتماعية والمدنية، وتيسير تمتعهم بالحقوق والحريات المعترف بها للجميع» حيث يختص القانون، بالإضافة إلى المواد المسندة إليه صراحة بفصول أخرى من الدستور، بالتشريع في الميادين التالية». و ذكر «الحقوق والحريات الأساسية المنصوص عليها في التصدير و فصول أخري». في الفصل 37، ينص المشرع على ثلاتية : الحق، الحرية و الواجب إذ أنه « على جميع المواطنات والمواطنين احترام الدستور والتقيد بالقانون. ويتعين عليهم ممارسة الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور بروح المسؤولية والمواطنة الملتزمة، التي تتلازم فيها ممارسة الحقوق بالنهوض بأداء الواجبات». ثم إن الملك (الفصل 42) «رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة”. كما استثنى المشرع معاهدات الحقوق والحريات من توقيع الملك في الفقرة 2 من الفصل 55 الذي ينص على أنه «يوقع الملك على المعاهدات ويصادق عليها، غير أنه لا يصادق على معاهدات السلم أو الاتحاد، أو التي تهم رسم الحدود، ومعاهدات التجارة، أو تلك التي تترتب عليها تكاليف تلزم مالية الدولة، أو يستلزم تطبيقها اتخاذ تدابير تشريعية، أو تتعلق بحقوق وحريات المواطنات والمواطنين، العامة أو الخاصة، إلا بعد الموافقة عليها بقانون». الفصل 133 «تختص المحكمة الدستورية بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون، أثير أثناء النظر في قضية، وذلك إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون، الذي سيطبق في النزاع، يمس بالحقوق وبالحريات التي يضمنها الدستور». الفصل 161 «المجلس الوطني لحقوق الإنسان مؤسسة وطنية تعددية ومستقلة، تتولى النظر في جميع القضايا المتعلقة بالدفاع عن حقوق الإنسان والحريات وحمايتها، وبضمان ممارستها الكاملة، والنهوض بها وبصيانة كرامة وحقوق وحريات المواطنات والمواطنين، أفرادا وجماعات، وذلك في نطاق الحرص التام على احترام المرجعيات الوطنية والكونية في هذا المجال». في العنوان الذي يلي الفصل 160 من أجل استعراض الهيئات مؤسسات وهيئات حماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة والتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية”. هذا، وبعد تناول المشرع الدستوري لثنائية الحقوق و الحريات، يعود في فصول أخرى متفرقة (الفصل 11، 27، 59 و 175) لاستعمال العبارة الثنائية المتضمة في عنوان الباب الثاني (الحريات و الحقوق الأساسية) في ختام الباب الثالت (الملكية)، الفصل 59 ينص عن الحريات و الحقوق الأساسية كما هو في عنوان الباب الثاني. في الفصل 11 «يحدد القانون القواعد التي تضمن الاستفادة، على نحو منصف، من وسائل الإعلام العمومية، والممارسة الكاملة للحريات والحقوق الأساسية، المرتبطة بالحملات الانتخابية، وبعمليات التصويت. وتسهر السلطات المختصة بتنظيم الانتخابات على تطبيقها». أما الفصل 27 “لا يمكن تقييد الحق في المعلومة إلا بمقتضى القانون، بهدف حماية كل ما يتعلق بالدفاع الوطني، وحماية أمن الدولة الداخلي والخارجي، والحياة الخاصة للأفراد، وكذا الوقاية من المس بالحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور، وحماية مصادر المعلومات والمجالات التي يحددها القانون بدقة”. الفصل 59 «إذا كانت حوزة التراب الوطني مهددة، أو وقع من الأحداث ما يعرقل السير العادي للمؤسسات الدستورية، أمكن للملك أن يُعلن حالة الاستثناء بظهير، بعد استشارة كل من رئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس المستشارين، ورئيس المحكمة الدستورية، وتوجيه خطاب إلى الأمة. ويُخول الملك بذلك صلاحية اتخاذ الإجراءات التي يفرضها الدفاع عن الوحدة الترابية، ويقتضيها الرجوع، في أقرب الآجال، إلى السير العادي للمؤسسات الدستورية. لا يحل البرلمان أثناء ممارسة السلطات الاستثنائية. تبقى الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور مضمونة. تُرفع حالة الاستثناء بمجرد انتفاء الأسباب التي دعت إليها، وباتخاذ الإجراأت الشكلية المقررة لإعلانها”. الفصل 175 «لا يمكن أن تتناول المراجعة الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي، وبالنظام الملكي للدولة، وبالاختيار الديمقراطي للأمة، وبالمكتسبات في مجال الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور ». في الأخير، قد تكون ثنائية «الحقوق و الحريات» من جهة و «الحريات و الحقوق» من جهة ثانية، تؤدي نفس المعنى المقصود من طرف المشرع الدستوري. لكن حيث أن الدستور أسمى وثيقة في التشريع، وحيث أن المتخصصين في فلسفة القانون، يفرقون بين الإثنين، فإن الصياغة المتكاملة والسليمة لمجموعة نصوص قانونية، تستوجب ضرورة وجود تناسق بين العناوين ومضامين الفصول.