تطورت الفلسفة الغربية بخصوص حقوق الإنسان على مستويين: مستوى أفقي ومستوى عمودي. عرفت الفلسفة الغربية لحقوق الإنسان تطورا على المستوى الأفقي تجلى في تطور طبيعة الدولة أولا، والإقرار بجدلية الحقوق السياسية/المدنية والحقوق الاقتصادية/الاجتماعية ثانيا. إن تطور فلسفة حقوق الإنسان هو نتاج تلاقح إرثين ثوريين: إرث ثورة 1789 بفرنسا وإرث ثورة 1917 بالاتحاد السوفياتي. تجسد ثورة 1789 الفلسفة الليبرالية لحقوق الإنسان، وتقوم الفلسفة الليبرالية على اعتبار الدولة دولة «حارسة» يقتصر دورها على أداء ثلاث وظائف: وظيفة الدفاع ووظيفة الأمن الداخلي ووظيفة القضاء. وباعتبار الدولة الليبرالية دولة حارسة، فهي «سلبية» لا تتدخل في شؤون مواطنيها. ووفق هذا المنظور، سيتم تصور حقوق الإنسان، بحيث تم اختزالها في الحقوق ذات الطابع المدني والسياسي. يتمثل المذهب الفلسفي للحقوق في إطار الدولة الحارسة في المذهب الفردي، هذا المذهب الذي يرتكز على مجموعة من المبادئ: الفرد سابق على الدولة، ووظيفة الدولة هي حماية حقوق الفرد. وما دامت الدولة الحارسة دولة سلبية فإنه ليس بإمكانها أن توفر الحقوق ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي ويتم التركيز على الحقوق دون الواجبات. يجسد «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»، الصادر عن الثورة الفرنسية بتاريخ 4 غشت 1789، الفلسفة الليبرالية أفضل تجسيد، فهو نتاج التصور السائد حول الالتزامات السلبية للدولة الليبرالية. وقد حدد أحد الباحثين الفرنسيين خمسة مصادر لإعلان حقوق الإنسان والمواطن: أولا، «مونتسكيو» الذي اقتبست منه فكرة «فصل السلطات». وثانيا، «روسو» الذي أخذت منه فكرة «السيادة الوطنية». وثالثا، التجربة الإنجليزية التي تعتبر الحريات السياسية ضمانة للحريات العامة. ورابعا، التجربة الأمريكية الولوعة بإعلان المبادئ العامة والمجردة. وخامسا، فلاسفة القرن الثامن عشر -وعلى رأسهم «لوك»- الذين أكدوا احتفاظ الإنسان بحقوقه الطبيعية رغم إبرامه العقد الاجتماعي. يتكون «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» من 17 مادة قررت مجموعة من الحقوق المدنية والسياسية، نذكر منها: المساواة (المادة 1)، وحرية الرأي (المادة 10)، وحرية التعبير (المادة 11)، وتقديس حق الملكية (المادة 17). تشخص ثورة 1917 الفلسفة الاشتراكية لحقوق الإنسان، وتتأسس هذه الفلسفة على اعتبار الدولة دولة «تدخلية» تتصف بخاصيتين مركزيتين: الهيمنة السياسية/الإيديولوجية التي تتم بواسطة نظام الحزب الوحيد (الحزب الشيوعي) والهيمنة الاقتصادية/الاجتماعية التي تمارس من خلال المخطط الاقتصادي. ترتكز الدولة التدخلية في تصورها لحقوق الإنسان على المذهب «الجماعي» الذي يتسم بمجموعة من المواصفات: أولوية الجماعة على الفرد والتضحية بحقوق الفرد إذا ما تعارضت مع حقوق الجماعة والموازنة بين الحقوق والواجبات. لقد أبرزت الفلسفة الاشتراكية (الماركسية) الطابع الشكلي للحريات المدنية والسياسية والتي أصبحت تنعت بالحريات الكلاسيكية، وأحلت محلها حقوقا جديدة هي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وهذه الحقوق لا يمكن أن توفرها إلا الدولة، لذلك تم إحلال الدولة محل الفرد. وقد جسد الدستور السوڤياتي، الصادر بتاريخ 5 دجنبر 1936 زمن «ستالين»، هذا التصور الجديد للحقوق، حيث كان يحمل بابه العاشر عنوان: «الحقوق والواجبات الأساسية للمواطن»، حيث قرر حقوقا لم تكن واردة في إعلان حقوق الإنسان والمواطن بفرنسا، وهي طبعا حقوق اقتصادية واجتماعية، منها: الحق في العمل بحيث يكون مضمونا ومؤدى عنه (الفصل 118) والحق في الراحة (الفصل 119) والحق في التأمين المادي في فترة الشيخوخة (الفصل 120) والحق في التعليم (الفصل 121). لقد استفاد الغرب الليبرالي كثيرا من فلسفة حقوق الإنسان في المنظومة الاشتراكية، ومن بين الأفكار المتبناة فعالية السلطة في مواجهة حرية الفرد، هذه الفعالية التي تمنح حضورا للدولة يمكنها من ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهكذا أصبح الغرب الليبرالي منذ ثورة 1917 لا يفصل بين الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية. فدستور الجمهورية الرابعة بفرنسا، الصادر بتاريخ 27 أكتوبر 1946، انبنى على تصور جدلي لحقوق الإنسان، إذ أقر الحقوق المدنية والسياسية من خلال الإحالة على مبادئ إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789، ثم قرر مجموعة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في ديباجته التي تتضمن 18 مادة، منها: الحق في العمل والحرية النقابية والحق في الإضراب والحق في الصحة والتأمين المادي والحق في الراحة وأوقات الفراغ والحق في التعليم. وقد تبنى دستور الجمهورية الخامسة بفرنسا (1958) أيضا نوعي حقوق الإنسان من خلال ديباجته التي ورد فيها: أن «الشعب الفرنسي يعلن باعتزاز تمسكه بحقوق الإنسان ومبادئ السيادة الوطنية كما عرفها إعلان عام 1789 وأكدتها وأكملتها ديباجة دستور عام 1946». بشكل عام، فقد ازدهرت في أوربا الوسطى بين 1919 و1939 إعلانات حقوق تحاول التوفيق بين ميراث ثورة 1789 وميراث ثورة 1917. ولقد رسخت هيئة الأممالمتحدة هذه الجدلية وأكدت أنه لا يمكن توفير الحقوق المدنية والسياسية بدون ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. لم تعد مسألة حقوق الإنسان مسألة «داخلية» مرتبطة بسيادة الدولة، بل اتخذت بعدا «كونيا» تجلى في صدور مجموعة من الإعلانات والمواثيق الدولية، كما تبنت كثير من الدول هذه الإعلانات دستوريا. إن تطور حقوق الإنسان على المستوى العمودي جعل مجال التشريع في هذا الميدان يتجاوز القانون الداخلي للدولة ليصبح من اختصاص القانون الدولي العام. لقد لعبت هيئة الأممالمتحدة منذ تأسيسها سنة 1945 دورا بارزا في ترسيخ عالمية حقوق الإنسان، فميثاقها أكد ضرورة احترام هذه الحقوق واعتبرها التزاما دوليا على كل دولة أن تعمل به، وأن المجتمع الدولي عليه أن يتدخل لحماية هذه الحقوق في حالة انتهاكها. كما جعلت هيئة الأممالمتحدة من أهدافها، حفاظا على الاستقرار والسلم الدوليين، أن يشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء ومراعاة تلك الحقوق والحريات فعلا. لم تكتف هيئة الأممالمتحدة بالتنصيص على ضرورة احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، بل شكلت مجموعة من الهياكل التنظيمية أناطت بها مهمة الإشراف على احترام حقوق الإنسان، وهي: أولا، الجمعية العامة التي أنيطت بها مهمة إنجاز دراسات وإصدار توصيات بهدف «إنماء التعاون الدولي في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والصحية والإعانة على تحقيق حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس كافة بلا تمييز بينهم في الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء. ثانيا، المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي يندرج ضمن اختصاصاته الحق في أن «ينشئ لجانا للشؤون الاقتصادية والاجتماعية ولتقرير حقوق الإنسان». وتنفيذا لاختصاصاته، أصدر المجلس قرارين: القرار الأول (رقم 1/5 في فبراير 1946) تم بواسطته إنشاء لجنة حقوق الإنسان، والقرار الثاني (رقم 9 بتاريخ 21 يونيو 1946) أبان كيفية تشكيل لجنة حقوق الإنسان وحدد اختصاصاتها. لم يتضمن ميثاق هيئة الأممالمتحدة تحديدا لمضمون حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، لقد طالبت مجموعة من الدول، كالشيلي وبناما وكوبا، بتسطير لائحة من الحقوق في الميثاق، غير أن جهودها باءت بالفشل. ولكن رغم هذا الفشل، فقد أثير موضوع تحديد حقوق الإنسان من جديد في الدورة الأولى للجمعية العامة سنة 1946، وأحيل الأمر على المجلس الاقتصادي والاجتماعي، الذي أحاله بدوره على لجنة حقوق الإنسان التي وضعت مشروع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي تم التوقيع عليه وإصداره بتاريخ 10 دجنبر 1948. يشكل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة بتاريخ 10 دجنبر 1948 إعلانا بالمبادئ، لذلك وقع الاختلاف حول قيمته القانونية، فالاتجاه الغالب يرى أن هذا الإعلان لا يتمتع بأية قوة إلزامية، وعلى رأس المنكرين يوجد الفقيه الفرنسي «شومون» الذي يذهب إلى أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان «يقتصر على ترديد بعض الحقوق دون أن يذكر في هذا الشأن أمورا محددة، فهو يذكر، مثلا، حق الإنسان في الحياة أو العمل، ولكنه لا يذكر على أي نحو يتم له التمتع بهذه الحقوق، فالذين ينكرون على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قيمته القانونية يعتبرونه مجرد توصية غير ملزمة للمخاطبين بها، في حين يوجد اتجاه فقهي آخر يضفي على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قيمة قانونية تدرجه في إطار القانون الدولي العرفي، وبالتالي اعتباره قاعدة عرفية تنطبق عليه مواصفاتها الثلاث: أن تكون محددة المضمون وعامة الخطاب، وأن تكون انعكاسا لإرادة عامة حقيقية، وأن تتأكد من الناحية العملية. ولتجنب كل جدال حول القوة الإلزامية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، صرفت هيئة الأممالمتحدة جهودها إلى تحويل مبادئ هذا الإعلان إلى مواد اتفاقية ملزمة للدول المصدقة عليها، وهكذا لوحظ تطور مهم في التشريع الدولي لحقوق الإنسان، حيث تم الانتقال من التشريع بواسطة التوصيات (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يشكل نموذجا واضحا) إلى التشريع بواسطة تصرفات اتفاقية، أي معاهدات دولية. وفي إطار هذا الشكل الجديد من التشريع، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بتاريخ 16 دجنبر 1966، العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لكن رغم الجدل الفقهي حول حجية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يمكن القول إنه أصبح مندرجا ضمن القواعد الآمرة، وذلك لثلاثة اعتبارات: يتجلى الاعتبار الأول في التأويل الذي منحته الأممالمتحدة للفقرة السابعة من المادة (2) من ميثاقها والتي تنص على منع المنتظم الدولي من التصدي لأية مسألة من المسائل التي تندرج في الاختصاص الداخلي للدول... فالأممالمتحدة اجتهدت في تأويل هذه المادة، إذ لم تعتبر المسائل المرتبطة بحقوق الإنسان من صميم الاختصاص الداخلي للدول. ويتجسد الاعتبار الثاني في ما أكدته محكمة العدل الدولية في قضية Barcelona Traction. بكون قواعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تعتبر قواعد آمرة تتسم بقوة الإلزام. ويتمثل الاعتبار الثالث في تبني عديد من الدول لمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ديباجات دساتيرها. ولقد أثير تساؤل حول القيمة القانونية لديباجة الدستور، وحسم الجدال في فرنسا، إذ أكد المجلس الدستوري القيمة الكاملة لديباجة الدستور من خلال قرارين: القرار الأول صادر بتاريخ 16 يوليوز 1971 والقرار الثاني صادر بتاريخ 12 يناير 1977.