ها هي الحكومة 29، في تاريخ المغرب المستقل، على وشك استيلام مهامها بعد مفاوضات عسيرة ومخاضات كادت أن تجهض لولا تدخل الملك، كالعادة، لإخراجها من عنق الزجاجة. "" وتأتي الحكومة الجديدة، في وقت أنهكت الشعب الخطابات المهتمة بتجميل الظاهر وتلميع المظهر، وأتعبته الوعود الوهمية بخصوص الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة وتكريس المواطنة الحقة. تتسلم الحكومة الجديدة مهامها في وقت حقق فيه الشعب خطوة هامة، لم يسبق أن حققها منذ 1956، إذ تمكنت " الأغلبية الصامتة" أن تتحرر من الوهم السياسي، لاسيما وهم الانتقال الديمقراطي، الذي ظل طافيا على سطح الركح السياسي أكثر من عقد من الزمن، وذلك بعد أن ساهم هذا الوهم في تعميق البؤس والحرمان لدى فئات واسعة من المغاربة إلى أن وصلت حد التذمر، حيث تلت الانتخابات الأخيرة موجة واسعة من الاحتجاجات الصارخة تنديدا بواقع حال مازال يزداد مرارة. هاهم الوزراء القدامى الجدد يجلسون على كراسيهم الدوارة وأمامهم سؤال كبير بدأ يفرض نفسه بقوة من جديد منذ الآن، وأكثر من السابق، رغم الصمت المطبق الذي يحيط به، إنه السؤال القائل: كيف يمكن تحقيق انتقال ديمقراطي فعلي والتحول من حالة الوهم إلى الحقيقة، في ظل التوافق الضمني على تجميد آليات الإصلاح السياسي الدستوري والمؤسساتي. لقد راهنت الأحزاب السياسية التي عاينت أن "الركب قد فاتها" على الانتخابات، معتقدة أنها ستكون بمثابة "عصا موسى" التي ستمكن البلاد والعباد من الانفلات من فكي الأزمة المركبة، لكن حلمها تكسر على صخرة الواقع المر عشية 7 شتنبر الفارط. ولم يعد أمام البعض إلا إعادة تفعيل المكر السياسي وسياسة المكر. فمن المعلوم أن جل الأحزاب السياسية المشاركة في اللعبة أرجأت رسميا الدعوة إلى الإصلاح السياسي والدستوري والمؤسساتي، لكن بمجرد ما ظهرت النتائج النهائية للانتخابات، والتي أكدت أن "الأغلبية الصامتة" قالت كلمة الفصل، تعالت أصوات حزبية، دون سابق إنذار ودون تفسير الأسباب، لتدعو إلى ضرورة الإصلاح السياسي والدستوري والمؤسساتي. إنه لموقف مريب جدا، أليس هذا المشهد من مشاهد الانتهازية والعبثية، إذ بالأمس القريب كانت هذه الأصوات تدافع وبحماس كبير، عن إرجاء قضية الإصلاح الدستوري، وبين عشية وضحاها يقال إن هناك إكراهات ومعوقات قانونية ومؤسساتية ودستورية تحول دون تفعيل آليات المنهجية الديمقراطية؟ ألم يسبق أن تم طرح نفس الإشكالية وبنفس الديباجة بعد انتخابات 2002؟ وقبل هذا وذاك، كيف لتلك الأصوات أن تنادي الآن بضرورة الإصلاح السياسي والدستوري والمؤسساتي، وهي منتمية لأحزاب هامشية، بقوة الواقع، في المشهد السياسي؟ ألم يكن من الأجدى والأفيد لها أن تصمت بعد أن انكشف غياب امتدادها وسط الشعب وهشاشة سند المغاربة لها؟ إن الحقيقة القائمة الآن، أراد من أراد وكره من كره، هي أن المغاربة أضحى مفروضا عليهم مرة أخرى، أن يتحملوا لمدة خمس سنوات قادمة، برلمانا لا يرضي أغلبيتهم وحكومة انبثقت عن انتخابات لم تشارك فيها "الأغلبية الصامتة"، علما أنها حكومة كاد مخاض ولادتها أن يجهض لولا التدخل الملكي في اللحظة المناسبة. فقد تأكد مرة أخرى، أن تدخل الملك ساهم في تجنيب أزمة ظهرت معالمها بجلاء منذ الجولة الأولى من المشاورات، كما تدخل الملك حتى لا يتم توزير مرشحين رفضهم المنتخبون ولم يمنحوهم أصواتهم، علما أنه تبين أن مجموعة من الوزراء أصروا على تولي حقائب في الحكومة 29 رغم أنهم ترشحوا في انتخابات 7 شتنبر وفشلوا فشلا ذريعا في كسب ثقة المغاربة. فهناك أحزاب سياسية يشك المرء في جديتها في التعامل الملموس مع الواقع الملموس، ففي الوقت الذي كان عليها أن تتساءل حول طبيعة ارتباطها بالمواطنين سعيا وراء محاولة إعادة ترميم بيتها والنظر في علاقاتها مع المواطنين، اقتصر اهتمامها فقط على المطالبة بحقائب بعينها. إذن تعالت، هنا وهناك، أصوات لتنادي بالإصلاح السياسي والدستوري والمؤسساتي، بعد أن كانت من أكبر مساندي إرجاء هذا الأمر حتى يريد الملك ويرضى، فماذا تغير لكي تُغَيّرَ هذه الأصوات موقفها رأسا على عقب؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد سذاجة وقصر نظر، فلن نتحامل على أحد إذا قلنا إن بعض تلك التصريحات المفاجئة تحتوي على كثير من المكر والاستخفاف بموقف "الأغلبية الصامتة" أكثر مما تتضمنه من أفكار ورؤى. ومهما يكن من أمر، فمثل هذه التصرفات لن تساعد على ترسيخ المناخ الديمقراطي وتكريس تعامل المغاربة كمواطنين. وإذا كان هذا يدل على شيء، فإنه يدل على أن هناك شعبا حيا وأحزاب سياسية في طور الاحتضار فاقدة لدورها، بعضها أضحى الآن يستجدي تعاطفا نادبة حظها العاثر بعد أن فشلت فشلا ذريعا غير مسبوق في كسب الشارع.