لم يدم طويلا التعايش الصعب بين الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس الحكومة داود اوغلو. فالرجلان اللذان اتفقا على الخطوط الكبرى للسياسة التركية، طفت على السطح خلافات بينهما، رأى فيها اردوغان خطورة إن لم تكن تقويضا لحلمه في نقل تركيا من نظام برلماني إلى نظام رئاسي. فمع صعود صاحب نظرية العمق الاستراتيجي إلى قمرة القيادة في الحزب والحكومة، طرحت استفهامات عديدة حول قدرة هذا الأخير بوصفه واحدا من أبرز الأكاديميين الأتراك على الجمع بين استحقاقات السياسي و إكراهات المنظر. لكن الظروف و السياق الذي جاء فيه اوغلو إلى السلطة لم يكن عاديا، إذ بدت المقولات التي أطلقها مقطوعة الصلة بمنطقة تتهددها زلازل، وباتت فيها السياسة لعبة محفوفة بمخاطر شتى، فكيف يمكن اعتماد مقولة "صفر مشاكل" مع الجيران في ساحة بلغت فيها حدة التجاذبات، منسوبا لا يطاق؟ و كيف يمكن لتركيا كدولة طموحة ومندفعة نحو القيادة في المنطقة أن ترعى و تبقى وفية للتنظير الذي كان قد نحته اوغلو قبل الزج بالمنطقة في يم الخلافات و التطاحنات؟ إن أردوغان و أوغلو اللذين تركا انطباعا على انسجامهما السياسي لفترة زمنية، لم يتمكنا من الصمود والاستمرار في سياق الأحداث والأزمات المشتعلة بالقرب من تركيا، وهو ما جعل من استمرار السلطة برأسين في البلاد، مسألة شبه مستحيلة. فاردوغان، الذي فشل في ربح الرهان الدستوري و القاضي بنقل تركيا من النظام الجمهوري إلى النظام الرئاسي، ظل يتصرف على قاعدة، مفادها أن تركيا باتت في حكم الأنظمة الرئاسية وأن ما بات ينقصها هو التنصيص الدستوري على ذلك، في حين أبدى اوغلو حذرا وحيطة من مغامرة رفيقه، داعيا إلى ضرورة احترام قرار الشعب التركي، الذي لم يمنح أردوغان ورقة المرور إلى النظام الرئاسي، وهو ما دفع بأوغلو إلى اتخاذ مسافة، أزعجت رئيس البلاد والمقربين منه في الحزب. ويبدو أن قناعة اردوغان بالنظام الرئاسي لا حد لها، إذ في عز الأزمة، دعا الجمعة 6 مايو2016 الشعب التركي إلى إجراء تعديل دستوري لإقرار النظام الرئاسي، لكون ذلك بنظره هو المخرج و المنقذ الحقيقي لتركيا من أزماتها الداخلية والخارجية . قضية أخرى خلافية بين الزعيمين، الموقف من جماعة عبد الله كولن، فاردوغان يرى في الجماعة خطرا حقيقيا على تجربة حزب العدالة والتنمية، و هو الأمر الذي استوجب إدراج الجماعة كمنظمة إرهابية في وثيقة الامن القومي ومواجهتها بحزم وقوة، وهو هنا، يريد ان لا يعيد تجربة حزب الوطن الأم الذي أسسه تورغوت أوزال و انتهى ضعيفا حتى تلاشى واندثر، لكن أوغلو لا يجد ذاته كثيرا في المواجهات المفتوحة مع جماعة كولن ومع الصحفيين الذين جرهم أردوغان إلى المحاكم لخنقهم وكسر أقلامهم التي رأى فيها تجاوزا لسقف الحرية المسموح بها. هناك أيضا قرارات اتخذها داود أغلو، لم تنل رضا اردوغان، فقرار التحقيق مع أربع وزراء، وجهت إليهم تهم الفساد المالي، رأى فيها اردوغان تسرعا يمكن أن يقدم خدمة لخصوم الحزب. إن هذه النقاط وأخرى كانت كافية لوضع حد للتجاذبات الصامتة بين رفيقين، جمعتهما أهداف واحدة، لكنهما افترقا في السبل والطرق الكفيلة بتحقيقها. إن الصراع على السلطة وعلى الصلاحيات بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، لحقبة دامت عشرين شهرا، كانت كافية لزعزعة أركان بيت حزب العدالة والتنمية وإنهاء التساكن الذي تحول إلى عقبات أمام طموح اردوغان لبلوغ غاياته بتحويل تركيا إلى نظام رئاسي، يمنحه سلطة مطلقة على القرار في البلاد. إن خلاف الرجلين، وبعد أن أصبح عصيا على الضبط والتحكم في مجراه، لن تتوقف تداعياته على الداخل التركي، بل ستتعداه إلى الخارج. فتركيا توجد في قلب العاصفة وفي خضم الصراع الدائر في سوريا والذي يبدو مستمرا في خلق المزيد من المتاعب في المنطقة. إن التباين الحاد الذي ظهر في أعلى المراكز القيادية في حزب العدالة والتنمية، ستكون له ارتدادات على المستقبل السياسي للحزب الذي يقود البلاد منذ 2002.حيث أن تنحي أو تنحية داود أوغلو من رئاسة الحزب والحكومة، يعكس مدى ضيق المساحة التي بات مسموحا بها للرؤى والتصورات المتباعدة داخل الحزب الحاكم. فأردوغان عازم على الدفع بأسماء تحظى بثقته، لتعويض الفراغ الذي خلفه اوغلو، و الذي يبدو أن مستقبله السياسي، شهد نهاية غير سارة، بعد أن قضى فترة عصيبة بين جدية المفكر ومرونة السياسي. إن حزب العدالة والتنمية، الذي فشل في تدبير خلافاته الداخلية، وقدم وصفة مهذبة في إزاحة واحد من أبرز القيادات الحزبية، لن يتحكم في ارتدادات هذه الهزة التي وصفت بالزلزال من قبل خصوم العدالة والتنمية. فلا يبدو أن أردوغان الذي فضل خروج أوغلو من مهامه صفر اليدين، مهتما كثيرا بوقع الحدث على مسيرة الحزب. فهو لن يقبل برئيس حكومة، يغرد أو حاول ذلك خارج سرب سلطانه، الذي يريده من دون قيود. *كاتب باحث في العلوم السياسية