ليس من عادتي أن أكتب حول عينة من أناس يخجلني كثيرا أن تجمعني بهم رابطة المواطنة التي لا حيلة لي في بثرها لكي ينفضوا من حولي بعد أن انفضضتُ من حولهم وتركت لهم جغرافيا الوطن مختارا منفاي الطوعي. غير أنني عن طريق الصدفة وأنا أنقب من مكاني هذا عن أخبار الوطن عبر منابر مختلفة توقفت عند خبر يمكن أن أختزله في عنوان "عودة الشيخ الوقور". هذا الرجل أراد لعودته أن تكون شبيهة بعودة الأبطال. أبطالٌ في ماذا؟ الله أعلم. أعترف بأن أمره لم يكن يعنيني كثيرا من قبل إلا في حدود أنني أرفض وأدين بشدة قمع السلطات لحرية إبداء الرأي وممارسة الانتماء الفكري والسياسي وهو أمر عانى منه شيخنا الذي لا أشاطره رؤيته الأحادية للعالم. ما أثارني هذه المرة في خطابه هو ترصده وإصراره وتكراره لفتواه المتعلقة بتزويج الطفلة في سن التاسعة أو غير التاسعة! وربما الطفل الذكر أيضاً ما دام ذلك يجوز في اعتقاده للطفلة. ومهما يكن من أمر تحديد السن فالمسألة تظل تتعلق دائما بشخص طفلة أو طفل لم يغادر بعد مرحلة الطفولة مع ما تعرفه هذه المرحلة من براءة وعفوية وحاجة للرعاية والحماية من طرف الأب أو الولي سواء كان هذا الأخير شخصا ماديا أم معنويا كالدولة مثلا... اطلعت على هذه الفتوى/الفرية وجُبْت بنظري حوالي لأرى فلذة كبدي تنط قبالتي مداعبة دميتها طورا وطورا تلح علي بنزق أن أصحبها إلى الحديقة لتلعب بدراجتها الهوائية، ثم نظرت بعيدا بعد ذلك لأرى طفلات أخريات، في أماكن أخرى، عالمهن الوحيد هو عالم البراءة والرغبة في التعلم لاكتشاف الحياة عبر التسلي والتساؤل وملء كراسات الإنشاء بالخربشة والرسوم وما إلى ذلك. ملأتني شفقة عارمة تجاههن وحمدت الله لكون فتوى الشيخ ليست وحيا يوحى وأنه لا سلطة له علينا وعلى بناتنا وأبنائنا بشكل عام. ثم إنني سامحني الله لم أتمالك نفسي من طرح السؤال التالي: لو كان لهذا الرجل طفلة (لا يهم سنها)، طفلة في عمر الزهور، هل كانت ستخول له نفسه تزويجها وهي لا زالت في مرحلة لم تستوعب فيها بعد معنى الزواج وما يترتب عنه من علاقات جنسية وإنجاب وهلم جرا؟ وهل تساءل عن الرضوض الدائمة التي كان سيخلفها ذلك على شخصها سواء على المستوى الجسدي أم النفسي؟ هل كان سيتساءل عما تريده هذه الطفلة وما هو حلمها الملح في هذه المرحلة؟ ... ولم أتمالك نفسي أيضا، سامحني الله، من التساؤل حول موقف "الزوج السعيد" الذي سيختاره الشيخ "الوقور" لاغتصاب طفولة ابنته باسم الشرع إذا ما صدقنا فتواه تلك وأصبحت حيز التنفيذ؟ ثم إنه في إفتائه هذا الرأي يتمترس ويحتمي بل يختفي خلف النص المقدس كما يفهمه هو، نص في اعتقاده لا يقبل النقاش ولا الجدل، ومن ثمة فهو بذكاء خبيث يريد أن يضع من يخالفه الرأي في موقع من يجادل في الوحي والسنة في انتظار أن يحكم عليه تبعا لذلك بتهمة الكفر و ربما الإلحاد وأشياء أخرى! وتلك هي مأساة الحوار مع مثل هؤلاء. ليس لي "تضلع" الشيخ "الوقور" في عِلمه و"تبحره" في فقهه، ولا أريد ذلك أو أتمناه والحمد لله، لكن هذا لا يمنعني من تذكيره بأنه وهو يتبنى هذه الطريقة في التفكير يستند على منطق يدحض الآخر وينفيه، ينصب رأيه كحقيقة مطلقة بما أنها ذات مرجعية إلهية كما يفهمها هو ظاهريا لا باطنيا ضاربا بكل ذلك عرض الحائط كل الآراء التي سبقه إليها العلماء في ما يتعلق بالعقل والنقل وأقوالهم التي طفحت بها التفاسير في شتى الميادين الدنيوية والأخروية. رجل يعتقد بأنه يملك الحقيقة المطلقة، رجل يرفض الرأي المخالف ولو كان صائبا، رجل لا اعتبار له للتفاسير والمذاهب والمدارس التي أسقط فيها أسيادُه أنيابهم في ما يتعلق بأمور الدين هو شخص لا يسعني إلا أن أدينه وأستنكر موقفه لأنه يسيء إلى الدين أكثر مما يخدمه. أدين هذا الموقف إذاً ليس فقط من باب غيرتي على ديني كمسلم يعيش في القرن الواحد والعشرين بدون لحية مسترسلة وعباءة أفغانية و "سبرديلة النايك" وهلم جرا من الأكسيسوارات التي من شأنها أن تجعلني من حيث الهيئة شخصا "مخيفا" لا ترتاح له النفس وصورتي ك"تحفة أثرية" لا علاقة لها بعقيدتي، مكانها الحقيقي هو متحفٌ للآثار الغابرة، بل أدينه أيضا و بكل شدة حينما أسمعه وأقرأه وهو يبيح بفتواه المهزوزة تزويج الفتاة في عز طفولتها. إنني أعتبر هذا الرأي بكل بساطة دعوة إلى العنف وسوء معاملة الأطفال « maltraitance »التي للقانون فيها رأيه الخاص، لا بل إنها دعوة لممارسة الاغتصاب المقنن ومن ثمة فسح المجال للمرضى ب"فيروس" استغلال الأطفال جنسيا « pédophiles » لكي يشفوا غليل مرضهم بطريقة مشروعة هذه المرة بفضل فتوى "العالِم الجليل"! وبطبيعة الحال هذه أشياء كلها يدينها ديننا الذي أوصانا خيرا بأبنائنا ولا تمت إلية بأي صلة، والنصوص في ذلك كثيرة. تخريجة الشيخ هذه تنم عن جهله أو تناسيه عنوة بأن للطفولة قوانين تحميها، قوانين محلية ودولية، والمغرب واحد من الدول التي تحتضن هذه القوانين. ولكي أنعش ذاكرة الرجل التي ربما طالتها شمس معقل الوهابية، بلاد آل سعود من حيث أتى، فليسمح لي بأن أذكره بما تقوله الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل في مادتها رقم 3: "فيما يخص جميع القرارات المتعلقة بالأطفال، سواء المنبثقة عن مؤسسات الرعاية الاجتماعية عمومية كانت أو خاصة، عن المحاكم أو السلطات الإدارية أو الهيئات التشريعية، يجب أن يكون الاعتبار الأساسي هو المصلحة العليا للطفل". كما أن المادة 16 تضيف: "لا يجب أن يتعرض الطفل لأي تدخل تعسفي أو غير شرعي في حياته الخاصة، أو في أسرته أو بيته أو مراسلاته، ولا يجب أي مس بشرفه أو سمعته". وتحث فصول أخرى على حماية الطفل من كل أشكال الإساءة البدنية كالعنف والاستغلال الجنسي وغير ذلك. فما رأي شيخنا؟ وهل يعتقد أن الإسلام يدحض محتوى هذه الفصول ويرفضها؟ من المؤسف أن الرجل بعد هذه التخريجة التي أفتى بها علينا والتي تبعث على التقزز وتفرض الإدانة، ولا ندري كيف نصب نفسه كمفت على الملأ ومن أعطاه الحق في ذلك، يضيف هلوسة أخرى مفادها أنه "يقول ما قاله الله" وكأن الله اختاره من بين عباده لتبليغ هذا القول، وفي ذلك ادعاء خطير يشي بانعدام تواضع الرجل وعودته إلى ربه. وبمناسبة التواضع لا يسعني في الختام إلا أن أسجل تقززي لما سمعته منه في شريطه المسجل والمنشور على صفحة "هيسبريس" حيث لا يتوانى عن احتقار إخوانه المسلمين من الصوفية واصفا إياهم بالمهرجين، بلهجة لا تخلو من الاحتقار والسخرية وممارسة "الغيبة" تجاه الأموات قبل الأحياء، هو الذي يريد أن يطلع علينا كمفت حكيم ضليع في دينه كما يفهمه هو! رأيته وهو يمارس خطابه القذفي بكبرياء العارف في كل شيء، صائلا جائلا، خادشا ابن الفارض من هنا وغيره من هناك، مستعملا في كل ذلك أسلوب الاستهزاء والتهريج مبتغيا إضحاك مستمعيه من الحضور حتى لكأنني خلت نفسي في حلقة بجامع الفنا ينشطها "البهجة" وهو يمارس نرجسيته على المحيطين به. لكم تذكرت آنذاك قول شيخنا الحلاج رحمه الله: "الجهل حجاب، والمعرفة وراء الحجاب لا حقيقة لها". فما رأي الشيخ؟ الإسلام يا صاحبي يمنعنا من شتم إخوتنا في الدين ومن ممارسة الغيبة. لن نكون مؤمنين بحق حتى نحب لأخوتنا ما نحب لأنفسنا. ألم يقل لنا مولانا عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا لا يَسخَر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم..." (الحجرات: 11)؟ ثم هل أتاك حديث الرسول (ص) عن أبي هريرة: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم..." (رواه مسلم). شيخنا! يا أبا التخريجات البالية! إن لم تحتشم فافعل ما تشاء، ولكن دع بناتنا وبناتك في هناء.