الثورات العربية حبلى بشتى المفاجآت.... وفي كل يوم نعيش أحداث مفاجأة جديدة من العيار الثقيل.ونتشوق للمزيد ... إن الشعوب التي كتب عليها أن تغيب،قسرا وقهرا،من مسرح الأحداث.لأن الحاكم الملهم والقائد الضرورة والرئيس الذي لن يجود الزمان بمثله.. وهلم ألقابا وأوصافا وشعارات.كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد.كل هؤلاء يقفون اليوم وجها لوجه أمام حقيقة صارخة،مفادها إن الشعوب لم تمت ،وهي الآن حين تسترد قواها وتسترجع حريتها،تصنع المعجزات.وبداية المعجزة،تعرية الحاكم الظالم وإزاحة ورقة التوت الأخيرة عن سوأته. وسواء سقط كل الظالمين أم لم يسقطوا، وسواء رجعوا عن ظلمهم أم لم يرجعوا، فإن الحقيقة أصبحت ماثلة للجميع. وأكيد أنهم أمام أنفسهم يعرفون أن تطاولهم واستبدادهم مجرد وهم عابر وسراب خادع. يا من لا يزول ملكه ... إرحم من قد زال ملكه أكيد أن السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة.وكل إنسان يمسك بيديه، وحده ،مقاليد الأمور يصبح مشروع طاغية لا يرعى في من هو تحته إلا ولا ذمة.وكل نفس مضمرة ما قاله فرعون : أنا ربكم الأعلى.فإذا سنحت لها الفرصة،باحت بما تخفيه الصدور.ولا دواء ينجي من الظلم والاستبداد والشطط في استعمال السلطة إلا تفتيت هذه السلطة وجعل كل جزء منها بيد فريق وليس بيد فرد واحد . إنه العلاج الذي وصل إليه العقل السياسي الغربي بعد طول معاناة مع الاستبداد والمستبدين' ولا سبيل إلى الخلاص من داء الاستبداد اللعين إلا بهذه الوصفة الفريدة.وكل ما سواها هو مد في عمر الظلم وإمداد له بأسباب التغول والتطاول.وفي أحسن الأحوال هو تبرير للظلم وإلهاء للمظلومين. في تاريخنا السياسي العربي الإسلامي، ورغم كثرة التنظيرات والدعوات إلى وقف الظلم، بقي الظلم مستشريا.لقد كان ممكنا الخروج من ربقة الاستبداد مبكرا ،وكان ممكنا إنجاح تجربة الخلافة الراشدة وإمدادها بأسباب التواصل والنضج والتطوير،ولكن هذا لم يحدث .ومن يومها ونحن نرسف في أغلال الظلم ونكابد مرارة الاستبداد.ورب قائل يعترض بدعوى أن تاريخنا ، في كثير من محطاته،عرف حكاما عادلين وولاة مصلحين،ولعل مثال عمر بن عبدالعزيز،الذي خرج من أول سلالة ظالمة استولت على حكم الأمة بالحديد والنار يبقى خير مثال على ذلك .نقول إن عمر بن عبدالعزيز،وآخرين إن وُجدوا ، هم مجرد بلابل بقيت تغرد خارج السرب.ولسنا في هذا استثناء، لأن الظلم – كما في قانون أبي الطيب المتنبيء- من شيم النفوس...الإنسان بطبعه يطغى حين يتيقن ألا رقيب عليه ولا حسيب... يطغى حتى وإن لم يكن في نيته ابتداء أن يطغى .وإن موضوع السلطة والتنازع حولها والهيام بها هو موضوع يجليه علم النفس أكثر مما يجليه علم السياسة. ودراسة سيكولوجية الطغيان ، وهناك محاولات في هذا الباب لا بأس بها،كفيلة بكشف الكثير من الأسرار والخبايا والعبر والعظات. أكتب هذه السطور مستحضرا حالة رئيس مصر المخلوع حسني مبارك وأبنائه وأركان نظامه.لقد تساقط أركان هذا النظام واحدا واحدا. وبقي سؤال بدون جواب، هل تدور الدوائر على الرئيس وحرمه وأبنائه ؟ هل بلغت الثورة المصرية رشدها كي تطيح بكل الرؤوس بما في ذلك رأس « الناجي الكبير» حسني مبارك ؟ وتشاء الأقدار أن يصدر الأمر باعتقال حسني مبارك وأفراد عائلته الصغيرة ، في نفس الوقت الذي ألقي القبض فيه على طاغية إفريقي آخر هو لوران غباغبو الذي أخذته العزة بالإثم ولم يرض بالتنازل على كرسي الرئاسة ،الذي احتفظ به عقدا كاملا، رغم خسارته الانتخابات وأدخل بلاده في أتون حرب أهلية .ولقد تابعنا المهانة التي وضع فيها نفسه،وكان بإمكانه أن يرحل عزيزا. نفس الشيء يصدق على حسني مبارك،الذي بلغ من الكبر عتيا،وحكم مصر أكثر من ثلاثة عقود.ومع ذلك لم يشبع من شهوة الحكم والتسلط ،وأصبح يخطط لتوريث ذريته من بعده. بئس الهالك وبئس الوريث. ومع ذلك فهي أحداث للاعتبار ، كل من موقعه، وكل في حدود مسؤوليته.لعل القراء شبعوا تحليلات سياسية وقانونية وتاريخية... وكلها تزيدنا وعيا واطلاعا بما يجري حولنا . لكن هي فرصتنا أيضا كي نعرف أن الله يبتلي بعض عباده ليتعظ الآخرون ، وأنه يمهل ولا يهمل. وكل الذي نعيشه في هذه الأيام هو تدبير من الله وقضاؤه وقدره سبحانه وتعالى. فإن كنت واثقا فثق بالله ، وإن كنت مستغيثا فاستغث بالله.لقد تولى الملكَ من قبل ملوك وأباطرة وقياصرة وأكاسرة،ثم نُزع الملك من أيديهم، ودب الموت إلى نفوسهم،وتسلل الخراب إلى قصورهم.وتروي كتب التاريخ الكثير من القصص ، لعل في واحدة منها العبرة لم يريد أن يعتبر.حينما حضر المأمون العباسي الموت قال: أنزلوني من على السرير. فأنزلوه على الأرض ... فوضع خده على التراب و قال: يا من لا يزول ملكه ... ارحم من قد زال ملكه ... ! من العبرة إلى الاعتبار لا أريد أن أنصب نفسي واعظا ، بل هي الحقيقة تتطلب أن يعتبر الجميع .حكاما ومحكومين،رؤساء ومرؤوسين.فكل الماسكين الآن بتلابيب السلطة في العالم العربي يعرفون أن لحظة الحساب قد حانت.وخير لهم أن يكونوا من أهل الاعتبار قبل أن يصبحوا لمن سواهم عبرة. إن أكثر السيناريوهات تفاؤلا كانت تتوقع أن يتنازل الرئيس زين العابدين بن علي عن بعض الفتات للشعب التونسي المقموع ، لكنه في الأخير تنازل عن كل شيء، قالها مرتجفا ( نعم للتعددية الحزبية.. نعم للمعارضة السياسية.. نعم لانتخابات برلمانية حرة.. نعم للإعلام الحر.. لا للرقابة.. لا للرئاسة مدى الحياة.. نعم للمحاسبة.. نعم لمكافحة الفساد والتحقيق مع المتورطين فيه.. أنظر افتتاحية الأستاذ عبد الباري عطوان بجريدة القدس العربي ليوم : 14/01/2011) ومع ذلك كان الوقت قد فات .لأن مطلب الشعب أصبح أن ينقلع الرئيس ... ولقد انقلع.فما بكته عين ولا رق لحاله فؤاد. وكان كل طموح الشعب المصري أن يَسمع الرئيس حسني مبارك شيئا من أنينه،فيباشر بعض الإصلاحات التي تعيد للمواطنين الغلابة بعض الثقة والأمل في المستقبل .لقد ملأ ماضيهم ،طوال ثلاثين عاما ،بالكوابيس والقتل والخطف والفقر والتهميش، وجثم على صدورهم بأركان نظامه في الحاضر كأنه قدر مصر وقضاؤها الذي ليس منه مفر.بل وصادر المستقبل من الشعب حين بدأت مناورات التوريث تلوح في الأفق.لكن إرادة الشباب كانت أقوى من نظامه ووالد وماولد. وكان الله ناصر المستضعفين .فهل آن أوان الاعتبار ؟ يساق من كان يطمح في حكم ثمانين مليون مصري إلى السجن مهانا، ويسقط من كان يسعى أن يورثه مغشيا عليه،لأنه كان يرى نفسه فوق أن يسأل فكيف أن يحقق معه ويخضع للاستنطاق .فهل من معتبر ؟ ومع ذلك فهم لا يعتبرون . ولا يتراجعون ... ولا يرعوون. رئيس اليمن تتلطخ يداه بدماء الأبرياء.وحاكم ليبيا يقتل ويعدم ويعبث بالأعراض والأرواح مادام في اليد دولار وفي الزناد رصاص .وهو يعرف أن القتل من أجل القتل هو سياسة الضعفاء .ولكنه يستمر في هذيانه. ورئيس سوريا، المثقف المتنور، يقتل بدم بارد لأنه يملك القدرة على التبرير ويملك وسائل إعلام منافقة وجيشا من أشباه المثقفين والإعلاميين الذين بوسعهم أن يزينوا كل أفعال القتل ويلبسوها ثوب التزييف والتضليل.لكن حبل البهتان قصير.ولو كان القتل سبيلا للنجاة، لكان بن علي ومبارك في عداد الناجين. أليس بين الحاكمين رجل رشيد ؟ إن منظر الرؤساء والحاكمين والمتسلطين ، وهم يساقون إلى السجن، أذلة بعد أن كانوا أعزة، وصاغرين بعد أن كانوا على غيرهم ظاهرين. إن هذا المنظر وحده كفيل بأن يجعلنا نثق في الله ونوقن جازمين أن الحق يعلو ولا يعلى عليه وأن جولة الباطل ساعة وجولة الحق حتى قيام الساعة. ومرة أخرى هذا ليس وعظا بل هي الحقيقة التي يجب اعتناقها والدفاع عنها.فاليأس حين يدب إلى النفوس يحرمها لذة الأمل واليقين في الله.ويضع بينها وبين المستقبل غشاوة .لكن هذه اللحظات التاريخية ، في ظل ثورات الشعوب العربية وانتفاضات الشباب المباركة لاسترداد الكرامة المجروحة والحرية المسلوبة،كفيلة بأن تعيد لنا الثقة في النفس، ومن قبل ومن بعد الثقة في الله.لأن الأمر كله بيد الله. لقد ثارت هذه الشعوب من قبل وقُمعت وقُهرت ولم تحقق مرادها.حدث هذا في العراق وفي مصر وفي بلدان عربية أخرى .ومعناه أن نجاح هذه الثورات اليوم،هو من توفيق الله وتسديده . وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى. فلئن كانت تضحيات الشعوب العربية، وخاصة شبابها،كبيرة وعظيمة.ولئن كان صمود الثوار بطوليا بل وخرافيا في بعض الأحيان.فذلك كله وقود مبارك، ولا شك، ومطلوب . ولكن نار الثورة الحارقة،ونورها الساطع .... هو من مدد الله وسنده ورحمته بعباده . فثق بالله ولا تحزن ... وثق بالله على الدوام .وفي كل الأحوال والأوان. وثق بالله أكثر حين ترى الظالمين مكبلين بقيودهم ،فأكيد أن الدور على الآخرين آت إذا لم يعتبروا . ومع ذلك، اللهم لا شماتة. [email protected]