واقعنا العربي، في خضم الثورات المباركة،يستعصي على التحليل والتقصي وفق مناهج علمية ومقاربات نظرية مُعَدَّة سلفا.لم يكن أحد قبل ثورة تونس يجرؤ على التنبؤ بما ستؤول إليه هَبَّة الشعب التونسي ومن بعده باقي الشعوب العربية.لقد جثم الاستبداد فوق صدورنا قرونا، وخنق الطغيانُ أنفاسنا أجيالا بعد أجيال ، لدرجة لم نعد نصدق أن بعد العسر يسرا ، وأن بعد الاستعباد ثورة .أصبح التحرر مستحيلا، وأضحى جسد الأمة عليلا .كان منتهى مُنانا أن نرى بعض الانفراج،وننعم ببصيصِ من نور الحرية الخافت.لأن عيوننا أصبحت تخشى ضَوْءَها الساطع. وحتى بعد سقوط النظام في تونس وهرب الرئيس بن علي ،لم يستطع أحد أن يجزم على أي نظام بعده ستدور الدوائر.وذهب اليقين أو الغرور،بخالد الذكر السيد أحمد أبوالغيط،وزير خارجية مبارك (يصعب أن نتخيل أنه كان لمصر وزير خارجية بهذا المستوى ، والذي لا تسعفه الدبلوماسية حتى في أحرج المواقف التي هي من صميم تخصصه ومسؤوليته)، أن يقول إن إسقاط ما جرى في تونس على الوضع في مصر مجرد كلام فارغ.ومع ذلك كانت ثورة مصر أقوى وأشد عنفوانا.ثم تململ العقيد ساخرا وناصحا لعله ينجو من نار الثورة،ولم يكن من القَدَر الثوري مفر.وهو نفس المصير الذي ينتظر رئيس اليمن،وربما لن تبقى سوريا بمنأى عن لهيب الثورة الحارق. والسؤال هل عرفت الشعوب العربية طريقها إلى التحرر بعد أن أرهقها الظلم والطغيان والاستبداد ؟ هل أصبحت الثورة التي كانت رابع المستحيلات شجرة أصلها ثابت، تغدق ثمارها على الشعب الثائر في الجمعة الرابعة أو الخامسة على أبعد تقدير؟ وهل سقطت أسطورة الاستبداد إلى الأبد، أم أن نجاح الثورة ،بحد ذاته، شكل أسطورة يصعب تصديقها فكيف بالتكهن بها أو المغامرة بتوقع نجاحها ؟. أولا : أسطورة سيد القرود لفهم بنية التسلط استقراءُ مواقف الطغاة والغوص إلى بنيات تفكيرهم وسيكولوجية أعماقهم ، تبين تناقضات غريبة في حياة هؤلاء الطغاة، وتعري بوضوح مكامن الخلل في نظرتهم لشعوبهم،والاهتزاز الملحوظ في مواقفهم.فالطاغية نسيجُ وحده،فكرا ومعيشة وذوقا ،في الحرب والسلم،في الخارج والداخل.سلوكه شاذ وقراراته شائنة. كان هتلر يشترط في من يستحق أن يُدرج ضمن العرق الآري النقي ، أن يكون طويل القامة أزرق العينين أشقر الشعر.والغريب أن هتلر نفسه لم تكن فيه أية صفة من هذه الصفات .فقد كان قصير القامة وكانت عيناه وشعره بلون السواد.وبعد أن أشعل حربا كونية إرضاء لعنصريته ،لم يستطع مواجهة مصيره حتى النهاية،واختار الانتحار .ويروي الأستاذ المقريء الإدريسي أبوزيد في بعض محاضراته ، أن رئيس الوزراء الصهيوني السابق أرييل شارون،وهو من هو في بطشه ودمويته ،وقف فوق منصة يخطب ،إبان حرب الخليج الأولى ،في جموع من أنصاره كي يُهدِّيءَ من روعهم ليتماسكوا أمام ضربات الصواريخ العراقية،وتشاء الأقدار أن تدوي صافرات الإنذار في تلك اللحظات،فيسرع شارون إلى الاختباء تحت المنصة مذعورا،وكان أن نُقِضت طهارتُه ! وصدام حسين الذي خاض أم المعارك،كانت معركته الأخيرة من داخل جحر،وضُبِطَ في حال بئيسة جدا لينتهي به المطاف إلى حبل المشنقة.وعبد الناصر الذي مجده كل هؤلاء الطواغيت، سرق من الشعب المصري حريته، وسلمه لمن جاء بعده كي يقضي على البقية الباقية من حرية المصريين وكرامتهم وقوت يومهم.وبسبب طغيانه وتفرده برأيه حلت النكسة بمصر وبالأمة العربية كلها. وبن علي الذي أحكم قبضته البوليسية كان يرتعد خوفا في خطابه الأخير،وهرب مذعورا لا يلوي على شيء. والمؤكد أن القدافي لا يملك ذرة شجاعة ،ومعاركه كلها كانت خاسرة. وها نحن نراه يخوض معركته الأخيرة من خلف الجدران .ولم يوجه رصاصة واحدة،لحد الآن ، للأهداف العسكرية لقوات التحالف الغربية،وحتى مدافعه المضادة للطائرات تُزعج سكان طرابلس بضجيجها ،لأن دفاعه محصور على باب العزيزية،ولم نسمع أن هذه المدافع أصابت طائرة واحدة .وكل زاده الدعاية السمجة وشراء الذمم والانتقام الأسود من أبناء الشعب الليبي، لأن في بطن الصحراء الليبية مخزونا وفيرا من البترول استثمره في الإنفاق على نزواته وشهواته ومغامراته الطائشة.والشيء نفسه بالنسبة للرئيس السوري،الشعب محكوم بقبضة من حديد،وتحت رحمة قانون الطواريء المعيب ،وفي كل مرة يهاجم الكيان الصهيوني سوريا تصرح قيادات حزب البعث الحاكم أن سوريا تحتفظ بحق الرد الذي طال انتظاره.أما الجولان فتحريرها مؤجل إلى أجل غير مسمى. إن تأمل حياة الطغاة وتحليل شخصياتهم تقود في جل الحالات إلى نفس النتيجة التي مفادها أنهم لم يكونوا عباقرة ولا أقوياء،ولم يكن لهم نصيب من الشجاعة ولا حظ من المروءة.كل رصيدهم البطش واستغلال نقط ضعف الجماهير واعتماد الدعاية و التخويف وتسخير الإعلام وجماعة المنافقين لتلميع صورهم.وزرع بذور الفرقة والتنابذ بين معارضيهم بكل الوسائل والطرق المتاحة .لكن حين يجد الجد،وتدق ساعة الحقيقة ويقف هؤلاء الطواغيت أمام مصيرهم،تتغير الصورة بالمرة.يتوارى الأسد وتبرز النعامة.وهذا يعني أن بنية الطغيان قابلة للتفتيت،وأن الشعوب المضطهدة والمقموعة،قادرة على التحرر لأنها ليست أقل ذكاء من القرود التي تحكي عنها إحدى الأساطير. في كتابه : « من الدكتاتورية إلى الديمقراطية ، إطار تصوري للتحرر »، في الفصل الثالث الذي عنوانه : من أين تأتي السلطة ؟ ، يورد جين شارب أسطورة سيد القرود التي تقول : (كان رجل عجوز يعيش في ولاية تشو الإقطاعية في الصين ، وقد استطاع هذا الرجل البقاء على قيد الحياة من خلال احتفاظه بقرود لخدمته، وكان أهالي تشو يسمونه "جو غونغ" أي سيد القرود كان هذا الرجل العجوز يجمع القردة كل صباح، في ساحته ويأمر أكبرها أن يقودها إلى الجبال لجمع الفاكهة من الأجمة والأشجار ، وكان سيد القرود يفرض على قردته قاعدة ، وهي أن يقدم كل قرد منهم عشر ما جمع إليه، وكان يعاقب كل قرد يتخلف عن ذلك بجلده دون رحمه، كانت معاناة القرود عظيمة ، ولكنها لم تجرؤ على الشكوى، وفي يوم من الأيام سأل قرد صغير القرود الآخرين قائلا: هل زرع الرجل الهرم جميع أشجار الفاكهة والأجمة؟ فأجابوه: لا ، إنها تنمو لوحدها!، ثم تَساءَلَ القرد الصغير فقال: ألا نستطيع أن نأخذ الفاكهة دون إذن العجوز!؟ فأجابوه: "نعم نستطيع". فقال القرد الصغير: لماذا إذا نعتمد على الرجل العجوز؟ لماذا علينا أن نخدمه !؟ فَهِمت القرود جميعها ما كان يرمي إليه القرد الصغير ، حتى قبل أن ينهي جملته، وفي نفس الليلة وعند ذهاب الرجل إلى فراش النوم، حيث ذهب في سبات عميق ، قامت القردة بتمزيق قضبان أقفاصها جميعها، كما أنها استولت على الفاكهة التي كان العجوز قد خزنها ، وأخذتها إلى الغابة، لم تعد القردة إلى العجوز بعد ذلك أبدا، وفي النهاية مات العجوز جوعا ). ثانيا : من الأسطورة إلى الواقع الإنساني وبلغة إنسانية واضحة،فإن الطغيان يعيش ويستفحل حين تتنازل الشعوب عن حريتها وتستسلم لقدرها وتُسلمُ الطاغيةَ زمام أمرها.وهي عملية صيرورة تاريخية مركبة،وتغيرات نفسية واجتماعية طويلة ،لدرجة يصعب معها تبين هذه الحالة في تجلياتها الحقيقية وإخضاعها لمبضع التشريح أو آليات الشرح والتوضيح.وبقدر ما يستشكل على المحللين معرفة نقطة البداية ،فإن تصور النهاية يصبح في حد ذاته هاجسا يؤرق من يفكر فيه ، فكيف بالتخطيط له أو المخاطرة بتبنيه أو الدعوة إليه أو الشروع في تطبيقه. لكن ، وكما سلف في الأسطورة أعلاه،فإن تحطيم الطغيان وهدم بنيان الاستبداد ، لا يحتاج إلى قوة جبارة بقدر ما يحتاج إلى إرادة قوية وعزيمة صلبة،بحيث تتوقف الجماهير عن طاعة الطاغية وتصر على موقفها الرافض للاستجابة إلى أوامره والانصياع لتوجيهاته. هذا مع الإصرار أيضا على تبني اللاعنف استراتيجية وحيدة.لأن إنجاح الثورات السلمية يجب أن يبدأ بداية صحيحة وذلك بفرض قانون اللاعنف وجعله عنوانا لأجندة التدافع مع المستبد.لأن المستبد بطبعه لا يجيد إلا ممارسة العنف مادام ممسكا بأسباب السلطة. ومواجهته بنفس أسلوبه يسهل عليه الفتك بخصومه لأنه أدرى بميدان الصراع وقوانين المواجهة.وعادة يكون جهله فوق جهل الجاهلينا.أما مواجهته سلميا وتجنب كل عنف مهما كان بسيطا،سيدفعه حتما إلى مراجعة حساباته،وينتهي إلى لحظة (الفهم) الحاسمة. هذه الأفكار طالما تبناها كل من الشيخ جودت سعيد والدكتور خالص جلبي . فهما بحق داعيتا اللاعنف بامتياز في الفكر العربي المعاصر.ورغم أن أفكار الرجلين بقيت في كثير من الأحيان، في نظر الخصوم، مجرد خواطر حالمة لا حظ لها من الواقعية، ما زادهما نقد الخصوم وتهجم الأعداء إلا إصرارا على نهجهما وتشبثا بأفكارهما.يقول الشيخ جودت سعيد : اللاعنف هو اللاإكراه وهو الرشد وهو الديمقراطية . وعلى نفس الخط يؤكد الدكتور خالص جلبي : إن الطغيان يمكن مقارعته بأسلوب مُجْدٍ : بالمقاومة (اللاعنفية). يصعب فعلا هضم مثل هذه الأفكار،لأن التاريخ البشري عرف حروبا مدمرة في كثير من محطاته المفصلية.وأصبحت القوة المادية بشتى تجلياتها هي الفيصل .أما في تاريخنا العربي والإسلامي فقد رسخت هذه القاعدة (الحرب والقوة)،وانتفى الاستثناء (اللاعنف) بشكل شبه نهائي.وأصبحت الثقافة العربية والإسلامية في كثير من مقولاتها تحث على التشبث بالقوة ووسائل المقاومة العنيفة،فالسيف أصدق أنباء من الكتب، ولا يفل الحديد إلا الحديد،ورؤوس أينعت وحان قطافها... وقائمة طويلة من الأقوال والاستشهادات.ولقد عرف التاريخ الإسلامي أكثر من ثورة مسلحة،لم يوفق أصحابها في مواجهة الظالمين، لا ضعفا ولا ترددا .وليس لخلل في قاعاتهم أو دَخَلٍ في مبادئهم.ولكنهم فشلوا لأن القوة كانت بأيد طويلة وقلوب حاقدة، تملك الوسائل المادية والمعنوية .فكان البطشُ بالثائرين رهيبا.عُلقت رؤوس فوق الرماح ونكل بجثث في فضاء الصحراء الواسعة.فتوالى مسلسلُ الترهيب والقمع، وأُسْكِت كل صوت معارض ولو همسا، واصطبغ تاريخنا بحمرة الدماء القانية طويلا. وحتى لا تتكرر هذه المآسي ،وربما إرضاءً ومجاملة لمن بيدهم مقاليد الأمور، اجتهد الفقه السياسي الإسلامي في سد كل ثغرة أمام من تُسَوِّل له نفسه الثورة ضد الحاكم .وهو اتجاه في الطريق الخطأ ،جنى على الأمة طويلا وكبل إرادتها وخلق لدى قطاع عريض قابلية للإذعان والرضا بالأمر الواقع ، حيث أصبحت شروط الخروج على الحاكم الظالم تعجيزية .بل أصبح الصبر على جور الأئمة أصلا من أصول أهل السنة والجماعة.وفي أحسن الأحوال يُنصح بالدعاء لأئمّة المسلمين الظالمين بالصلاح، بدل الخروج عليهم بالسيف. إن هذا الفقه مرهون بزمانه،أما جعله مرجعية تحدد سقف خيارات الأمة إلى الأبد، فقد كان أشبه بالخطيئة منه بالخطأ.فلا يُتصور أن تبقى الأمة طوال هذه الفترة مجبرة على خيارين أحلاهما مر ، إما الصبر على ظلم الظالم مهما بطش وقهر وفجر وتجبر،أو دفع الثلة الرافضة للظلم لمواجهة الحاكم منفردة غير مسنودة الظهر بمجموع الشعب أو الجماهير، وفي ذلك سفك للدماء وانفراد بالخصوم وحصر لهم في الزاوية الضيقة.حيث تُساق شتى المبررات قصد إعمال السيف في أعناقهم أو الزج بهم في غياهب السجون.وهو نفس المنطق الذي مازالت تتبعه الأنظمة العربية في مواجهة خصومها، فهم طغمة وأقلية مأجورة وعناصر متطرفة وفئة ضالة تخرق الإجماع الوطني وتنشر الفتنة.وقاموس كامل بأوصاف تجتهد الآلة الإعلامية للأنظمة في إبداعها ومواجهة الخصوم بها. لكن مع إبداع فكرة اللاعنف،والتنظير لها ،والتيقن من جدواها وقلة تكلفتها ،أصبح بإمكان الأمة أو الشعوب العربية من داخل الدول القطرية توسل منهج جديد في التغيير،وطريق ثالث في مواجهة الأنظمة المتسلطة، والمتمثل في الثورة الشعبية السلمية .فإذا كان الشيخ جودت سعيد والدكتور خالص جلبي قد وضعا اللبنات الأولى لفكرة اللاعنف ، وشايعهما مفكرون وفقهاء ومثقفون آخرون.وقد استفادوا من تجارب وكتابات زعماء ومفكرين من ديانات ومذاهب أخرى.فإن أفكارهم بقيت بمثابة مانفستو اللاعنف الذي لم يجد منفذا سالكا إلى كثير من العقول ، قناعتها الأولى ، ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.وهو نفس الموقف الذي تُجابه به كل الأفكار الجديدة وغير المألوفة. ولأجرأة هذه الأفكار وتنزيلها على أرض الواقع ، عمل مجموعة من شباب مصر على تأسيس ما أصبح يعرف ب «أكاديمية التغيير» التي تهدف إلى إحداث التغيير الشامل وفق استراتيجية اللاعنف .وقد نظمت دورات تكوينية ،وأصدرت كتبا ونشرات وأفلاما في هذا الصدد .ويمكن الرجوع إلى موقع الأكاديمية على الأنترنيت للاطلاع على مشروعها الكامل وإصداراتها. كل هذا الجهد الفكري والتنظيري بقي موضوع نقاشات فكرية وندوات ومحاضرات محصورة ، حتى أطلت علينا الثورات العربية مطلع سنة 2011 ،ففاجأتنا وفاجأت العالم لأنها اختارت اللاعنف وسيلة وحيدة في مواجهة الأنظمة المتغولة.وبذلك جعلت الأسطورة واقعا ،والمستحيل ممكنا. لقد رأينا رأي العين وعايشنا بالبث الحي ،كيف انتصرت الصدور العارية وعزيمة الشباب المسالم على المدافع والدبابات وعلى كل وسائل القوة ،الخشنة والناعمة،بأيدي الأنظمة المتسلطة.وهو ما بعث الأمل في باقي الشعوب العربية كي تسلك طريق اللاعنف وتجعله سبيلها المضمون لاسترجاع حريتها وانتزاع كرامتها وتحقيق وجودها الإنساني بين باقي الأمم المتحررة. ولئن تعثرت الثورة الليبية ،فليس لقناعة من قبل الثوار بجدوى الثورة المسلحة،ولكن لأن في ليبيا حاكما غريب الأطوار يخال نفسه فوق التاريخ و فوق الأحداث وبإمكانه أن يفعل المستحيل.فلا يمكن أن ينطبق عليه ما انطبق على غيره من حكام العرب .و مع ذلك ،توحدت الأصوات من المحيط الثائر إلى الخليج الهادر، سلمية ... سلمية . من كانت له عينان فليبصر ومن كانت له أذنان فليسمع. [email protected]