أثرنا في مقال سابق موضوع الإنسية المغربية، وسعينا بما عرضناه من حجج إلى بيان أصالة هذه الأرض وخصوصيتها الإثنوثقافية والحضارية. واجترأنا مزودين بغير قليل من الحذر على استدراج القارئ إلى حلبة السؤال، لا ليشاطرنا لزوما دعوانا بهذا الخصوص، ولكن ليقدم إجاباته ويبني تصوره لهوية المغرب والمغارب بعيدا عن وصاية الإيديولوجية الشرقانية (وغيرها من الإيديولوجيات غير الوطنية)، وما شابهها من صور الحجر الثقافي التي يمارسها عدد من مثقفي هذا البلد، المدفوعين بقوة الرغبة في تحصين المكاسب المادية والاعتبارية التي يوفرها الوضع القائم. وحرصا منا على بيان بعض أوجه الاستلاب بالمشرق، سنعرض، هنا، أمثلة كاشفة عن فصول الولع العجيب الذي يشد وثاق كثير من إخواننا، ويدفعهم إلى الإكثار من التذلل للمشارقة، دون أن يصادف ذلك في قلوب هؤلاء هوى متبادلا، ولا أن يدفعهم إلى مقايضتهم إشفاقا بإشفاق، ولا حتى إلى الالتفات إليهم وهم يذوون من فرط الهوى كما تذوي العشقة. لكن قبل ذلك لا بد من التنويه إلى يقيننا بوجود متصل ثقافي يجمع المغارب بالمشارق، يقوم على قدر كبير من المشترك الثقافي، أساسه وقوامه الدين الإسلامي، وما تعلق بالسيرورة التاريخية لاعتناقه من قبل المغاربيين، فضلا عما ارتبط به من مشاعر جمعية لا ينكرها إلا من يتعالى عن التاريخ والوقائع الاجتماعية. بيد أن هذا الكلام الحق ينبغي ألا يحمل أكثر مما يتحمله، ولا أن يراد به الإفك والباطل، كما حصل وما يزال، أولا لأن الإسلام ديانة عابرة للهويات والإثنيات واللغات، وثانيا لأن أربعة أخماس مسلمي العالم من هويات وثقافات غير عربية، وفي مثل هذا القول آية لأولي الألباب لو كانوا يتفكرون. لننطلق في تعداد مظاهر الاستلاب، ولنتخذ من المقرر الدراسي لمادة اللغة العربية بالتعليم الثانوي التأهيلي شاهدا، وهذا مثال منتقى بعناية وإصرار، ليتبين القارئ أن موضوع الإنسية المغربية ليس نقاشا نافلا يستزاد به العلم لغايات نظرية محضة، بل هو موضوع تنشئة اجتماعية ودعامة مشروع تربوي ممأسس تتوفر له العدة التي تضمن له إعادة إنتاج نفس الأعطاب والاختلالات الهوياتية. لنأخذ مثلا كتاب منار اللغة العربية المقرر للسنة الثانية باكالوريا (علوم)، وهو كتاب خاضع لدفتر تحملات يحكمه البرنامج الدراسي لهذه الشعبة، تم توزيعه إلى دورتين: (الدورة الأولى: قضايا فكرية معاصرة- الدورة الثانية: جماليات الفنون). إن عملية جرد أسماء كُتَّاب النصوص المقررة في "مكون النصوص"، تقودنا إلى ملاحظة هيمنة لافتة للباحثين والمبدعين المشارقة ( 12 نصا من 16 في نصوص الدورة الأولى- و13 نصا من 16 في نصوص الدورة الثانية)، على نحو يخال معه المتأمل أن المغاربة والمغاربيين لم يكتبوا في قضايا العولمة والديموقراطية (وهي القضايا المقررة في برنامج الدورة الأولى)، أو أن كتاباتهم لا ترقى من حيث قيمتها ورصانتها إلى ما كتبه المشارقة الأفذاذ الذين لم نجد مناصا من الاستنجاد بهم ردما لمهاوينا وحجبا لهواننا الثقافي والعلمي الفظيع. نحن، والحالة هاته، أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن نصدق فعلا أن الإنتاج المغاربي أقل قيمة من نظيره المشرقي، وأن كتابا من قبيل: محمد أركون ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي وعبد المجيد الشرفي وهشام جعيط وعبد الله حمودي وعبد الكبير الخطيبي وعبد السلام بنعبد العالي وفتحي المسكيني وآخرون ليسوا غير ظلال تترنح في أسافل وديان العلم والثقافة، وأن العلم الحق هو ما خطته أقلام فرسان المشرق المغاوير الذين اعتمدت نصوصهم حوامل ديداكتيكية في الكتاب المذكور، ونحن لن نؤشر هنا على أسماء الكتاب المشارقة الذين تؤثث نصوصهم هذا الكتاب (وغيره)، ونربأ بأنفسنا عن اختزال مشاريعهم الفكرية في نصوص محددة. لكننا لن نتردد مطلقا في القول إن معظم النصوص المنتقاة هزيلة البناء، وضعيفة الحجاج، غارقة في بحر من التنطع والحذلقة اللغوية، لا تتوفر في معظمها أدنى الشروط العلمية التي تشترطها عملية النقل الديداكتيكي المعروفة. أما الخيار الثاني فهو أن نقر أننا إزاء حالة قصوى من الاستلاب وازدراء الذات، واستعذاب العيش في جبة التّبع الإمعات، في ما يشبه ماسوشية ثقافية. وهذا الخيار راجح بجلاء؛ لأننا لا نخال مغربيا عاقلا كان أو مشرقيا يستهين بالعقل المغربي في عموميته. بل ونملك في هذا الصدد شهادات كثيرة متواترة لمفكرين شرقيين وغربيين يقرون بعمق الإنتاج الفكري المغاربي الوسيط والحديث والمعاصر، واتصافه بصفات العقلانية والرصانة وميله إلى البرهان أكثر من نظيره المشرقي الميال إلى البيان. وإن كنا لا نجاري هذا القول ولا نتفق مع كل رأي اختزالي تعميمي، لأن موضوع المفاضلة بين الإنتاجات الفكرية للشعوب موضوع مشوب بالإيديولوجية بعيد عن الرصانة والموضوعية. ثم إن أقصى ما نريد أن نننبه إليه القارئ هو أن بهذه الأرض المباركة، كما بغيرها من بلاد الدنيا، مفكرون أفذاذ، وأن نساء المغرب أنجبن مثلما أنجبت نظيراتهن في ربوع الأرض مفكرات ومفكرين عظام، ساهموا في بلورة تاريخ المجال الإقليمي بل وتاريخ البشرية جمعاء. ولذلك فإن المنطق البسيط يقضي بأن نُطلع أبناءنا على آثار بني وطنهم، قبل إطلاعهم على آثار الآخرين. لنترك هذا الكتاب جانبا، ولنتأمل برنامج اللغة العربية المقرر للسنة الأولى باكالوريا شعبة الآداب والعلوم الإنسانية، وفيه أيضا ما يكرس الزعم ويزيد، إذ عمدت الهيئة الموكول لها تعيين البرنامج الخاص بالمجزوءتين الأوليين المخصصتين للشعر العربي القديم إلى اعتماد نموذجين شعريين مغربيين يتيمين (من بين ستة عشر 16 نموذجا)، وهي تهدف من خلال هذين النموذجين إعطاء الشاهد الذي تتوخى من خلاله تحقيق غايتين: أولاهما بيان موقع الشعر المغربي العربي ضمن خارطة الشعر العربي القديم، وثانيهما الكشف عن مقومات هذا الشعر وخصائصه الشكلية والمضمونية. ولعل الجدير بالذكر بخصوص الغاية الأولى هي انطباع البرنامج التعليمي المذكور بطابع قومي (غير وطني) لا يدخر واضعوه جهدا في سبيل استنماط (طلب تنميط) الانتاج الأدبي العربي بإطلاقية واختزال غير بريئين، وقد كان من المفروض أن يحتل الأدب المغربي العربي مساحة أكبر من التي منحت إياه. وأن يكون الأصل في البرنامج هو موضعة التلميذ المغربي ضمن إنتاج بلده الأدبي ذي التعبير العربي وخصوصياته المختلفة، مع تخصيص مساحات فرعية للأدب العربي المشرقي يستوجبها المشترك الثقافي، وتستدعيها دواعي التأصيل النقدي لمداخل القراءات المختلفة (متخيل، مستويات لغوية وأسلوبية...). ولبيان حجية الفكرة ندعو القارئ إلى إجراء القياسات اللازمة بين الحالة المغربية وحالة عدد من البلدان الإسبانوفونية والأنجلوفونية (كولومبيا، الشيلي، أستراليا، نيوزيلندا...)، حيث يحتل الأدب الوطني مرتبة تليق به، تستدعيها الحاجة المشروعة إلى بناء الشخصية الوطنية، وتمكين الناشئة من شروط التشبع بحب الوطن. سيرا في الطريق نفسه، نجد في كتاب الممتاز في اللغة العربية (السنة الأولى من سلك الباكالوريا، مسلك الأدب والعلوم الإنسانية) شاهدا يصور هذه العقدة الملومة، ويرسمها بأنكى الحلل. إذ عمد الفريق المسؤول عن إنجاز الكتاب إلى اختيار نص شعري لأديب سبتة الأريب مالك بن المرحل عنوانه "الوسيلى الكبرى"، في سياق سعي هذا الفريق إلى إعطاء المثال المغربي الكاشف عن التحولات الثقافية والفنية التي عرفها الشعر العربي القديم. ولأن سيل الاستلاب بموروث الشرق أقوى من فلتة وطنية عابرة فقد اندرس النص المغربي سريعا، وتهاوي إلى الأسافل تحت وقع ضربات نص نقدي جيء به في الورقة الموالية، لابن تاويت التطواني (1917-1993) وهو يقول عن القصيدة:" فهذا مدح أشبه بأن يكون من المولديات التي تلقى على عامة الناس، فالطابع الخطابي فيها أقوى من الطابع الشعري، خصوصا في أواخرها، وجمالها الفني لا يعدو أن يكون في هذه الجناسات، مع التشبيهات التي أكل عليها الدهر وشرب" (الكتاب المدرسي المذكور، ص.128). ولعل المستفاد من هذا القول، ومن مضمرات إدراجه أن عقدة الدونية قد تكون مضاعفة، وجهها الأول أن يقول ابن تاويت (المغربي) قوله في نقد القصيدة مبخسا قيمتها الفنية، وما نظنه مجترئا على متأدبي الشرق القدامى بمثل اجترائه على ابن بلده. ووجهها الثاني أن يصر الفريق البيداغوجي المؤلف للكتاب على استدعاء هذا الحكم بالتحديد، دون غيره من الأقوال والأحكام التي قيلت عن القصيدة، حتى أن قارئا غير عارف بملابسات التأليف المدرسي سيظن أن البدائل كانت مفقودة تماما، وأنه لم يكن بالإمكان تجنب هذا الخيار الأمر. والحال أن الشاعر المذكور قد خُصَّ بتقريظ لافت في غير ما مصنف واحد، ننتقي منه قول ابن الخطيب:" شاعر المغرب وأديب صقعه...الجامع بين سهولة اللفظ وسلاسة المعنى وإفادة التوليد وإحكام الاختراع". بيد أنه قول خفيض لا يسمعه غير المتخصصين في الأدب المغربي ذي اللسان العربي خلال العصر الوسيطي. وهؤلاء ثلة قليلة معدودة على رؤوس الأصابع، لو قورن عددهم بعدد الباحثين المغاربة الذين تخصصوا في الأدب العباسي، وأنجزوا بحوثا في مواضيعه قضاياه، لبدوا قطرات ماء في سيل جارف. وهذا لعمري، شاهد آخر على ما نسميه استلابا ممأسسا، وقد أخذ تجليا جامعيا وأكاديميا. عود إلى النص الشاهد، وردا على من سيحاججنا، مثلا، بحرص فريق التأليف المشار إليه على تمهير التلاميذ أصول النقد وقواعد الأحكام الفنية والجمالية، نقول إن الكتاب المدرسي المذكور لا يتضمن أحكاما من هذا القبيل، وأن النصوص الشعرية المشرقية والأندلسية قد مرت أمام التلميذ رافعة جناحيها مزهوة بما قيل عن ظروفها وحياة أصحابها من قول الخوارق مدعوات العجب. ثم إن دفتر الاعتماد البيداغوجي الذي يتضمن الأسس والتوجيهات الرسمية لا يفرض على فرق التأليف الإتيان بنصوص نقدية من هذه الطينة تحديدا في مرحلة التقويم. وقد كان حريا بمؤلفي هذا الكتاب أن يمسكوا عن هذا القول وغيره، ولن يؤاخذهم أحد على هذا الفعل والاختيار. للقصة شواهد ومحكيات كثيرة تتوزع على كتب مدرسية متعددة، تشي بالواضح بوجود تأخر تاريخي لدى الهيئات والمؤسسات المشرفة على السياسات الثقافية والتعليمية. وهو ما يدفعنا إلى الجزم بأن المعيش المغربي (والمغاربي) يسير بسرعات مختلفة، ففي الوقت الذي يكشف الزمن السياسي-التاريخي عن واقع جلي جلاء الشمس في رابعة النهار، هو واقع الانتماءات القطرية والدولتية، حيث ينبري الوطن واقعا تاريخيا، بمستتبعاته الهوياتية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة، نجد لدى كثير من الفاعلين الثقافيين تصورا لاتاريخيا ينظرون من خلاله إلى الماضي نظرة استيهام، وينشدون بموجبه وحدة متخيلة ويبتغون تنميطا اختزاليا لا يوجد إلا في أذهانهم. وعليه ينبغي القول إن كثيرا من مثقفي هذا الوطن مدعوون إلى إجراء تمييز دقيق يفرضه الزمن السياسي (المشدود إلى مشكلات المعيش الحقيقية)، يستوعبون بموجبه أن "المكون الأدبي والفكري المغربي العربي" ينقسم إلى شقين اثنين: أولهما مغربي عربي ساهم في تشكله التلاقح الثقافي وسيرورات التاريخ وقوانينه التي تتعالى على مشاعر الأفراد وأوهامهم، وثانيهما عربي مشترك يجمعهم مع مجموع الشعوب العربية والعربفونية. ولذلك، لا بديل عن مجاراة هذه الحقيقة الثابتة، ولا بد من تثمين الإنتاج الوطني، وإشاعة ثقافة التقدير الواجب في حق أعلام هذا الوطن، وهم علماء ومفكرون وشيوخ ومبدعون أفذاذ غمطوا حقهم بسبب الميل الشرقاني وعقدة الدونية ونقيصة تبخيس الذات. ولا بد أيضا من حياكة الرموز والقدوات والأيقونات الوطنية، لأن في ذلك ترياقا لداء الاستلاب في شتى صيغه وأشكاله الكائنة والممكنة.