تحتفل "نقابة الصحفيين" في مصر، أقدم النقابات الصحفية العربية، حاليا باليوبيل الماسي الذي يقام بمناسبة مرور 75 عاما على إنشاء النقابة، وتجرى فعاليات الاحتفال تحت رعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي، وتشمل معارض للصور النادرة والوثائق ورسوم الكاريكاتير والكتب، ويوما لكفاح الصحفيات المصريات، وتنظيم المؤتمر العام الخامس للصحفيين، ولقاءات وأنشطة وندوات؛ وتكريم لرموز المهنة...الخ وتطرح هذه المناسبة محورين أساسيين للنقاش؛ السياق التاريخي والقانوني الذي نشأت في إطاره نقابة الصحفيين المصرية ومنحها شخصيتها المستقلة حتى أصبحت من أبرز المؤسسات الساهرة على قيم حرية الرأي والتعبير في مصر؛ إضافة الى التحولات في المشهد الإعلامي؛ في ضوء التطور النوعي والكمي الذي شهده وفرض ضرورة طرح قوانين جديدة للاعلام؛ نص عليها الدستور الجديد وإنتهت الحكومة بالفعل من إعدادها؛ وسيتم عرضها على مجلس النواب قريبا لاقرارها، وبعضها يتعلق بالتنظيمات النقابية ومنها نقابة الصحفيين. في المحور الاول، طرحت النشأة المبكرة للصحافة في مصر قبل نحو 218 سنة، بإصدار صحيفة "لوكورييه دوليجيبت" ومجلة "لاديكاد ايجبسين" عام 1798؛ طرحت فكرة وجود تنظيم مهني أو نقابي لرعاية أوضاع الصحفيين نهاية القرن التاسع عشر؛ وانطلقت تلك الفكرة من صحيفة "الاهرام"؛ عندما تقدم سليم وبشارة تقلا مؤسسا "الأهرام" عام 1891 بإقتراح لإنشاء نقابة للصحفيين، توالت بعدها المبادرات لتأسيس النقابة الى أن تم عام 1912 تأسيس أول رابطة للصحفيين، لكن لم يصدر بشأن تأسيسها مرسوم ملكي؛ ولذلك سرعان ما انهارت عقب نشوب الحرب العالمية الاولى؛ وقد نشأت تلك الرابطة بمبادرة عدد من أصحاب الصحف، وانتخب في جمعيتها العمومية الأولى، "كانيفيه" صاحب ومؤسس صحيقة "لاريفورم" بالإسكندرية نقيبًا لها، وفارس نمر وأحمد لطفي السيد وكيلين لها. وبعد إنتهاء الحرب؛ تجددت الفكرة من خلال "رابطة الصحافة المصرية" التي أنشأها خمسة صحفيين عام 1924، وهم: داود بركات وإسكندر سلامة ومحمد حافظ عوض وجورج طنوس؛ وأعلنوا أن هدف الرابطة النهائي هو إنشاء نقابة مستقلة للصحفيين؛ وهو ما تم بالفعل عندما صدر مرسوم عام 1936 باعتماد نظام "جمعية الصحافة المصرية"، في عهد وزارة علي ماهر باشا. وبسبب رفض مجلس النواب للمشروع السابق؛ اعتراضا على ما تضمنه من صلاحيات للجمعية وحق أعضائها في العمل بالسياسة؛ بجانب خلافات الجماعة الصحفية حول بعض البنود الواردة في المشروع والصراعات على رئاسة الرابطة؛ تقدم علي ماهر باشا مرة أخرى بمشروع جديد إلى مجلس النواب في 27 نوفمبر 1939 لإنشاء "نقابة الصحفيين المصريين"، وصدر بالفعل المرسوم الملكي رقم 10 لسنة 1941 بإنشاء النقابة بوضعها الحالي. وعقدت أول جمعية عمومية للصحفيين في ديسمبر 1941، بمحكمة مصر بمنطقة باب الخلق؛ لاختيار أول مجلس منتخب للنقابة، حيث لم يكن للنقابة مقر مستقل؛ وكانت تعقد اجتماعات مجلسها المعين في مقر صحف "الأهرام" و "البلاغ" و"المصري"، وحضر اجتماع تأسيس النقابة 110 أعضاء من أصل 120 عضوا هم أعضاء النقابة في سنتها الأولي؛ واختارت الجمعية أول مجلس منتخب في تاريخها عام 1942، وأنتخب الصحفي الشهير محمود أبو الفتح؛ مؤسس صحيفة "المصري"؛ كأول نقيب للصحفيين في مصر. وعقب تأسيس النقابة؛ سعى الصحفيون لتأسيس مقر لها، وبعد محاولات عديدة خصص مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء قطعة الأرض المجاورة لنقابة المحامين في وسط القاهرة لتأسيس مقر للنقابة، وعهد الى المعماري المصري العالمي سيد كريم بتصميم مبنى النقابة، ووضع النقيب محمود أبو الفتح حجر الأساس لها في يونيو 1947؛ وتم افتتاحه رسميا في 31 مارس 1949، وفى عام 2001 تم إنشاء مبنى النقابة الحالى. ويعني ما سبق أن الصحفيين في مصر ناضلوا لمدة نصف قرن لترى نقابة الصحفيين النور منذ أن طرحت فكرة تأسيسها عام 1891 الى صدور مرسوم تأسيسها عام 1941؛ وهو منهج إستمر ملازما لعمل النقابة التي تعين عليها خوض معارك مستمرة لحماية إستقلالها والدفاع عن حرية الرأي والتعبير. بدأت أولى هذه المعارك عام 1940؛ عند مناقشة قانون نقابة الصحفيين، حيث اعترض بعض أعضاء مجلس النواب على مشروع تأسيس النقابة بسبب عدم احتوائه على نص يحظر اشتغال أعضاء النقابة بالسياسية، وهو النص الذي كانت لا تخلو منه قوانين النقابات المهنية الأخرى آنذاك، مما أثار إعتراض الصحفيين؛ وقادوا معركة سياسية وقانونية لاثبات حقهم في طرح القضايا السياسية ومناقشتها عبر نقابتهم. وبالفعل وافق مجلس النواب بدعم من بعض السياسيين الليبرالين على حق النقابة في ممارسة العمل السياسي؛ وأصبحت بذلك أول نقابة مصرية لا يحظر قانونها الاشتغال بالسياسة؛ ولذلك حرص الصحفيون المنتمون للنقابة في ذلك الوقت على إظهار حسن النية بعدم الخلط بين تناول القضايا السياسية والعمل الحزبي، ولم تسمح الجمعية العمومية أو مجالس النقابة أن تكون بوقًا لأي تيار أو جماعة سياسية. وبعد تأسيسها؛ واجه مجلس النقابة القضايا المعقدة التي فرضتها ظروف الحرب؛ كالرقابة على الصحف وتعدد حالات حبس الصحفيين والفصل التعسفي وإنخفاض عدد صفحات الصحف اليومية إلي أربع صفحات فقط؛ مما هدد المحررين بالاستغناء، حيث واصل مجلس النقابة اجتماعاته للتوصل الى حلول لتلك الاوضاع، ولأول مرة يسمع صوت الصحافة تحت قبة البرلمان وقتها للمطالبة بتخفيف الرقابة علي الصحف ومعالجة أمر حبس الصحفيين، وعدم الاستغناء عن أي محرر مهما انخفض عدد صفحات الصحف. وظل أحد الهموم النقابية أيضًا، توفير الضمانات اللازمة للصحفي لممارسته مهنته في حرية، ورفض نقل الصحفيين لأعمال غير صحفية، إلى أن صدر القانون النقابي عام 1970 والذي مازال معمولا به حتى الآن؛ وهو قانون متقدم توج نضال الصحفيين بمنع نقل الصحفي إلى عمل غير صحفي، ووضع المجلس في السنة الثانية له أول لائحة عمل، والتي تعرف باسم عقد العمل الصحفي، وفي مقدمة مواده تقرير مكافأة تعادل راتب شهر عن كل سنة من سنوات عمل الصحفي في حالة انهاء مدة خدمته. وتعد أزمة القانون 93 لسنة 1995، الذي إعتبره الصحفيون قانونا لتقييد حرية الصحافة، أحد المعارك البارزة التي خاضتها النقابة دفاعا عن حرية الصحافة؛ وواجه هذا القانون انتقادات واحتجاجات واسعة داخل نقابة الصحفيين والمنظمات الحقوقية؛ وأدى النقاش واسع النطاق والانتقادات الشديدة للقانون إلى صدور القانون 96 لسنة 1996، بديلا عنه؛ وهو قانون الصحافة المعمول به حاليا. أما المحور الثاني؛ فيتعلق بقوانين الصحافة والاعلام الجديدة التي إنتهت الحكومة من إعدادها؛ وسيتم عرضها على مجلس النواب قريبا لاقرارها، وجاءت لمواكبة التحولات في المشهد الإعلامي والصحفي؛ وتنفيذا لما نص عليه دستور 2014 من ضمانات لحرية الرأي والتعبير؛ وتأسيس مؤسسات مستقلة لادارة شئون الصحافة والاعلام؛ بديلا عن المجلس الاعلى للصحافة ووزارة الاعلام التي تم إلغائها بالفعل؛ وضمان إستقلالية التنظيمات النقابية ومنها نقابة الصحفيين. وفي هذا الاطار فقد تضمن الدستور الجديد العديد من النصوص المؤكدة على حرية الرأي والتعبير، وتعد غير مسبوقة في أي وثيقة دستورية مصرية سابقة؛ وذلك في سياق رؤية شاملة تضمنتها مواده لتطوير تشريعات الصحافة والاعلام؛ حيث نص في المادة "72" على "إلتزام الدولة بضمان استقلال المؤسسات الصحفية ووسائل الإعلام المملوكة لها، بما يكفل حيادها وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية، ويضمن المساواة وتكافؤ الفرص فى مخاطبة الرأى العام"؛ وهى المرة الأولى التى يلزم فيها الدستور الدولة بضمان إستقلال المؤسسات الصحفية ووسائل الإعلام المملوكة لها وحيادها وتعبيرها عن كل المصريين. وفي المادتين "212" و "213"، نص الدستور على تأسيس الهيئة الوطنية للاعلام؛ والهيئة الوطنية للصحافة؛ كهيئتين مستقلتين تقومان على إدارة المؤسسات الصحفية والإعلامية وتطويرها وضمان استقلالها وحيادها، ويوجب الدستور أخذ رأيهما فى مشروعات القوانين واللوائح المتعلقة بمجال عملها؛ وتعمل هاتين الهيئتين اللتين أنتهت الحكومة من إعداد قوانيين تأسيسهما؛ بالاتفاق مع المؤسسات الاعلامية والصحفية ونقابة الصحفيين والمنظمات الحقوقية ذات الصلة، على إنشاء المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، كهيئة مستقلة تختص بتنظيم شؤون الإعلام المسموع والمرئي والصحافة المطبوعة والرقمية وغيرها. وضمانا لاستقلال التنظيمات النقابية ومنها نقابة الصحفيين؛ نص الدستور فى المادة "77"، على إدارة النقابات المهنية عموماً ومنها نقابة الصحفيين على أسس ديمقراطية؛ واختصاصها بطريقة قيد أعضائها ومساءلتهم فى ممارسة نشاطهم المهنى، وفقاً لمواثيق الشرف، وحافظت على استقلال النقابات؛ بالنص على أخذ رأيها فيما يخص المهنة التى تمثل أصحابها وعدم جواز فرض الحراسة عليها أو تدخل الجهة الإدارية فى شؤونها، أو حل مجالس إدارتها إلا بحكم قضائى، وأخذ رأيها فى مشروعات القوانين المتعلقة بها، وهو ما يعد إنتصارا لاستقلالية التنظيم النقابي. *رئيس المكتب الاعلامي المصري بالرباط