يحمل هذا العنوان، كما هو واضح، مفارقة، حيث يضع الجمال والقبح في موقع غير موقعهما التقليدي المعتاد. إن ما هو معروف عنهما أنهما يوجدان في تقابل/تعارض مع بعضهما البعض، بل إن حضور أحدهما يعني تلقائيا غياب الثاني، مثلهما في ذلك مثل النور والظلام، في ممارستهما المتبادلة لدوري الحضور والغياب. إن حضور الجمال والقبح معا، جنبا إلى جنب، يثير الارتباك، ويبعث على الاستغراب، ويطرح الكثير من الأسئلة، على أصعدة مختلفة. أسئلة سنحاول التطرق للبعض منها، دون أن ندعي الإحاطة الكاملة بها هنا، لأن مثل هذا القول لا يعدو كونه مجرد ادعاء فارغ لا غير. يبدو لي أن الإنسان ليس هو الكائن الوحيد، الذي يتميز بخاصية الانفتاح على أخيه الإنسان، ويبدي رغبة في التقرب إليه، ونسج علاقات معه. فحتى المفاهيم تسلك هذا السبيل. سبيل الانفتاح على بعضها البعض، و تبادل الأخذ و العطاء فيما بينها. إن المفاهيم بدورها تولد، و تنمو، و تهاجر باحثة عن أفاق أرحب، وتتناسل...وتموت عن عمر يختلف من مفهوم إلى أخر. غير أن للعنوان أعلاه، في حقيقة الأمر، بعد واحد. فالحديث عن "جمالية القبح" أمر مقبول و مستساغ، بينما الحديث عما يمكن أن نسميه ب"قبحية الجمال"، هو أمر لم نسمع به من قبل قط. فحتى على مستوى التلقي فالأثر الذي يتركه المفهوم الأول في الأذن، و في النفس أيضا، ليس هو نفس الأثر الذي يتركه اللفظ الثاني. إن الأمر يبدو كما لو أن كرم "الجمال" لا يضارع. فهو "يهب" و لا يأخذ شيئا، و بالمقابل، ففاقة القبح تبدو أن لا حدود لها أيضا، مادام هذا الأخير يأخذ فقط، و لا يعطي أي شيء من عنده. وهذا الأمر يطرح إشكالا، ذلك أن في نظام "الهبة"Don، من يهب يوجد، كما هو متعارف عليه، في موقع أسمى من موقع الموهوب له. ما يعني أنه رغم التقارب الذي يبديه الجمال تجاه القبح فهو لا ينزل منزلته، و إنما يظل يحافظ على مكانته المتميزة. لنترك هذا الأمر جانبا في الوقت الراهن، ريثما تتاح الفرصة للخوض فيه لاحقا، ولنركز اهتمامنا على المفهوم الأول، مفهوم "جمالية القبح". ثمة سؤال يواجهنا منذ البدء، و يتمثل في: ما الذي جعل الحسناء تغير نظرتها إلى الوحش، و موقفها منه، و تقبل الاقتران به، عن طيب خاطر؟ و ما الذي جعل الوحش يقبل مشروعها، ناسيا مشاعر الكره العميقة، التي خصته بها على امتداد قرون طويلة؟ الأكيد أن مفهوم "جمالية القبح" خرج من صلب النقد الفني، الذي يوجد من بين المنتمين إليه، و على غرار المنتمين إلى كل التخصصات الأخرى، من أسميهم ب"هواة نحث المفاهيم"، اللذين لا يكفون عن مجابهة واقع يدثر نفسه بالخفاء و الغموض، و يعشق ممارسة لعبة الكر والفر مع الباحثين عن حقيقته. و كما لا يخفى ذلك على أحد، فالمفكرون والباحثون الكبار، أبدعوا، وعلى امتداد عصور التاريخ، مفاهيم خاصة بهم. الفلسفة ذاتها ليست شيئا أخر غير نحث للمفاهيم على حد تعبير جيل دولوزG. Deleuze . وبطبيعة الحال إن هذا المفهوم لم يظهر صدفة، أو أن نحثه كان عبارة عن شطحة من شطحات بعض النقاد، ليس إلا، و إنما ظهر، في الواقع، ليعبر عن بروز اتجاه فني قائم الذات، يمثله مجموعة من الفنانين، اللذين أضحى القبح يشكل موضوع اهتمامهم. وقد حاولوا من خلال اشتغالهم عليه أن يكشفوا أسراره، و أن يثمنوا كنوزه العميقة، في أفق إعادة الاعتبار له، كجزء لا يتجزأ من نظام الكون. ففي مجال الرسم، مثلا، برزت مجموعة من الأسماء، سواء في النصف الشمالي من الكرة الأرضية أو في نصفها الجنوبي، التي أضحت معروفة باشتغالها على هذا الموضوع. و يمكن أن نضع على رأس قائمة هذه الأسماء، الفنان الشهير "فانسان فان غوغ"Van Gogh V.، الذي بمجرد ذكر اسمه تقفز إلى الذهن تلك الأحذية البالية، التي رسمها في مرحلة معينة من حياته الفنية. في الحقيقة إن تلك الأحذية لا تثير في النفس أي نفور أو اشمئزاز عند مشاهدتها في لوحات فان غوغ، بل إنك تجد نفسك مسلوب الإرادة أمام شيء يجذبك إليها، وبعنف، ولا يمكنك في نهاية المطاف إلا الاستسلام له، ودون مقاومة. إذا افترضنا أنه أتيحت لك الفرصة للجلوس في نفس مكان فان غوغ، وفي نفس الزمان، وكانت لك نفس الظروف النفسية والاجتماعية التي كان عليها، وعلى مقربة منك كانت الأحذية ذاتها ملقاة هناك، فهل ستثير فيك مثل ذلك الإحساس الجميل الذي شعرت به وأنت تتأملها في لوحاته؟ إذا كان جوابك بالإيجاب فربما كنت تملك عيونا شبيهة بعيون فان غوغ، أما إذا كان جوابك بالنفي، فستعرف، ولوحدك، أن فان غوغ أضاف لها شيئا ما، جعلها تتمتع بتلك الجاذبية. وماذا باستطاعته أن يضيف لها غير رؤيته الجمالية العميقة، ولمسته الفنية البارعة. إن لم يكن هذا هو عمق العمل الفني، فأين، يا ترى، يكمن هذا العمق؟ في نفس المجال أبدع الكثير من الفنانين التشكيليين في رسم بورتريهات تصور وجوها قبيحة، أو أجساد مفككة الأوصال، لتعكس الويلات التي عاشها العالم، خصوصا، إبان الحرب العالمية الثانية، التي كشفت عن ذلك الجانب القاتم في الإنسان، خاصة بعد واقعتي هيروشيما وناكازاكي، حيث قضى الألاف من الأبرياء، أما أولئك الذين نجوا، فقد أصيبوا بتشوهات و بأمراض خبيثة. وفي مجال الكتابة أبدع الكثير من الكتاب في كشف سوءة الواقع، الذي يظهر ورديا من الخارج، وهو سوداوي من الداخل. فهناك الكثير من الروايات المعروفة، التي وضعت على عاتقها مهمة سبر أغوار الوضع القاسي، الذي يعيش فيه الإنسان، ويئن تحت وطئته، صابرا ومتحملا تارة، وثائرا و منتفضا تارة أخرى. تعكس هذه الروايات مأساة الإنسان، من خلال استعراض تجليات القبح في حياته، سواء تعلق الأمر بحياته الخاصة، وهو ما يعبر عنه ،مثلا، "فرانز كافكا" F. Kafka في روايته "المسخ"Métamorphose و"فيكتور هيجو"V.Hugo في روايته "البؤساء"Les misérables، أو تعلق الأمر بحياته الاجتماعية، التي تجمعه مع الأخر القريب، كما تكشف عن ذلك مثلا ثلاثية "أحلام مستغانمي"، أو مع الأخر البعيد، كما تعكسها رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" لصاحبها "الطيب صالح". نفس الشيء يمكن قوله عن الموسيقى و السينما. "فشارلي شابلن". C. Chaplin، على سبيل لا الحصر، في فيلمه المعروف"الأزمنة الحديث" Les temps modernes يصور، في الواقع، قبح الحياة المعاصرة، التي أصبحت فيها التقنية تسيطر على الإنسان، في مختلف جوانب حياته، وتخضعه لنظامها الخاص. ما جعل علاقته بذاته، وبالآخرين، وبالعالم من حوله، تعرف تغيرا ملموسا. وتبعا لذلك فهذا الفيلم يطرح الكثير من الأسئلة الفلسفية، المتعلقة على الخصوص بإرادة الإنسان و حريته في ظل سيطرة التقنية و اكتساحها لحياته، دون أن يجد لنفسه مأمنا من شرها، أو أن يهتدي إلى الوسيلة التي تجعله يوجهها في الاتجاه الذي يمكن أن يجعلها تلبي حاجياته، و تخدم مصالحه. إن محاولته الرامية إلى ترويض هذه التقنية، تشبه، إلى حد بعيد، محاولة ترويض عفريت انفلت من قيد قمقمه. ما أحوج الإنسان إلى الجمال. فهو الذي يجعل الحياة ممتعة. لكن هذا الجمال لا ينبغي اختزاله فقط في وردة ندية، أو في شجرة مورقة، أو في وجه امرأة متميزة، و إنما ينبغي البحث عنه أيضا في وردة ذابلة، و في شجرة عارية، و في وجه امرأة يقال أنها "قبيحة". هذا الجمال الأخير لا يشاهده الجميع، لأنه يحتاج إلى جهد من أجل اكتشافه. فهو بعيد الأغوار، ولا يمنح نفسه بسهولة، لأنه يحيط نفسه وراء أقنعة كثيفة تحجبه، عن العيون العادية، لكن الباحث عنه لابد أن يهتدي إليه في نهاية المطاف. لا أقصد، طبعا، كما قد يذهب التأويل بالبعض، الجمال الداخلي، أو ما يسمى في عرف العامة ب"الجمال الروحي"، رغم أنني لا أحط من شأن هذا الجمال، أو أقلل من قيمته، وإنما أقصد الجمال الخارجي، أو بعبارة أوضح، "الجمال الجسدي". من الناحية الأدبية النقدية يمكن طرح هذه المسألة في صيغة مشكلة المعنى والمبنى، ومن الناحية الفلسفية يمكن طرحها في صيغة مشكلة العمق والسطح، حيث يمثل الجسد السطح، بينما تمثل الروح (أوالعقل) Esprit العمق. أعيد النظر في هذه المشكلة أدبيا مع ما يسمون في قواميس النقاد ب"الشكلانيين الروس"، الذين أعطوا الأهمية للمبنى أو الشكل بعدما كان المعنى أو المضمون هو الأهم. نفس الشيء حدث في الفلسفة حيث لم يعد مقبولا منذ نيتشهF. Nietzsche، النظر إلى الجسد على أنه مجرد وعاء للروح لا غير. لقد صب نيتشه معول الهدم على هذا التوجه، الذي تمتد جذوره التاريخية إلى سقراطSocrate . لذلك ف"انتحار" هذا الأخير، بتجرع السم، يعتبر، في نظر نيتشه، نتيجة منطقية، نظرا لوعيه بحجم الجريمة التي ارتكبها في حق الإنسانية، حينما مجد العقل/الروح وحط من قيمة الجسد. لقد كان نيتشه، على خلاف التوجه السائد، يعتبر الروح مجرد صدى للجسد. وقد حاول أن يعيد لهذا الجسد قيمته الحقيقية، كما كانت لدى اليونانيين قبل مجيء سقراط، الذي كان يرغب في الارتقاء بالإنسان نحو الكمال، عن طريق الروح، أما الجسد فقد كان يرى أنه عبء، على هذه الروح التخلص منه في مسيرتها إلى العالم العلوي، عالم الآلهة. من جهتها لم تنصف المسيحية الجسد، و إنما عمقت دونيته، بالاستناد إلى الإرث السقراطي- الأفلاطوني، الذي تم إلباسه لباسا دينيا. لقد اعتبرت المسيحية الجسد كبش فداء، ينبغي للإنسان تقديمه للرب، تكفيرا عن الخطيئة الأصلية، بما أنه كان السبب في حصولها. و لذلك يمتنع بعض المسيحيين عن الزواج، و عن أكل اللحوم، إمعانا منهم في معاقبته. لا يوجد حسب نيتشه حقيقة أكبر من حقيقة السطح. و يذهب في احتفاءه بالجسد إلى حد القول أن اليونانيين كانوا سطحيين من شدة عمقهم، و أنهم بذلك كانوا يرفلون في السعادة. و قد عبر "هيجو" Hugoعن هذا التوجه، المنتصر للسطح، بقوله أن هذا الأخير ليس شيئا أخر غير العمق طافيا. وقد لقي هذا التوجه قبولا لافتا للانتباه إلى درجة جعلت البعض يتحدث عما بات يعرف ب"روحانية الجسد". فللجسد، حسب هؤلاء، روحه الخاصة به، التي لا تعلم عنها الروح شيئا. صيغت هذه الأفكار في شكل شعارات، رفعها ثوار ماي 1968، وطالبوا بتفعيلها، وبوضع أسس قيم جديدة، لتحل محل القيم القديمة، التي لم تعد تتماشى مع المجتمع المعاصر، بحكم ما لحق هذا المجتمع من تغيرات هامة، وعلى مستويات متعددة، سياسيا واجتماعيا وثقافيا...إلخ. ومنذ تلك الفترة أعطيت أهمية خاصة للجسد، خصوصا مع التوجه المتزايد إلى "الفردانية"Individualisme، التي تبلورت على يد فلاسفة كبار من أبرزهم "روني ديكارت"R. Descartes. وقد لعبت القيم التي تقوم عليها الديموقراطية دورا أساسيا في بروز هذا الميل إلى الفردانية، التي أمسى انشغال الإنسان، تحت تأثيرها، يقتصر على ذاته. وفي هذا الإطار أضحى الجسد يحضى بنصيب وافر من اهتمام الإنسان ورعايته. فكما أن للروح جماليتها المتمثلة في ما تحمله من قيم و فضائل، فإن للجسد جماليته الخاصة به. ولعل أكثر الناس، الذين لديهم حساسية خاصة تجاه هذه الجمالية، هم خبراء العمليات التجميلية، الذين يحاولون تركيز اهتمامهم على إبراز عناصر جاذبية الجسد، وخصوصا الجسد "القبيح"، وكشف مكامن الفتنة فيه، وإبرازها للعيان. غير أن الجمال فقد، في الوقت الراهن، إحدى أهم السمات، التي تميز بها على مر العصور. أتحدث هنا عن سمة الاختلاف. ففي كل مجتمع، بل وفي كل جماعة اجتماعية، عبر التاريخ، كان هناك نموذج معين للجمال، لكن هذا الاختلاف أخذ في الزوال شيئا فشيئا مع ثورة الإعلام و الاتصال، حيث بات يميل إلى التوحد و التنميط. وهكذا اختزل الجمال في الجسد الطويل القامة، الرشيق القوام. وعلى هذا الأساس تكون كل امرأة لا تتوفر فيها هذه المواصفات "قبيحة"، وذلك بغض النظر عن كل مميزاتها الأخرى. يحضرني في هذا الصدد ما جرى لعالمة الاجتماع المغربية "فاطمة المرنيسي" في متجر للملابس الجاهزة في نيويورك، حيث لم تجد فيه، رغم شساعته، التنورة التي تناسب مقاسها، فغادرته، في النهاية، دون أن تظفر ببغيتها. من خلال هذا المثال يتبين أن الحريم لا يخص العالم العربي وحده، و إنما يوجد في العالم الغربي أيضا، كما تؤكد على ذلك المرنيسي ذاتها. غير أن هناك اختلافا بين الحريمين، حيث أن الحريم الأول "مكاني"، أي أنه يتعلق بمكان مغلق، تحجب فيه النساء، في حين أن الحريم الثاني "زماني"، يتعلق بسن معين لا ينبغي للمرأة أن تتجاوزها، لكي ينحصر محيط خصرها ما بين ستة و ثلاثين و ثمانية و ثلاثون سنتيما، أما إذا ما هو تعدى هذا العدد، فإن صاحبته ستجد نفسها على هامش المجتمع لا محالة. لذلك يبدو الحريم الغربي أكثر قسوة من الحريم العربي، و ذلك باعتراف البائعة ذاتها، داخل ذلك المتجر للملابس، إذ اعتبرت أن النساء اللواتي لا يخضعن لقيود مقاسات اللباس، كما يحددها مصممو الأزياء العالمين، و تنشرها مجلات الموضة الشهيرة، يعشن في جنة. مآل القول، إن الفن، منذ العصر الحديث، لم يعد ينظر إليه على أنه مجرد نقل كمرائي للأشياء، كما كان يعتقد أفلاطون، و الفلاسفة الذين نحوا منحاه، و إنما على أنه إضفاء لإنسانية الإنسان على هذه الأشياء، و ذلك بغض النظر عن جمالها أو قبحها. فالفن كما أكد ذلك "امانويل كانط"E. Kant ليس تصويرا لشيء جميل و إنما تصوير جميل لشيء، كيفما كان هذا الشيء. كم ستكون حياة الإنسان غنية إن هو بحث عن الجمال في جسده، و في روحه، وفي الناس، و في كل الأشياء التي تؤثث العالم الذي يعيش فيه. يكفيه أن يعيش كالكفيف، وكالأصم، و كالأبكم ... حتى تستطيع حواسه أن تتطور، و يسهل عليها بالتالي التقاط نبضات الحياة، في تدفقها اللامتناهي، فلا يعود يرى ولا يرى، ويسمع ولا يسمع، ويتكلم بلسانه دون باقية أعضاء جسده. فأن يرى المرء بأذنه كالكفيف، وأن يسمع بعينه كالأصم، وأن يتنفس بكل مسام جلده...لا ريب في أنه مطلب صعب. لكنها كثيرة هي المفاجئات التي سيكتشفها سالك هذا السبيل، سواء في ذاته، أو في أشياء العالم من حوله. لابد له أن يعيد النظر، نتيجة لذلك، في الكثير من الأشياء، بعضها كان يراه قبيحا، و بعضها الثاني كان يعتبره، بحكم الألفة، عاديا، والبعض الثالث لم ينتبه لوجوده يوما. الأمر الذي سيجعله يشعر أنه يولد من جديد، كما سيجعله يتجدد باستمرار، إلى غاية نهاية حياته. حياة كهذه ألا تستحق من الإنسان أن يسعى إلى عيشها؟ أكيد أن الجواب على هذا السؤال لن يكون بالقول، وإنما، بالفعل أولا وأخيرا..