إن النقاش العمومي الدائر هذه الأيام حول العتبة الانتخابية المؤهِّلة لتوزيع المقاعد على مستوى المؤسسة التشريعية في الاستحقاقات المقبلة، وفي إطار المقترح الذي تبنته وزارة الداخلية والقاضي بتخفيض العتبة من 6 إلى 3 بالمائة على مستوى الدوائر المحلية، يفرض – النقاش – على كل من الفاعل السياسي والباحث الأكاديمي على حد سواء، مقاربة الموضوع من كل جوانبه في أفق بلورة تصور سياسي مؤسَّس على قناعات علمية تخدم أفق البناء الديمقراطي للوطن، بعيدا عن حسابات اللحظة الانتخابية، وصراعات المقاعد والمصالح والمنافع والمراتب ما بين هذا الحزب وذاك. وهذا يحتاج إلى إيجاد عناصر جواب لسؤال البحث عن مدى تأثير العتبة التي نختارها على مسار البناء الديمقراطي ومسيرة الإصلاح السياسي لبلادنا بعيدا عن كل ما تمت الإشارة إليه أعلاه من سلوكات سلبية طاغية على عموم الفعل السياسي والحزبي بالمغرب، فسؤال "ما هو التوجه الأصلح والأنفع لتجربة الانتقال الديمقراطي المغربي، هل هو رفع العتبة أم تخفيضها أم الحفاظ عليها في نسبة 6 بالمائة بالنسبة للدوائر المحلية" ، هو سؤال غير بريئ بمنطق السياسة وله ما بعده بمنطق الأثر التابع للخيار أو الاختيار، والمسألة هنا ليست مسألة أرقام وإنما مسألة "أي مستقبل سياسي نريد". في موضوع العتبة الانتخابية عموما، يبقى لكل خيار من الخيارات الممكنة أو المطروحة، إيجابيات وسلبيات، فالرفع من العتبة إلى أكثر من ستة بالمئة قد يحرم بعض الأحزاب الممثلة حاليا بالبرلمان من تمثيليتها ومقاعدها البرلمانية، لكن وبالمقابل سيرسخ لوجود أقطاب حزبية قوية، وهذا جد مهم لترسيخ الديمقراطية وتحصين العمل الحكومي من منزلق الائتلافات الحكومية الهشة، وهذا التوجه معمول به في الكثير من الدول الديمقراطية التي تعتمد نسبة تستقر في الغالب عند 10 بالمئة. أما التخفيض من العتبة إلى أقل من 6 بالمائة، مثل الحديث في الحالة المغربية، عن 3 بالمائة كما اقترحت ذلك وزارة الداخلية مؤخرا، ورغم أنه سيساهم في إتاحة فرص أكبر لتمثيل بعض الأحزاب السياسية المتوسطة وبحظوظ أقل الأحزاب الصغيرة، فإن مثل هكذا إجراء سيساهم في التخفيض من منسوب العقلنة وسيساهم أكثر في البلقنة، بل إنه وبدل أن نمضي في مسار التوجه إلى بلورة أقطاب سياسية قوية وتحالفات حكومية متينة، سنكرس بالضرورة لانتكاسة على مستوى الفعل الحكومي والأداء البرلماني، إرباكا وتشتيتا وهشاشة، وهو ما لا يخدم المسار السياسي للبلاد، وسيفتح الباب للتراجع عن جملة من التراكمات الايجابية لما بعد عشرين فبراير. لذا فإنه ومن خلال ما سبق يتضح أن الحفاظ على نسبة 6 بالمائة الحالية هي الأقرب، هنا والآن، على تحصين المكتسبات الديمقراطية وعدم التمهيد لمسلسل من التراجعات التي ستعيدنا للوراء إن طبَّعنا معها وقبلنا بها، على أساس أن التوجه المستقبلي الذي يجب أن تدافع عنه الأحزاب السياسية الديمقراطية، أو التي هي في طريق الديمقراطية، هو رفع العتبة لعشرة بالمائة حتى تفرز الخريطة الانتخابية بشكل أكثر وضوحا، حتى يستطيع الشعب محاسبة الأحزاب وإلزامها بتطبيق برامجها الانتخابية، إذ أنه كلما تعددت الأحزاب المشكلة للحكومات، ضاعت مطالب الشعب وتوزعت بين قبائل البرامج الانتخابية للأحزاب المشكلة لها. وختاما، يجب الإشارة إلى أن مبرر وزارة الداخلية القائل بأن تخفيض العتبة من شأنه أن "يساهم في توسيع قاعدة التيارات السياسية الممثلة داخل مجلس النواب" (أفتح هنا القوس للإشارة أن الدقة في التعبير تقتضي الحديث عن "أحزاب سياسية" وليس "تيارات سياسية" كما ورد في المذكرة التقديمية للمشروع من طرف السيد وزير الداخلية)، فأعتقد أنه – أي مبرر الداخلية - مبرر تنقصه الحجة ومنطق الإقناع والاستدلال، لأن المطلوب من الدولة هو توفير الظروف المناسبة لتقوية الأحزاب السياسية أداء وفعالية، حتى تستطيع القيام بدورها في تأطير المواطنين وإقناعهم بضرورة المشاركة السياسية والانتخابية، والتصويت على مناضليها ومن تقدمهم كمترشحين، وليس رسم عتبات على المقاس لإشراك هذا الحزب أو ذاك لتأثيث المشهد البرلماني بأحزاب سياسية جديدة وفقط للقيام بدور الكومبارس. الديمقراطية .. فعل وسلوك ووعي وبناء وممارسة وتراكم، وليس منحة أو قطعة ثوب تخاط على المقاس. *دكتور في العلوم السياسية ومستشار برلماني عن حزب العدالة والتنمية