أمام الدول التي عرفت تغييرا جزئيا أو شاملا لنظامها السياسي تحديات كبيرة ، أولها السلم والأمن الاجتماعي ، وإثبات القدرة على المحافظة على العلاقات الدولية ، ورسم طريق جديد للتنمية. وتقوية المؤسسات وفصل سلطها ، ودعم جمعيات حقوق الإنسان الفعالة ، وإخراج آليات جديدة لتشجيع الاستثمارات الأجنبية ، ومضاعفة فرص الشغل، ومحاربة الفقر بترشيد إنفاق المال العام ورصده للقطاعات ذات المنفعة العامة والخاصة ، وإغلاق بؤر الفساد لفسح المجال للمحاسبة والعقاب ، وجعل القانون فوق الجميع . مغربنا الحبيب لن يكون استثناء ، ولن يكون متخلفا عن الركب ، وهو الذي دشن منذ مدة مسلسلات تغيير توُِجَتْ بمدونة المرأة ، وتمتع الأفراد والجماعات بحريات وحقوق غير مسبوقة في تاريخ المغرب ، وبحقوق فردية وجماعية محترمة غشت ميادين التعليم والصحة والشغل . وصحيح أن أحزابا وطنية منها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، والتقدم والاشتراكية لما كانت تشكل جناح المعارضة دافعت بقوة ، وواسْتُهْدِفت في مناضليها ، طالبت بالتغيير السياسي العميق ، وبتحسين حياة المواطنين، ومحاربة الفساد، وإلغاء الامتيازات الممنوحة ، ومحاربة الفوارق الاجتماعية ، وبإعادة توزيع الثروات . وصحيح أيضا أن شيئا من هذا قد تحقق ، فتحسنت أجور الموظفين ، ومنحت تسهيلات للولوج إلى السكن الاقتصادي، وكان هناك انفتاح على الحرية وحقوق الإنسان . نعم، لم يحقق كل مغربي أحلامه في ظل حكومة التناوب التوافقي ، نظرا لظروف اقتصادية وسياسية داخلية وخارجية ، ونظرا لدخول المغرب مبكرا في مسلسل التهيئة ، واستثماره العميق في الميدان الاجتماعي خصوصا في الأقاليم الجنوبية . نعم، مازال هناك فقراء ينتظرون تحسين أحوالهم ، ومعطلون مازالوا ينتظرون إنصافهم ، ومظلومون مازالوا ينتظرون استعادة حقوقهم ، ومهانون مازالوا ينتظرون احترامهم وتقديرهم من طرف كافة الإدارات الترابية . نعم، من المغاربة من ينتظر فرصة شغل ليبدأ رحلة الحياة هو وقرينته، ومن المغاربة من ينتظر فرصة مسكن ليتحرر من دور الكراء، ومن المغاربة من ينتظر تحسين أجرته ، وآخر يريد شراء سيارة ، وآخر يريد تحقيق مشروع ، وآخر يريد ترقية أو الحصول على مقعد في وزارة أو مجلس نواب، وآخر متذمر من غلاء المعيشة وآخر متذمر من ارتفاع فاتورة الماء والكهرباء ، وآخر تراكمت عليه الضرائب ، وآخر حصل شقاق بينه وبين زوجه ، وآخر متخاصم مع صديقته ، وآخر يبحث عن أي فرصة للتعبير عما في جعبته وهكذا (اهموم الناس شلا). فمحمد البوعزيزي حرق نفسه لأنه درس كي يتعلم وكي يحصل على شهادة، لكن بالشهادة لم يجن شيئا فراح يبيع الفاكهة في الساحات العامة لكي يكتسب ويعيل نفسه وأسرته ، ولكن يد الظلم لم تتركه ينسجم في النسيج الاجتماعي فطردته ، فطردت النار الذي حرقت جسمه البريء صاحب القصر الذي كان يحكم تونس بيد من حديد . شرارة تونس أشعلت النار كذلك في البيت المصري فرحل مبارك ، واشتعل البيت اليمني والليبي والبحريني والمغربي والجزائري . وأصبحنا نسمع عن ثورة 17 أو 15 أو 20 نوفمبر تاريخ خروج متظاهرين من الشباب، مغاربة يطالبون بالإصلاح والتغيير وعلى خطوات مطالب التونسيين والمصريين . فطالبوا بحل البرلمان واستقالة الحكومة، وإعادة صياغة الدستور، ومحاربة الفساد . وبات شعار الجميع " الحريات والكرامة " . وبما أنه لا تغيير دون فصل السلط ، بادر الملك محمد السادس في خطاب 9 مارس بدعوة كل الفاعلين إلى مناقشة صياغة دستور جديد ، يحقق التوازن السياسي والقانوني بين السلط ، ويدشن فترة جديدة من تاريخ المغرب نحو المزيد من الحريات والمسؤولية ، ويقطع بين الماضي والحاضر فيما يخص الفساد والتسيب والهذر للمال العام ، واستغلال النفوذ والامتيازات للوصول إلى المناصب ، ويحقق تكافؤ الفرص بين كافة أبناء الوطن. لكن من بين المتظاهرين الشباب رشح من يطالب بتحييد الملك تماما عن الحكم تحت شعار " الملك يسود ولا يحكم" وذلك بجعل رئيس الوزراء المسؤول الأول والأخير على كل ما يجري بالمغرب من إصلاح أو فساد. وعلى أن يبقى الملك مقدسا منزها عن كل شبهات وانتقادات ويبدو في أول وهلة أن الأمر قابل للتنفيذ في هذه المرحلة التاريخية الدقيقة ، والمشهد السياسي مضطرب محليا وجهويا ، والمغرب مازال يشهد تحديات أمام تحقيق وحدته الترابية . لكن بقراءة متأنية مقارنة بين مطالب المتظاهرين من جهة وبإمكانات الدولة المتاحة القابلة للتحويل ، تبدو الاستجابة لمطالب الشباب المتشددين شبه مستحيلة ، فالملك يلعب أكثر من دور على الواجهة الوطنية وكذلك في السياسة الخارجية ، فمن منا يستطيع نكران مكانة الملك المتميزة في المحافل الدولية ؟. فالمغرب ليس وليد الأمس ، فعبر قرون ، نجح في نسج علاقات دولية عميقة تساهم في حل العديد من المشاكل الداخلية والخارجية . ولهذا يبدو إقصاء الملك من الحياة السياسية مغامرة لن تأتي بقيمة مضافة للوطن ، بل ربما ستبطئ تقدمه فترة من الزمن ، المغرب في حاجة إليها لتخطي أزماته . أولئك المتشددون، الذين يحاولون ردم العلاقة التي تربط الملك بالشعب ، على خلفية أن الملك يتحكم في كل الروافد والمنافذ يمثلون " الشبكة" التي وصفت الغربال بأن عيونه كبيرة . فيما معناه أنهم يدعون أن كل المشاكل بالمغرب وراءها انفراد الملك بسدة الحكم . وهي فرضية لا يعلم تفاصيلها إلا الراسخون في العلم، والأمر لا يختلف كثيرا عما يردده الإنسان غدا ما أصابه أمر، فإن كان خيرا اطمأن به وحمد الله، وإن أصابه شيء مما قدمت يداه أبعد عن نفسه المسؤولية ، فقال " هو من عند الله " . فالمسؤولون يعلمون درجة احترام المغاربة للملك ، ولذلك يلعبون على هذا الحبل . ومن أجل ذلك يرغب من يحبون الملك وضع حد لهذه " اللعبة" ، كي يصبح سلوكا" ولا تزر وازرة وزر أخرى" ، وكلكم مسؤول " ، ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره". فكل من يعمل بالإدارات المغربية يعلم علم اليقين علاقة المدير مع من يدير . وبكلام بسيط لو كان الملك يتحكم في كل شيء وكل فرد-فرد ما وصلنا إلى هكذا مظاهرات ، ولكان كل وزير لا يقوم بواجبه يستغنى عنه ، ولكان كل إداري يسرق تجده في السجن، ولكان كل قاض لا يحكم إلا بما يرضي الله ، ويرضى عنه الملك . لكن الذي يجري في واقعنا هو عكس ذلك تماما . فالوزير يسير الوزارة بما يشتهي أو بما ينصح به مقربوه في العائلة أو الحزب الذي ينتمي إليه ، والإداري لا يدير شؤون المواطنين إلا بما توحي به ثقافته ولو كانت متعفنة، والقاضي لا يقضي بضميره إلا نادرا . مثال بسيط فقط ، حيث حكم القاضي للزوجة بالنفقة ، والرجل أقسم وأدلى بحجج أنه كان ينفق ، ولما سُئِلَ القاضي لماذا حكم للزوجة ، أجاب بأن المدونة توجب إعطاء الحق للزوجة وحمايتها. على فكرة : بعد الحكم طلق الزوج زوجته وهي أم لثلاثة أطفال ...وبهذا ساهم القاضي في تشتيت الأسرة عوض حمايتها من الضياع. إن من يقضي بين الناس هو القاضي وليس الملك ، وأن الذي يعطي الرخص والعقود والشهادات ويمنح الشغل ويساهم في تحسين الصحة ويمنح الترقيات والزيادات في الأجرة هي الإدارات وليس الملك، وأن الذي يختطف المواطنين ومن يسجنهم، ومن يهينهم ويستصغرهم هي الإدارات وليس الملك ، وأن من يستورد القوانين والمناهج التعليمية هي الإدارات وليس الملك . ويظهر من هذا أن "المواطن " الشبْكَة" يبعد عنه " النقص والتقصير" ويلصقها بالملك . ، الواقع والمعاش يثبت أن من وراء العديد من الإخفاقات والكثير من التظلمات والكثير من الانتكاسات هو المواطن نفسه إزاء مواطن مثله. فعندما يريد المواطن أن يحصل على عقد ازدياد – وهو أمر بسيط - يمكث الساعات الطوال في انتظار رئيس الإدارة أو القسم تحت حجة أن هذا أو ذاك في اجتماع أو غائب . ولا نظن أن الأمر هنا متعلق بسياسة الملك . وعندما يزور المواطن مخفر الشرطة ثم لا يُطلب منه حتى الجلوس احتراما له ، بل ينكل به وحتى يندم على قدومه للمخفر ، أهو الملك المسؤول أم الشخص الذي أصبح يعتبر الإدارة ملكا له وهو الملك ؟؟؟ وعندما يريد المواطن تحفيظ منزله أو تسجيل أرضه فترفض الإدارة طلبه بينما تقبل طلب آخر بموجب محسوبية أو رشوة أو استغلال نفوذ ، أهو الملك الذي رفض ؟؟؟ فلو كان أي من الإدارات تضع نصب أعينها مكانة الملك ، وتعلم أنها ستحاسب على سوء الإدارة ما فسدت إدارتنا.. من أجل ذلك ، الذي يجب أن يتغير هو ما بداخل المغاربة من أمراض اجتماعية وأفكار بائدة ، تحول كل من يعمل مع المخزن إلى مفترس وكل مواطن إلى خروف . والذي يجب أن يتغير هو أنه عوض أن توضع الإدارة رهن إشارة الإداري ، توضع الإدارة والإداري رهن إشارة المواطن. و أن الذي يجب أن يتغير هو ألا يبقى المواطن منعزلا يعتبر الإدارة غريبة عنه ، بل عليه المساهمة في تحسينها بفضح كل فاسد ، وكل متهاون، وكل متكبر. والذي يجب أن يتغير هو ، أن يدرك كل مغربي أنه فرد من هذا الوطن فقط ، وأنه لا فرق بين المواطنين، فتراتبية السلطة لا تمنح الحصانة لأحد، فيما يخص الإجرام في حق المواطن وفي حق المواطن . قالت الشبكة للغربال " عيونك اكبار" وقال المتشددون من المتظاهرين " للملك " تَحَكمُّك في خيوط اللعبة السياسة قوي ، وأنت من يقف حجرة عثراء وراء تقدمنا وكرامتنا. فهل الملك فعلا يتحكم في الصغيرة والكبيرة ، أم هم المسؤولون عن حياتنا اليومية؟؟؟ فتغيير الدستور لن يؤتي أكله ما لم يرافق بتغيير عملي، يلمسه المواطن العادي جدا ، أثناء معاملاته في كل الإدارات الجهوية ،من أمن محلي، ومستشفيات ومؤسسات تعليمية ،وإدارات المقاولات ومؤسسات التشغيل وغيرها ، نتيجة للجهود التي يقوم بها كل العاملين بالسلط التنفيذية والتشريعية والقضائية . حينها سيبدو دور الملك فعلا دورا ثانويا فيما يخص الشؤون الداخلية الوطنية ، وسيبقى دوره فيما يخص السياسة الخارجية ضروريا، نظرا للمكانة الشخصية التي يتمتع بها الملك داخل الدوائر الدولية . وإذا كانت هناك من انتقادات يجب توجيهها ، فيجب أن توجه إلى كل الإدارات الوطنية التي تقوم أحيانا " بشبه سابوطاج" من أجل الحصول على مصالح . لا أحد ينكر أن هناك فساد مالي داخل أي إدارة إدارة .ولا أحد يستطيع أن ينكر أن هناك تزوير يومي للتقارير الإدارية والتي لا تصف المرض ولا الواقع . ولا أحد ينكر أن للمواطن دور في الفساد والإصلاح ل وهذا لا يمكن إغفاله والتغاضي عنه. فحينما يتوجه المواطن -الذي لا حيلة له - إلى الإدارة المغربية يعامل وكأنه غير مغربي . بل إن تصرفات بعض الإداريين الرعناء ، والذين ليسوا إلا مواطنين ، تجعل روادها يجحدون بالوطن . فهل في ظل هذا هل سيكون الدستور العصا السحري الذي سيغير كل شيء إلى الأحسن ؟؟ أم الأمر سيتوقف على من سيترجم ذلك الدستور إلى مواقف ستقطع يد المفسدين الفاسدين ،وستطهر الإدارات الخاصة والعامة من كل الأمراض ، وتؤسس لثقافة مغربية تجعل القانون "تصرفات "طبيعية للحاكمين والمحكومين . فمرحلة " العام زين" والحبة والبارود من دار المخزن" يجب أن تنهي فعلا ، كي تحول أموال الخزينة العامة للتنمية المستدامة ولمساعدة الذين هم في مأزق اجتماعي ، وللبحوث العلمية ، وللاستثمار في الإنسان المغربي كثروة لا يمكن التلاعب بها ، وإدخالها في حسابات ضيقة محدودة النتائج. ولكي يبقى المغرب سفينة يجب تحصينها، وتجنيبها وجهة العواصف المدمرة والأمواج العاتية. يجب أن يكون الولاء للوطن فقط ، لكن بمعية تقدير جهود الرموز الوطنية التي قدمت الكثير لهذا الوطن ، والذين يجب احترامهم وإنزالهم المنزلة التي يستحقونها ، دون التفريط في المطالبة والحرص على أن يكون هدف كل حراك هو تحقيق قيمة مضافة لهذا الوطن وليس تعريضه لنكسات وأزمات هو في غنى عنها. لقد كان خطاب الملك محمد السادس واضحا ، حينما دعا كافة الفاعلين للحسم في منح المغاربة دستورا يحقق أمال المغاربة ومطالبهم الملحة في حسن التسيير والتدبير للشؤون العامة ، ووضع حد للفساد، من أجل العدل بين العباد، وتحصين المغاربة من كل أشكال الانحراف، وجعل المغربي مشاركا في التنمية ومستفيدا من الثروة، ومراقبا فطنا، ومحاسبا عدلا ،حاميا للمال العام، وحصنا حصينا للمملكة "بيت "المغاربة قاطبة ، بكل انتماءاتهم واختلافاتهم .